47/04/21
الدرس (مائتان وسبعة وأربعون): الصورة الثالثة لوجوب التعلم في المقدمات المفوّتة
الموضوع: الدرس (مائتان وسبعة وأربعون): الصورة الثالثة لوجوب التعلم في المقدمات المفوّتة
[وجوب التعلم في المقدمات المفوّتة: دراسة أصولية تطبيقية في صور الشك والتنجّز]
[الصورة الثالثة: احتمال التكليف دون يقين فعلي أو استقبالي]
[بيان الفرق بين الصور الثلاث الأولى]
أن يُفرَض أن المكلف يحتمل وجود تكليف فعلي بالنسبة إليه، وهذا هو الفارق بين الصورة الثالثة والصورة الأولى والثانية، ففي الصورتين الأولتين يقطع ويتيقن بوجود تكليف فعلي، أما في الصورة الأولى فإنه يتيقن بوجود تكليف فعلي الآن، وأما في الصورة الثانية فإنه يتيقن ويقطع بتحقق تكليف في المستقبل وسيصبح فعلياً في حقه، وأما الصورة الثالثة فلا يوجد فيها يقين لا الآن ولا المستقبل، وإنما يحتمل فعلية التكليف في حقه في المستقبل.
[مثال تطبيقي على الصورة الثالثة]
مثال ذلك: لو فُرِض أن هذا الشخص يعلم أنه مستطيع لكن لا يدري هل يجب الحج على المستطيع أو لا؟ فهنا لا شك في الصغرى إذ يتيقن بالموضوع وهو تحقق الاستطاعة، لكنه يشك في الكبرى: هل يجب الحج على المستطيع أو لا؟ إذاً الصورة الأولى عنده علم بالصغرى والكبرى، لكن في الصورة الثالثة عنده علم بالصغرى أي تحقق الموضوع، وشك في الكبرى، فهذه شبهة حكمية: اشتباه في الحكم، وهذه عبارة عن شبهة حكمية قبل الفحص.
[حكم الشبهة الحكمية قبل الفحص ووجوب التعلم]
ومن الواضح أن الاحتمال قبل الفحص في الشبهة الحكمية يوجب التنجُّز فيجب عليه التعلم، لأن هذا الاحتمال منجِّز، إذ أن الأصول المؤمِّنة كأصالة البراءة إنما تجري بعد الفحص، ولا تجري الأصول المؤمِّنة قبل الفحص، فالشك في التكليف واحتمال التكليف منجِّزٌ قبل الفحص، فيكون احتمال وجوب الحج قبل الفحص بمثابة العلم بوجوب الحج.
[التخيير بين التعلم والاحتياط وارتباطه بالتعلم]
وهنا يكون بين خيارين: إما أن يتعلم وإما أن يحتاط، فإن اختار أن يتعلم وأن يفحص عن أصل الوجوب فنِعْم الاختيار التعلم جيد، وإن اختار أنه لن يفحص بل أراد الاحتياط فهذا طريق النجاة، لكن الاحتياط أيضاً يحتاج إلى تعلم، إذ كيف يعرف موارد الاحتياط من دون علم؟!
إذاً نفس احتمال التكليف أو الشك في التكليف منجِّزٌ ولا بد من التعلم، ويجب التعلم سواء اختار أن يتعلم أو اختار أن يحتاط، لأنه لن يعرف موارد الاحتياط الصحيح إلا بالتعلم.
إذاً الصورة الثالثة يجب فيها التعلم.
[مقارنة ختامية بين الصور الثلاث الأولى]
إلى هنا اتضح أنه في الصورة الأولى والثانية في فرضَيْهِما الأول والثاني يجب التعلم، وفي الفرض الثالث للصورة الأولى والثانية يمكن يحتاط ويمكن يتعلم، الصورة الثالثة يجب ماذا؟ أن يتعلم.
[الصورة الرابعة: الشك في تحقق الموضوع (الاستطاعة)]
الصورة الرابعة: أن يُفرَض أن هذا الشخص يشك في وجود الصغرى بالنسبة إليه، فهو لا يدري أنه مستطيع أو غير مستطيع، سواء علم بوجوب الحج أو لم يعلم بوجوب الحج، فعنده شك في الكبرى وفي الصغرى: هل يجب الحج على المستطيع أو لا يجب؟ لا يدري، ما يعرف الحكم، وثانياً: هل هو مستطيع بالفعل أو لا؟ أيضاً لا يدري.
