« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

47/04/13

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائتان وثلاثة وأربعون): الجواب الثالث على مشكلة المقدمات المفوتة

الموضوع: الدرس (مائتان وثلاثة وأربعون): الجواب الثالث على مشكلة المقدمات المفوتة

 

[الجواب الثالث على مشكلة المقدمات المفوتة]

ويمكن تقديم الجواب الثالث لشخص يرى استحالة الواجب المعلّق، وهو مفاد الجواب الأول، ولشخص يرى استحالة الواجب المشروط بالشرط المتأخر كما يرى ذلك المحقق النائيني، والجواب الثاني مبني على الشرط المتأخر.

فالجواب الثالث يقول: إن متعلّق الوجوب النفسي الثابت من أول الغروب هو سدّ بعض أنحاء عدم صوم النهار، فإن وجود الصوم واحد لا يتجزأ، لكن لعدم الصوم حصص متعددة بعدد أسباب العدم، فيُلتزم بوجوب فعلي لسدّ باب العدم، لكن من غير ناحية طلوع الفجر؛ لأن طلوع الفجر شرط غير مقدور، وهو أن يقال أنه يتوقف على الغسل، فيترشح من هذا الوجوب وجوب مقدمي على الغسل، فوجوب سدّ بعض أبواب العدم فعلي مطلق لا يحتاج إلى الشرط المتأخر وهو طلوع الفجر، ولا إلى القدرة حين طلوع الفجر، فهمتم شيء؟!

[توضيح المثال: أسباب العدم]

مثال ذلك: إنجاب الولد شيء واحد لا يتجزأ، لكن عدم إنجاب الولد لأسباب كثيرة، فقد يكون لعدم الزواج، وقد يكون للحبس، وقد يكون للعقم، فأسباب العدم متعددة لكن سبب الوجود واحد.

ففي الجواب الثالث لا نجعل متعلّق الوجوب الأمر الإيجابي الواحد، بل نجعل متعلّق الوجوب أسباب العدم المتعددة، فنقول: يجب عدم الإتيان بأسباب العدم.

[تطبيق الجواب الثالث على الصوم]

ولنطبّق ذلك على مثالنا المعهود، وهو: وجوب صوم شهر رمضان إذا ثبت هلال شهر رمضان، لكن الصوم الواجب مقيّد بطلوع فجر اليوم الأول من شهر رمضان، فلو قلنا: يوجد وجوب فعلي، لكننا نسأل: هذا الوجوب الفعلي متعلّقه ماذا؟

إن قلنا: إن متعلّق الوجوب هو الصوم، والصوم واحد وقد قُيّد بقيد واحد وهو طلوع الفجر، وطلوع الفجر غير مقدور للمكلف، صار الوجوب الفعلي المتقدم بهلال شهر رمضان: إما من قبيل الواجب المعلّق كما في الجواب الأول الوجوب فعلي والواجب استقبالي، وجوب الصوم فعلي من هلال شهر رمضان، لكن الصوم الواجب يأتي في المستقبل إذا طلع الفجر هذا مفاد الجواب الأول، أو نلتزم بمفاد الجواب الثاني: الوجوب فعلي بهلال شهر رمضان لكنه مشروط بشرط متأخر وهو طلوع فجر اليوم الأول من شهر رمضان.

إذاً الالتزام بالواجب المعلّق كما في الجواب الأول، أو الالتزام بالواجب المشروط كما في الجواب الثاني، إنما يُصار إليهما فيما إذا كان متعلّق الوجوب هو الصوم، الأمر الإيجابي، لكننا لا نلتزم أن متعلّق الوجوب هو الصوم، بل متعلّق الوجوب هو سدّ بعض أنحاء عدم صوم النهار.

[أسباب عدم صوم النهار]

فنسأل: ما الذي يوجب عدم صوم نهار شهر رمضان؟

الجواب: أسباب عديدة:

السبب الأول: عدم مجيء شهر رمضان، عدم دخوله واستهلال هلاله.

السبب الثاني: عدم القدرة على صوم شهر رمضان.

السبب الثالث: عدم الاغتسال.

