47/04/20
المضوع: الدرس (مائتان وستة وأربعون): التنبيه الثاني وجوب التعلم
[وجوب التعلم في ضوء قاعدة المقدمات المفوّتة: دراسة تحليلية في صور التكليف وأحكامه]
تطرقنا إلى التنبيه الأول من المقدمات المفوَّتة وهو لإثبات أصل وجوب المقدمات المفوَّتة.
التنبيه الثاني
نقول: إنه بعد أن تبيَّن وجوب المقدمات المفوَّتة، يجري البحث في التعلم، فقد يكون التعلم أحياناً من المقدمات المفوَّتة فيشمله البحث، هل يجب التعلم أو لا؟ وتفصيل الكلام في صور خمس:
[التعلم كمقدمة مفوّتة: صور وأحكام]
[الصورة الأولى: العلم بالتكليف الفعلي مع الجهل بالأجزاء والشرائط]
الصورة الأولى: أن يكون المكلف عالماً بتكليف فعلي ثابت عليه، لكنه لا يعرف أحكام هذا الواجب من أجزاء وشرائط، فهو يعرف أن الصلاة والصوم والحج من الواجبات عليه فعلاً وفي ذمته، لكنه لا يدري ما هي أجزاء وشرائط الصلاة؟، ما هي أجزاء وشرائط الحج؟، وغير ذلك.
إذاً في الصورة الأولى يفرض أن المكلف عالم بتكليف فعلي تام كبرى وصغرى، يعني أصل الحكم وموضوع الحكم فعلي، فهو يعلم أن الحكم ثابت عليه فعلاً الآن، كما لو علم أنه مستطيع وأن الحج قد وجب عليه فعلاً الآن، لكنه لا يعرف شيئاً من مناسك الحج، أو يعلم بوجوب صلاة الظهر عليه، لكنه لا يعرف أجزاء وشرائط الصلاة.
إذاً الصورة الأولى مفادها: يعلم الكبرى والصغرى فعلاً يعني ثبوت الحكم وثبوت موضوعه فعلاً، لكنه لا يعرف أجزاء وشرائط الحكم.
هنا توجد ثلاثة فروض:
[الفرض الأول من الصورة الأولى: التعلم كمقدمة وجودية]
الفرض الأول: أن يكون أصل الإتيان بالواجب متوقفاً على التعلم، بحيث إذا لم يتمكن من التعلم لا يتمكن من الإتيان بأصل الواجب، فلا يمكنه الإتيان بأصل الواجب إلا بعد التعلم.
مثال ذلك: لو لم يتقن قراءة سورة الفاتحة ولم يتقن قراءة أي سورة من سور القرآن، فكيف يصلي؟ فهنا في الفرض الأول من الصورة الأولى يجب عليه التعلم، ويكون التعلم مقدمة وجودية، أي أن تعلم قراءة الفاتحة وسورة مقدمة يتوقف عليها أصل وجود الواجب وهو الصلاة.
فهذا الفرض الأول من الصورة الأولى من أبرز مصاديق وجوب المقدمات المفوَّتة، لأنه لو لم يتعلم قراءة الحمد والسورة لم يستطع أن يصلي، وإذا دخل وقت الصلاة وانتهى ما استطاع أن يصلي، يجب عليه أن يتعلم.
[الفرض الثاني من الصورة الأولى: التعلم كمقدمة علمية]
الفرض الثاني: أن يفرض أن ذات الواجب قد يصدر منه بلا تعلم ولو صدفة، كما لو كان الواجب مردداً بين أمور متعددة.
مثال ذلك: من يعلم أنه يجب عليه الإحرام للحج، لكن من أي نقطة يُحرِم؟ هو لا يعلم، يعرف أن هناك مواقيت للإحرام: ميقات لأهل اليمن وميقات لأهل الشام، لكن لا يعرف النقطة الفلانية من الميقات. فهنا قد يذهب إلى محرَم ويُحرِم ويصير حجه صحيح، لكنه لا يعرف نقاط الإحرام ومواقيت الإحرام بالتفصيل، فهو قادر على أن يأتي بواحد منها بمفردها، وقد يصدق عليه أنه قد جاء بالواجب، فيكون إحراز الواجب بالجمع بين أطراف الشبهة المحصورة.
في هذه الحالة يكون التعلم مقدمة علمية للواجب وليس مقدمة وجودية، لأن الواجب قد يوجد لو أحرَم صدفة من مكان واتفق أن هذا المكان هو إحرام.
