« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

47/04/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائتان وخمسة وأربعون): تحقيق الجواب السادس على مشكلة المقدمات المفوتة

الموضوع: الدرس (مائتان وخمسة وأربعون): تحقيق الجواب السادس على مشكلة المقدمات المفوتة

[تحقيق الجواب السادس على مشكلة المقدمات المفوتة]

تطرقنا إلى ستة أجوبة لحل مشكلة المقدمات المفوِّتة، والأربعة الأولى منها تتمسك بفعلية الوجوب لإثبات وجوب المقدمات المفوِّتة، فهي ترى أن وجوب الصوم فعلي بهلال شهر رمضان، وفعلية الوجوب توجب وجوب غسل الجنابة، وأما الجواب الخامس والسادس فهما لا يريان فعلية الوجوب، بل يتمسكان بفعلية الملاك.

[الجواب السادس: التمسك بفعلية الملاك]

ففي الجواب السادس نفترض أن الملاك ليس مشروطاً بالقدرة، فخطاب "صلِّ" مشروط بالقدرة، ولكن ملاك الصلاة ليس مشروطاً بالقدرة، فالصلاة محبوبة للمولى سواء كان المكلف عاجزاً أو قادراً، فملاك المحبوبية مطلق، فالله عز وجل يحب الصلاة ويريد الصلاة من القادر والعاجز معاً.

[الاستدلال على وجوب المقدمة المفوِّتة بفعلية الملاك وقبح تفويته اختياراً]

من هنا يأتي الجواب السادس وهو التمسك بفعلية الملاك، فإذا ترك الغسل فحينئذ يكون قد فوَّت الملاك.

ولا يجوز له تفويت الملاك لأمرين:

الأمر الأول: تفويت الملاك اختياري، إذ أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار - هذه المقدمة الصغرى.

الأمر الثاني: يشكل المقدمة الكبرى: كل تفويت اختياري قبيح، فإذا أبرز المولى رغبته في الملاك وأظهر حبه للملاك بشكل مطلق وجب استيفاء ذلك الملاك، وحينئذ يجب عليه الغسل.

[آراء العلماء في الجواب السادس]

وهذا الجواب ذهب إليه المحقق النائيني رحمه الله والسيد الخوئي معاً، يُراجع[1] [2] .

وأما رأي السيد الخوئي، يُراجع[3] .

[شرط صحة الجواب السادس]

والجواب السادس صحيحٌ بعد فرض عدم تمكن المولى من حفظ هذا الملاك بخطاب آخر كخطاب الواجب المعلق أو خطاب الواجب المشروط بالشرط المتأخر، فإذا تعذر أي خطاب تصل النوبة إلى التمسك بفعلية الملاك المطلق إذا أبرزه المولى.

[الخلاف بين السيد الخوئي والميرزا النائيني]

وهنا يختلف السيد الخوئي رحمه الله مع أستاذه الميرزا المحقق الشيخ محمد حسين النائيني، وسر الخلاف في هذا السؤال: هل يُستكشف من هذا الوجوب الشرعي أو يُستكشف خصوص الوجوب العقلي؟

فذكر الميرزا النائيني رحمه الله أنه يُستكشف بذلك الوجوب الشرعي للمقدمات المفوتة، فيجب غسل الجنابة شرعاً، وخالف في ذلك السيد أبو القاسم الخوئي رحمه الله فقال: إن المقدمات المفوِّتة بناءً على الجواب السادس تجب بالوجوب العقلي لا الوجوب الشرعي.

[قاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع]

بيان ذلك: يقول السيد الخوئي رحمه الله: إن استكشاف الحكم الشرعي بوجوب المقدمة المفوِّتة بناءً على الجواب السادس إنما يكون بالنظر إلى قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، فكل ما حكم وقطع به العقل حكم وقطع به الشرع.

[موارد جريان قاعدة الملازمة]

ولنأتِ إلى هذه القاعدة لنرى مورد جريانها، فقاعدة الملازمة إنما تجري في خصوص الأحكام العقلية الواقعة في سلسلة علل الأحكام الشرعية، ولا تجري في الأحكام التي هي في مرتبة المعلول للأحكام الشرعية.

[نتيجة رأي السيد الخوئي]

إذاً عندنا أحكام عقلية سابقة على الجعل الشرعي وعندنا أحكام عقلية لاحقة للحكم الشرعي.