فإذاً نقول هكذا: لاحظ معي، لاحظ معي، الوجوب فعلي من هلال شهر رمضان، ومتعلّق هذا الوجوب الفعلي هو سدّ بعض أنحاء عدم صوم نهار شهر رمضان، ومن مصاديقه غسل الجنابة؛ لأنه إذا لم يغتسل لم يستطع الصيام، ويجب سدّ أسباب العدم، فيجب الغسل من باب وجود سدّ بعض أبواب العدم؛ لأن بعض أبواب العدم ليست مقدورة للمكلف، مثل ماذا؟ هلال شهر رمضان ليس بيده، المرض ليس بيده، قد يمرض وقد لا يمرض، لكن الغسل بيده.

ولا تقل إن القيد هو: طلوع الفجر؛ لأن طلوع الفجر ليس بمقدور للمكلف، بل قُل: ما هو مقدور وهو غسل الجنابة.

[نتيجة الجواب الثالث]

وبناءً على الجواب الثالث لا يرد إشكال انفكاك الإرادة عن المراد الذي أُورد على الواجب المعلّق؛ لأن المراد هو نفي لبعض الأعدام، وهو معاصر لزمان الوجوب، هناك معاصرة بين الإرادة والمراد، الإرادة هي إرادة سدّ بعض أبواب العدم، والمراد غسل الجنابة، إذاً توجد معاصرة بين المراد وهو غسل الجنابة وبين إرادة سدّ بعض أبواب العدم، ما في فاصل بينهم، واضح إن شاء الله؟

هذا تمام الكلام في الجواب الثالث.

[شرط صحة الجواب الثالث]

طبعاً الجواب الثالث متوقف على أن لا يكون طلوع الفجر من قيود الاتصاف، فلو كان طلوع الفجر من قيود الاتصاف بالوجوب، فقبل طلوع الفجر لا وجوب فعلي حتى نبحث أن متعلّقه هل هو الصوم؟ أو سدّ بعض أبواب العدم؟ إذاً طلوع الفجر يصير من شروط الترتّب لا من شروط الاتصاف، واضح إن شاء الله؟

[الجواب الرابع: مبنى المحقق العراقي]

لو تنزّلنا وقلنا: إن طلوع الفجر من قيود الاتصاف وليس من قيود الترتّب، وتنزّلنا أيضاً وقلنا: إن طلوع الفجر شرط مقارن للوجوب وليس بشرط متأخر، وعلى الرغم من هذين الالتزامين والمبنيين، يمكن تصور وجوب فعلي بناءً على مبنى المحقق العراقي إذ ذهب إلى وجود الوجوب الفعلي قبل تحقق الشرط.

وقبل أن أشرح مفاده أقدّم مقدمة في الفارق بين الأمور التكوينية والتشريعية:

[مقدمة في الفرق بين الأمور التكوينية والتشريعية]

ففي الأمر التكويني، كما لو تقول: كل نار حارقة، هنا المؤثّر في الأمور التكوينية هو الأمر الخارجي لا الأمر الافتراضي، فالنار الافتراضية المتصوَّرة في ذهن المولى لا تحرق، ولو أحرقت لأحرقت الذهن والعياذ بالله، إذاً في الأمور التكوينية لا يؤثر إلا الخارج، لا ما هو موجود في ذهنك الشريف، خلّه لك، واضح إن شاء الله؟

بخلاف الأمور التشريعية: فهناك فعلية للخارج، وهناك فعلية للافتراض والتقدير، فلو قال المولى: "يجب الحج على المستطيع"، فإن فعلية وجوب الحج خارجاً تتوقف على الاستطاعة خارجاً، ولكن توجد فعلية أخرى للوجوب وهي الفعلية اللحاظية الافتراضية.

[الوجوب اللحاظي التقديري]

فالوجوب فعلي في ذهن المولى إذا لاحظ الاستطاعة، وإن لم تتحقق الاستطاعة في الخارج.

الفرق: النار الذهنية ما تحرق، ما تحرق إلا النار الخارجية، لحاظ النار لا يكون مُحرقاً فعلاً، لكن الوجوب يكون فعلياً في الخارج إذا كان الشرط متحققاً في الخارج كالاستطاعة، ويكون الوجوب أيضاً فعلياً في ذهن المولى إذا لاحظ وافترض وقدّر الاستطاعة.