إذاً يتنجز عليه التعلم ويجب عليه التعلم لا لأن التعلم مقدمة وجودية كما في الفرض الأول، بل لأن التعلم مقدمة علمية، فيجب تحصيل الموافقة القطعية ولا تكفي الموافقة الاحتمالية، لأنه لو جاء بأي شيء يحتمل أنه وافق الواقع ويحتمل أنه خالف الواقع، فتجب الموافقة القطعية ولا تحصل الموافقة القطعية إلا بالتعلم، تحصيلاً لحكم العقل بوجوب الموافقة القطعية.
إذاً الفرض الثاني كالفرض الأول يجب التعلم، لكن الفرض الأول التعلم مقدمة وجودية، والفرض الثاني التعلم مقدمة علمية.
[الفرض الثالث من الصورة الأولى: عدم وجوب التعلم مع إمكان الاحتياط]
الفرض الثالث: أن يكون التعلم غير متوقف عليه لا أصل الواجب ولا إحراز الواجب، كما لو كان الاحتياط ممكناً من دون أن يتعلم.
مثال ذلك: لو شك أنه يجب عليه القصر أو التمام، وما يعرف الحكم، وأمكنه الجمع بأن صلى أربعاً واثنتين، فحينئذ يكفي الاحتياط ولا يجب عليه التعلم.
إذاً بناءً على أن الامتثال الإجمالي ليس في طول الامتثال التفصيلي بل في عرضه، يكون مخيّر: إما يمتثل تفصيلاً فيجب عليه أن يتعلم، وإما يمتثل إجمالاً فيحتاط ولا يحتاج أن يتعلم.
[خلاصة الصورة الأولى]
إلى هنا اتضح أنه في الصورة الأولى إذا علم فعلاً بتوجه تكليف عليه، فإنه يجب التعلم عليه في الفرض الأول والفرض الثاني، وأما في الفرض الثالث هو مخيَّر بين التعلم وبين الاحتياط.
[الصورة الثانية: العلم بالتكليف المستقبلي مع احتمال فوات التعلم]
الصورة الثانية: أن يعلم بتكليف سوف يكون فعلياً عليه في المستقبل، لكن عند صيرورته فعلياً في المستقبل تفوته فرصة تعلم أحكامه، فهل يجب عليه أن يتعلم قبل الوقت أو لا؟
[التمييز بين الصورة الأولى والثانية في وجوب التعلم]
والفارق بين الصورة الأولى والصورة الثانية أنه في الصورة الأولى يعلم بوجوب التكليف الفعلي الآن لكنه يجهل الأجزاء والشرائط، بينما في الصورة الثانية هو الآن غير مكلف فعلاً لكن يعلم أنه في المستقبل سيحصل التكليف الفعلي.
مثال ذلك: لو علم أنه الآن غير مستطيع، لكن في المستقبل بتطلع ورثته وبصير مستطيع، ويعلم أنه إذا ما تعلم الآن مناسك الحج لن يستطيع أن يؤدي مناسك الحج إذا وجب عليه الحج في وقته، فهنا هل يجب عليه التعلم أو لا؟
هنا أيضاً توجد ثلاثة فروض، إذاً الصورة الأولى فيها ثلاثة فروض والصورة الثانية أيضاً فيها ثلاثة فروض:
[الفرض الأول من الصورة الثانية: التعلم كمقدمة لوجود الواجب]
الفرض الأول: أن يفرض أن إتيان الحج في وقته يتوقف على تعلم مناسك الحج قبل الاستطاعة، نظراً لعدم توفر المناسك وعدم استطاعته للتعلم إذا تحققت الاستطاعة، ومن دون التعلم لا يمكنه أن يأتي بأصل الحج.
إذاً أصل الحج متوقف على التعلم، فيجب التعلم، فيدخل تعلم المناسك في المقدمات المفوَّتة، يصير حال وجوب التعلم في الفرض الأول من الصورة الثانية حال وجوب غسل الجنابة، إذا لم يغتسل يفوته صوم، الصوم عند طلوع الفجر. هنا أيضاً إذا لم يتعلم تفوته مناسك الحج عند تحقق الاستطاعة ومجيء وقت الحج، فهنا هذا مصداق واضح وبارز لوجوب المقدمات المفوَّتة، يجب التعلم.