[أمثلة على الأحكام العقلية السابقة واللاحقة]

مثال ذلك: حُسن الأمانة وقُبح الخيانة، حُسن العدل وقُبح الظلم، هذه أحكام عقلية سابقة على الحكم الشرعي، فهنا تجري الملازمة. فإذا قطع العقل بوجوب الأمانة وحرمة الخيانة قطع الشرع بوجوب الأمانة وحرمة الخيانة، وإذا قطع العقل بحُسن الصدق وقُبح الكذب، وإذا قطع العقل بهذه الأحكام التي هي في مرتبة علل الأحكام الشرعية قطع الشرع بوجوبها، فيقول: يجب الصدق شرعاً ويحرم الكذب شرعاً، يجب العدل شرعاً يحرم الظلم شرعاً.

إذاً مورد جريان الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع هو مرتبة الأحكام العقلية التي هي في رتبة سابقة على الحكم الشرعي، بخلاف الأحكام العقلية التي هي في مرتبة معلولات الحكم الشرعي كحُسن الطاعة وقُبح المعصية. هذان حكمان عقليان لكنهما يتفرعان على وجود حكم شرعي تجب طاعته وتحرم مخالفته، فهذان الحكمان العقليان: حُسن الطاعة عقلاً، قُبح المعصية عقلاً، هذان حكمان عقليان لكن في سلسلة معلولات الجعل الشرعي.

[إشكالية اللغوية في الملازمة بين الحكم العقلي والشرعي]

فحينئذ لو قلنا: إذا قطع العقل قطع الشرع، فقطع العقل بحُسن الطاعة وقُبح المعصية، إذاً الشرع يوجب الطاعة ويحرم المعصية، هنا يلزم اللغوية، لأن وجوب الطاعة وحرمة المعصية موجود في مرتبة سابقة. فإذا هذا الحكم الشرعي استتبع الحكم العقلي تلزم اللغوية، إذ في المرتبة السابقة المولى يوجب الطاعة ويحرم المعصية. وبعد ذلك يأتي العقل ويحكم، فإذا قلنا توجد ملازمة في هذا الحكم العقلي الذي استتبع الحكم الشرعي تلزم اللغوية.

الخلاصة: بحث الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع مورد جريانها هو الأحكام العقلية السابقة على الحكم الشرعي، أي في سلسلة علل الحكم الشرعي، وليس مورد جريانها الأحكام العقلية الواقعة في سلسلة معلولات الحكم الشرعي.

[الصغرى: حكم العقل بقُبح تفويت الملاك فرع فعلية الملاك]

إذا تمت هذه الكبرى نأتي إلى الصغرى: موطن بحثنا من هذا القبيل. فموطن بحثنا في الجواب السادس هو أن العقل يحكم بقُبح تفويت الملاك المولوي على حد حكم العقل بقُبح معصية المولى، أي أن حكم العقل بقُبح تفويت الملاك المولوي فرع فعلية الملاك المولوي، يعني هذا حكم عقلي متفرع على أمر شرعي وهو فعلية الملاك وإطلاقه.

من هنا ذهب السيد الخوئي رحمه الله إلى أن مقتضى الجواب السادس هو وجوب المقدمات المفوِّتة عقلاً لا شرعاً.

[التحقيق في منشأ الحكم العقلي]

والتحقيق: إننا لو راجعنا كلمات الميرزا النائيني رحمه الله والسيد الخوئي رحمه الله لوجدنا أنها قد تكون مضطربة أو متضاربة في بيان منشأ الحكم العقلي، فما هو منشأ الحكم العقلي؟ هل هو دعوى الملازمة كما ذكر السيد الخوئي رحمه الله، أم أن المنشأ شيء آخر؟

[الدفاع عن رأي الميرزا النائيني]

والصحيح ما ذهب إليه الميرزا النائيني رحمه الله فيلتزم بأن المقدمات المفوِّتة تجب بالوجوب الشرعي لا الوجوب العقلي، ولنا أن ندافع عن الميرزا النائيني رحمه الله كما دافع عنه السيد الشهيد الصدر[4] [5] .

فنقول: ليس مقصود الميرزا النائيني إثبات الحكم الشرعي بوجوب المقدمات المفوِّتة على أساس قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، كلا وألف كلا، فلا يرد إشكال السيد الخوئي رحمه الله، بل ندَّعي أن المقصود هو استكشاف الحكم الشرعي من نفس الملاك المولوي، فإنه بعد أن كان للمولى ملاك في صوم النهار وسوف يصبح هذا الملاك فعلياً عند طلوع الفجر، فلا بد من حفظه تشريعاً، وحيث إن الأمر بالصوم عند طلوع الفجر لا يكفي لحفظه التشريعي على كل تقدير لعجز المكلف لو لم يغتسل قبل طلوع الفجر، إذاً لا بد من متمم لهذا الجعل التشريعي وهو إيجاب المقدمات المفوِّتة.