[إجراء الاستصحاب في الشبهة الموضوعية ونفي وجوب التعلم]
فهذه شبهة موضوعية فيجري فيها استصحاب عدم كونه مستطيعاً، إذ الأصل عدم الاستطاعة. فكان على يقين سابق من عدم استطاعته ثم شك في تحقق الاستطاعة فيجري الاستصحاب: لا تنقض اليقين بالشك، يستصحب عدم الاستطاعة، كان على يقين من عدم تحقق الموضوع وشك في تحققه، يستصحب عدم تحقق الموضوع، فيجري استصحاب عدم كونه مستطيعاً.
وبذلك يُؤمَّن عدم وجوب الحج على المستطيع، وبالتالي لا يجب عليه التعلم حينئذ؛ لأن وجوب التعلم إنما هو بلحاظ ابتلائه بالحكم، إنما يجب عليه أن يتعلم بلحاظ ابتلائه بوجوب الحج، فإذا جرى الاستصحاب ونفى وجوب الحج نظراً لنفيه الاستطاعة انتفى قهراً وجوب التعلم.
إذاً ببركة استصحاب عدم الاستطاعة ننفي وجوب التعلم.
[الصورة الخامسة: احتمال الاستطاعة في المستقبل]
الصورة الخامسة والأخيرة: أن يُفرَض احتمال استطاعته فيما بعد، لا أنه يشك في أنه مستطيع فعلاً، وهذا هو الفارق بين الصورة الرابعة والصورة الخامسة، إذ في الصورة الرابعة يشك الآن وفعلاً أنه مستطيع أو لا؟ بينما في الصورة الخامسة يشك في المستقبل، يحتمل في المستقبل: أنه سيصبح مستطيعاً بالفعل أو لا؟
ومن هنا يُقال: هل مجرد احتمال استطاعته فيما بعد ينجِّز عليه تعلم أحكام الحج أو لا؟
[إجراء الاستصحاب الاستقبالي ونفي وجوب التعلم]
قد يُتمسَّك هنا أيضاً بالاستصحاب الذي تُمسِّك به في الصورة الرابعة، فيُقال: كان على يقينٍ من عدم استطاعته ويشك في تحقق استطاعته في المستقبل فيجرى الاستصحاب: لا تنقض اليقين بالشك، فيستصحب عدم الابتلاء الاستقبالي بالاستطاعة وعدم تحقق الاستطاعة بالنسبة إليه، إذ أن الاستصحاب كما يجري بلحاظ الأمور الماضية يجري أيضاً بلحاظ الأمور الاستقبالية، فيجري في حقه استصحاب عدم الابتلاء في المستقبل.
إذاً الفارق بين الصورة الرابعة والصورة الخامسة أنه في الصورة الرابعة نستصحب عدم تحقق الاستطاعة فعلاً، بينما في الصورة الخامسة نستصحب عدم الاستطاعة استقبالاً.
[الإشكال الأول على الاستصحاب الاستقبالي: السيد الخوئي]
الإشكال الأول:
وقد أُشكِل على إجراء الاستصحاب بلحاظ المستقبل بعدة إشكالات، منها الإشكال الأول الذي ذكره الخوئي رحمه الله، يُراجَع[1] .
ومفاد الإشكال: إن مورد هذا الاستصحاب يشكِّل طرفاً لعلمٍ إجمالي دائم، والعلم الإجمالي منجّز، فلا يجري الاستصحاب.
[بيان العلم الإجمالي وتعارض الاستصحابات]
بيان ذلك: إن الإنسان وإن كان لا يعلم بأنه سوف يستطيع في المستقبل بالخصوص، لكن يعلم إجمالاً بأنه في المستقبل ستحصل له أمور وستحدث وقائع من قبيل أن يحصل على نصاب زكوي أو يحصل على مال وفائدة يثبت فيها الخُمس أو يحصل على مبلغ الاستطاعة، فهو يعلم إجمالاً أنه في المستقبل سيحصل على مال، هذا المال إما يحقق الاستطاعة للحج أو النصاب الزكوي أو الفائدة التي يجب فيها إخراج الخُمس.
إذاً هو يعلم إجمالاً بتحقق بعض الوقائع له التي يثبت لها أحكام، وهذه الأحكام كالخُمس والحج والزكاة إذا لم يتعلمها الآن من باب استصحاب عدم ابتلائه بتمام هذه الأطراف، فإنه حينئذ سوف يبتلي بالمخالفة القطعية في جملة من تلك الأحكام.