[الفرض الثاني من الصورة الأولى: التعلم كمقدمة علمية]
الفرض الثاني: أن يفرض أن المكلف بعد الاستطاعة لم يتمكن من التفقه بمناسك الحج، لكن ليس أصل الحج متوقفاً على التعلم، وإنما المتوقف على التعلم هو إحراز صحة الحج، يعني هو يمكن أن يذهب مع القافلة إلى الحج، لكن إحراز صحة الحج تتوقف على التعلم.
مثال ذلك: لو كانت التلبية الصحيحة التي توجب الدخول في الإحرام مرددة بين خمس صيغ، واحدة منها صحيحة وأربعة منها باطلة، فهنا كيف يُحرِز صحة تلبيته وصحة إحرامه وصحة حجه من دون التعلم؟
إذاً في الفرض الثاني من الصورة الثانية، يكون إحراز صدور الحج الصحيح منه متوقفاً على التعلم، لا أصل صدور الحج. وفي هذا المثال أيضاً يدخل في بحث المقدمات المفوّتة، نظراً لأنه لو لم يتعلم التلبية الصحيحة قبل الاستطاعة وكان ما يستطيع أن يأتي بالتلبية الصحيحة عند الإتيان بالحج، وأهمل التعلم إلى حين الاستطاعة، فهذا ماذا؟ لا يكون عاجزاً عند الاستطاعة بل هو قادر على الحج، لكنه عجَّز نفسه باختياره.
وبالتالي يجب عليه أن يأتي وأن يتعلم.
[الاستدلال العقلي على وجوب التعلم قبل الاستطاعة]
وهذا الإلزام بالتعلم قبل الاستطاعة نتيجة مقدمتين:
المقدمة الأولى: وجوب تحصيل الموافقة القطعية التي يحكم بها العقل.
المقدمة الثانية: إن التفويت بالاختيار لا ينافي الاختيار.
فإذا انضم هذين الأمرين:
أولاً حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية.
وثانياً إذا فوَّت التعلم باختياره
فهذا معنى أنه فوَّت الحج باختياره فيصير عاصي، فهذا المكلف لو ترك التعلم قبل الاستطاعة ثم استطاع فسيكون مضطراً إلى ترك الموافقة القطعية باختياره، وهذا قبيح عقلاً، أي أنه لا يجوز له الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية بل يحكم العقل بوجوب الموافقة القطعية، فهذا من الامتناع بالاختيار، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، فيحكم عليه بلزوم التعلم حتى لا يصدق عليه التفويت الاختياري للموافقة القطعية.
[تمييز منهجي بين الفرض الثاني من الصورتين الأولى والثانية]
وهذا هو الفارق بين الفرض الثاني من الصورة الثانية وبين الفرض الثاني من الصورة الأولى، إذ في الصورة الثانية نحتاج إلى ضم هاتين المقدمتين:
أولاً حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية.
والمقدمة الثانية إن التفويت بالاختيار لا ينافي الاختيار.
ضم هاتين المقدمتين لا نحتاج إليه في الفرض الثاني من الصورة الأولى.
[الفرض الثالث من الصورة الثانية: عدم وجوب التعلم مع إمكان التعلم أو الاحتياط بعد الاستطاعة]
الفرض الثالث والأخير من الصورة الثانية: إن المكلف لو ترك التعلم قبل الاستطاعة لم يفته شيء، إذ يمكنه أن يتعلم بعد الاستطاعة أو أن يحتاط بعد الاستطاعة.
مثلاً: هل التظليل الجانبي محرَّم على المحرِم أو لا؟ يوجد تظليل عمودي فوق الرأس ويوجد ظل جانبي ظل حائط مثلاً، الفقهاء يختلفون، بعضهم يرى التظليل الجانبي وبعضهم يرى أن التظليل الجانبي لا يضر، هو ما يعرف رأي مرجع تقليده، يقول: يا أخي ما يحتاج أعرف، أنا راح أحتاط وأتجنب التظليل الجانبي.
ففي الفرض الثالث من الصورة الثالثة، لا إشكال في عدم وجوب التعلم، بل هو مخيَّر بين التعلم وبين الاحتياط.
[خاتمة الدرس]
هذا تمام الكلام في الصور الأولى والثانية، يبقى الكلام في الصورة الثالثة والرابعة والخامسة، نتركه للدرس القادم إن شاء الله.