إذاً قلنا بوجوب المقدمات المفوِّتة كغسل الجنابة ليس من باب التمسك بالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع حتى يرد ما أورده السيد الخوئي رحمه الله، بل إننا نوجب المقدمات المفوِّتة كغسل الجنابة من باب التمسك بنفس الملاك المولوي، هذا الملاك المولوي فعلي قبل طلوع الفجر، لا يوجد خطاب ولا يوجد أمر بالصوم، وبالتالي لا يجب عليه أن يغتسل، وإذا لم يغتسل وطلع الفجر أصبح عاجزاً عن الإتيان بالصوم نظراً لاشتراط الصوم بالإتيان بغسل الجنابة قبل الفجر.

إذن ملاك وجوب الصوم يحتاج إلى متمم، يحصل هذا التتميم بجعل وجوب للمقدمات المفوِّتة والإتيان بغسل الجنابة. إذاً وجوب غسل الجنابة ووجوب المقدمة المفوِّتة قد وجب شرعاً لا عقلاً، إذ أنه نشأ من فعلية الملاك ولم ينشأ من الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.

[الرد على إشكال اللغوية]

ومن هذا الجواب يتضح الجواب على إشكال اللغوية، إذ قال بعضهم: عندنا خطاب أول وهو وجوب الصوم، ومع الخطاب الأول يلغو الخطاب الثاني وهو وجوب غسل الجنابة، إذ أن وجوب الصوم يستبطن وجوب الإتيان بشرطه وهو غسل الجنابة.

فيكون الجواب إن الخطاب الثاني بإيجاب غسل الجنابة ليس لغواً لأنه متمم لأغراض الشارع المقدس، أي أن حال خطاب "صُم" الأول وحال خطاب "اغتسل" الثاني واحد، ومنشأهما واحد وهو الملاك، لكن كل منهما يحفظ حيثية من الملاك، ولولا الحفظ التشريعي لم يجب على المكلف وعلى العبد التحرك، لأن العبد لا يجب عليه التحرك إلا بمقدار ما يحفظ واجبات المولى.

[النتيجة النهائية للجواب السادس]

إذاً النتيجة النهائية: الجواب السادس يثبت وجوباً شرعياً.

[تقييم الأجوبة الستة لحل مشكلة المقدمات المفوِّتة]

هذه أجوبة ستة لحل مشكلة المقدمات المفوِّتة، الأربعة الأولى منها تمسكت بفعلية الوجوب، والخامس والسادس قد تمسكا بفعلية الملاك، وقد اتضح أن الرابع منها ليس بتام، فتكون الأجوبة الخمسة باستثناء الرابع أجوبة تامة. فهذه أجوبة خمسة تامة وفقاً لمنهج البحث الأصولي عند الأصحاب.

[منهج الشهيد الصدر في المقدمات المفوتة]

وللشهيد الصدر رضوان الله عليه منهج آخر في معالجة المقدمات المفوِّتة، وهي عبارة عن قَرْن الأغراض التشريعية بالأغراض التكوينية، فأحياناً المولى يسعى لتحصيل أغراضه التكوينية.

مثال ذلك: لو أراد المولى السفر الطويل وهو الآن عنده ماء وفير وأراد أن يسافر على بعير، فإنه يعبئ ما أمكنه من الماء حتى لا يفوت فوته ويدركه الفوت ويموت، فهذا تحصيل لمقدمة مفوِّتة تكويناً، أي في عالم الخلق والتكوين هو الآن لا يحتاج إلى شرب الماء لكنه عبأ الماء لكي يتوفر عنده في الطريق، لو فقد الماء في الطريق.

[العلاقة بين التشريع والتكوين في المقدمات]

فكما في عالم التشريع المولى يوجب المقدمات المفوِّتة ويقول: أنت اغتسل الآن غسل الجنابة حتى ما يفوتك صوم شهر رمضان الواجب، كذلك في عالم التكوين هو ماذا يفعل؟ يحضر الماء بنفسه حتى لا يفوته الماء عند الحاجة.

[العلاقة بين التشريع والتكوين في المقدمات]

وبناءً على إيجاب المقدمة المفوِّتة في عالم التكوين يحصل إيجاب المقدمة المفوِّتة في عالم التشريع، فيأمر المولى عبيده، ويقول: نحن سنسافر عبئوا الماء. فالنكتة واحدة في إيجاب المقدمات المفوِّتة في عالم التشريع وعالم التكوين. فما هو السر الذي أوجب المقدمة المفوِّتة؟

ثم يبحث السيد الشهيد رضوان الله عليه في السر الذي يراه وفقاً لمبناه، يرى أنه هو الذي أوجب المقدمات المفوِّتة.

[الخاتمة]

هذا تمام الكلام في البحث الثبوتي، واتضح أن المقدمات المفوِّتة كما هي واجبة إثباتاً ودل عليها الدليل، يمكن إيجابها ثبوتاً.

 


logo