إذاً صحيح الواقعة المخصوصة وهي خصوص الاستطاعة للحج مشكوكة الآن ومشكوكة الابتلاء في المستقبل، لكن يوجد علمٌ إجمالي بالابتلاء في جملة منها، يعني هو يعلم إجمالاً أنه في المستقبل مثلاً افترض داخل تجارة وهذه التجارة ستُدخِل له فلوس تغير النفوس، وهذه الفلوس إما تصل إلى قدر الاستطاعة فيجب عليه الحج، أو فائدة وربح لم يستعمله خلال سنة فيجب فيه الخُمس، أو مال يثبت فيه الزكاة، فهو يعلم إجمالاً أنه في المستقبل سيبتلى إما بالحج أو الزكاة أو الخُمس، وأنه إذا لم يتعلم الآن أحكام الخُمس والزكاة والحج سيفوته الواجب، إذاً هذا العلم الإجمالي منجّزٌ ويوجب تعارض الاستصحابات، يعني استصحاب عدم الاستطاعة يعارض استصحاب عدم وجوب الخُمس يعارض استصحاب عدم وجوب الزكاة، ومع تعارض الاستصحابات يكون العلم الإجمالي منجّزاً، تصير النتيجة: يجب عليه أن يتعلم من الآن.
[إعادة الإشكال بصيغة موجزة]
أُعيد الإشكال بشكل موجز حتى نجيب عليه:
السيد الخوئي رحمه الله يقول: لا يمكن استصحاب عدم الاستطاعة بلحاظ المستقبل لأن هذا الاستصحاب معارض بعدة استصحابات توجب منجّزية العلم الإجمالي، إذ أنه يعلم إجمالاً أنه في المستقبل سيبتلى إما بالخمس أو الزكاة أو الحج، فيحصل تعارض بين استصحاب عدم الزكاة واستصحاب عدم الحج واستصحاب عدم الخمس، فيتنجز العلم الإجمالي، فيجب عليه أن يتعلم أحكام الحج والخُمس والزكاة حتى لا تفوته إذا وجبت عليه في المستقبل، واضح الإشكال؟
[الجواب الأول للشهيد الصدر: انحلال العلم الإجمالي الكبير]
والجواب:
وقد أجاب عن هذا الإشكال الشهيد الصدر بأمرين:
الأول: دعوى انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير أو العلم التفصيلي، فالإنسان كثيراً ما يعرف الوقائع القريبة الوقوع بالنسبة له بلحاظ مناسباته وظروفه، إذا مثلاً هو تاجر أو هو فقير أو هو مسؤول، عادةً عادةً يتوقع المستقبل القريب: أنه يأتي مال بقدر الحج أو يأتي مال بقدر الخُمس أو يأتي مال بقدر الزكاة، فالإنسان غالباً يعلم أو يحتمل الوقائع التي ستحصل له، لا أقل يمكن أن يعلم أو يتوقع الوقائع القريبة في المستقبل دون الوقائع البعيدة، أنه بعد عشرين سنة يموت واحد ويعطيه ورثته، أو هذا ما يتوقعه، ولكن بلحاظ عمله وأرباحه يتوقع الوقائع القريبة.
فمثلاً: العلم الإجمالي بأنه سوف يحصل له وقائع بالجملة في المستقبل، هذا العلم الإجمالي الكبير سوف ينحل في كثير من الأحيان إما بعلم تفصيلي: يعرف أنه في التاريخ الفلاني عنده صفقة أو عنده مبلغ سيصله، هذا العلم التفصيلي يحلّ العلم الإجمالي الكبير، أو علم إجمالي صغير، فيحصل للإنسان في دائرة أصغر وأضيق وألصق بحياته وظروفه وشؤونه، يحصل له دائرة علم يكون المعلوم فيها يساوي معلومه في العلم الإجمالي الكبير بحيث يحلّ العلم الإجمالي الصغير ذاك العلم الإجمالي الكبير، فتجري البراءة عن الاحتمالات الزائدة، يعني يتنجز خصوص العلم الإجمالي الصغير وتجري البراءة عن الاحتمالات الزائدة عن العلم الإجمالي الصغير والموجودة في العلم الإجمالي الكبير، فيكون الخارج عن دائرة العلم الإجمالي الصغير شبهة بدوية.
النتيجة: انحلَّ العلم الإجمالي الكبير ولا تعارض في الاستصحابات، فيجري استصحاب عدم تحقق الاستطاعة مستقبلاً، واضح إن شاء الله؟
[الطالب:] لا يجب التعلم.
نعم، لا يجب التعلم، لا يجب التعلم.
أصلاً هذا مشكلة، يعني هاي، أغلب الناس بعد يصيرون علماء، يروحون يدرسون أحكام الخُمس والزكاة والحج وكذا، لأنهم يعلمون إجمالاً أنه في المستقبل قد يبتلون بمالٍ يوجب ذلك.
الجواب الثاني للشهيد الصدر، يُراجَع[2] .
[الجواب الثاني للشهيد الصدر: عدم تعارض الاستصحابات رغم وجود العلم الإجمالي]
الثاني:
لو افترضنا وجود علم إجمالي كبير وعدم انحلاله بعلم إجمالي صغير أو تفصيلي، وعلى الرغم من ذلك نقول: لا تتعارض الاستصحابات في الأطراف، لأنه يُراد بالاستصحاب نفي وجوب التعلم، أي أنه لا يجب على المكلف أن يتعلم أحكام الحج ببركة استصحاب عدم تحقق الاستطاعة مستقبلاً، هذا هو الغرض من إجراء الاستصحاب: نفي وجوب تعلم أحكام الحج.
ومن هنا نقول: العلم الإجمالي الكبير موجود، ورغم ذلك ولا يوجد انحلال، ورغم ذلك لا تتعارض الأصول والاستصحابان في الأطراف، لأنه إنما يراد بالاستصحاب نفي وجوب التعلم، فإذا كان يمكن أن يُفرَض أن بقية الأطراف غير مبتلاة بهذه المشكلة، فحينئذ يكون التعلم بالنسبة إليها ممكناً في ظرفها، إذ الوقائع التي يمكن تعلم حكمها في ظرفها لا أثر عملي لإجراء استصحاب العدم فيها، لأن المطلوب من استصحاب عدم الابتلاء إنما هو التأمين من ناحية عدم وجوب التعلم فعلاً، والوقائع التي يتسع وقتها لتعلمها في حينها لا يجب تعلمها فعلاً على أي حال، سواء ابتُلي بها أو لم يُبتَل بها.
خلاصة الجواب: نحن نستصحب عدم الاستطاعة لإثبات عدم وجوب التعلم، لأنه لو ثبت الحج في المستقبل لاحتاج إلى ماذا؟ إلى التعلم مسبقاً، لكن البقية مثل الخُمس مثل الزكاة لو وجبت عليه لاستطاع أن يتعلم في ظرف وجوبها، ما يحتاج إلى تعلم مسبق، ما يحتاج إلى تعلم مسبق بالنسبة إلى الحج، ولا يحتاج إلى تعلم مسبق بالنسبة إلى الزكاة، بخلاف الحج، الحج يحتاج إلى ماذا؟ إلى تعلم مسبق، إذاً ما تحصل معارضة أبداً، ما تحصل معارضة، وبالتالي استصحاب عدم الابتلاء لا يكون جارياً في جميع الوقائع، لكي تقع المعارضة بين الاستصحابات.
استصحاب عدم الابتلاء إنما يكون في خصوص الاستطاعة، أما بالنسبة إلى الزكاة وبالنسبة إلى الخُمس وغير ذلك ما نحتاج إلى إجراء الاستصحاب، لماذا أنت تجري الاستصحاب؟ حتى تنفي وجوب ماذا؟ التعلم.
يا أخي، هو لو ابتُلي بوجوب الخُمس يمكن يتعلم في نفس وقت الوجوب، ولو ابتُلي بوجوب الزكاة يمكن أن يتعلم في ظرف وجوب الزكاة، ولا نوجب عليه التعلم قبل وجوب الزكاة وقبل وجوب الحج، يمكن يتعلم في ظرف وجوب الزكاة وفي ظرف وجوب الخُمس.
[خلاصة الجواب الثاني: اختصاص الاستصحاب بالحج دون سائر الأحكام]
بالتالي فقط استصحاب عدم الاستطاعة هذا الذي يفيدنا، لماذا؟ لأنه بالنسبة إلى الحج يحتاج يتعلم قبل، يعني الآن، الآن في ظرفه الآن إذا احتمل الاستطاعة في المستقبل يمكن أن يجري الاستصحاب بلحاظ عدم الاستطاعة، ولا حاجة له إلى إجراء الاستصحاب بلحاظ وجوب الزكاة وبلحاظ وجوب الخُمس، فلا تحصل معارضة، وبالتالي العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً بالنسبة إليه، يجري استصحاب واحد ولا يُعارَض باستصحابات متعددة.
هذا تمام الكلام في جواب الإشكال الأول للسيد الخوئي.
الإشكال الثاني للميرزا النائيني يأتي عليه الكلام.