إذاً يوجد وجوب فعلي تقديري افتراضي قبل تحقق الشرط في الخارج، وهذا الوجوب الفعلي يدعو لإيجاب مقدماته، فوجوب - لاحظ معي - يلا خلّنا نطبّق على مثالنا: يجب الصوم عند هلال شهر رمضان في الليل، وهذا الوجوب فعلي من الليل، وهو وجوب افتراضي تقديري إذ لاحظ المولى تقييد وجوب الصوم بطلوع الفجر، وهذا الوجوب اللحاظي التقديري موجود بالفعل قبل ما يتحقق الشرط في الخارج وهو طلوع الفجر، واضح أو لا؟

هذا الوجوب التقديري اللحاظي يدعو لإيجاب مقدمته، ومن مقدماته غسل الجنابة، إذاً - لاحظ كلام المحقق العراقي، الله يذكرك بالخير شيخنا الأستاذ الوحيد الخراساني، من واحد يشكل، قال: "اسكت اسكت، گوش كن اين آقا ضيا، هذا آقا ضيا الدين العراقي، يعني أول افهم كلامه زين.

[تطبيق مبنى المحقق العراقي]

مفاد كلام المحقق العراقي رحمه الله[1] : أن وجود الوجوب فعلي قبل تحقق الشرط، لكن يراد من الوجوب الموجود فعلاً هو خصوص الوجوب التقديري الافتراضي، وهذا موجود في لحاظ المولى قبل تحقق الشرط خارجاً.

إذاً الشرط في نظر المحقق العراقي هو عبارة عن الوجود اللحاظي والتقديري، هذا الشرط الذي يفعل الوجوب في ذهن المولى، الشرط هو الوجود اللحاظي للفجر وليس نفس طلوع الفجر خارجاً، الشرط في نظر المحقق العراقي عبارة عن الوجود اللحاظي والتقديري للشرط، وهذا ثابت من أول الأمر من أول إيجاب الوجوب، لاحظ المولى ذلك الشرط.

فإذا كان الوجوب اللحاظي ثابتاً قبل تحقق الشرط، فلا بأس بترشّح الوجوب منه إلى المقدمات المفوّتة، واضح إن شاء الله؟ أهم شيء يكون واضح قبل ما نناقشه، واضح أو لا؟

 

[مناقشة الجواب الرابع]

وفيه:

لو سلّمنا بوجود وجوب لحاظي افتراضي فعلي نسأل: هل هذا الوجوب الافتراضي محرّك أو ليس بمحرّك؟

والجواب: إنه ليس بمحرّك، إنه مجرد لحاظ ذهني وتقديري، فهو لا يحرّك إلى الخارج، فكيف يحرّك إلى إيجاد المقدمات المفوّتة كغسل الجنابة؟!

وثانياً: لو التزمنا بأن هذا الوجوب محرّك، لقلنا إن الوجوب الذي يترشّح من هذا الوجوب المشروط إلى المقدمات المفوّتة أيضاً يكون مشروطاً بطلوع الفجر، والسرّ في ذلك - يلا لاحظ معي - يا أخي يا أخي، عندنا وجوب نفسي وعندنا وجوب غيري، صحيح؟

الوجوب النفسي هو وجوب الصوم، ووجوب الصوم مقيّد بطلوع الفجر، ولا يحرّك وجوب الصوم إلا إذا طلع الفجر؛ لأن قيد وجود الفجر خارجاً أُخذ في محرّكية الوجوب النفسي للصوم، فإذا كان وجوب الصوم الذي هو الواجب النفسي أُخذ فيه قيد طلوع الفجر، فكذلك ما يترشّح من هذا الوجوب النفسي وهو وجوب غسل الجنابة الذي وجب بالوجوب الغيري أيضاً يُؤخذ فيه قيد طلوع الفجر، إذ الفرع تابع للأصل.

أُعيد وأُكرّر: هذا الوجوب التقديري اللحاظي محرّك أو غير محرّك؟ إن قلتَ: هو غير محرّك؛ لأنه مجرد لحاظ، هذا صحيح، إذاً لا يحرّك نحو المقدمات المفوّتة والغسل، وإن قلتَ: إنه محرّك، السؤال: متى يحرّك؟ إذا تحقق طلوع الفجر خارجاً، طلوع الفجر أُخذ كقيد في الوجوب النفسي لصوم شهر رمضان، فلا بد أن يُؤخذ فيما يترشّح عن هذا الوجوب النفسي وهو الوجوب الغيري لغسل الجنابة، إذاً هذا الجواب ليس بتام، اتضح الجواب أو لا؟

[خاتمة الأجوبة الأربعة]

وفي ختام الأجوبة الأربعة، نقول: هذه الأجوبة الأربعة تحاول تصحيح المقدمات المفوّتة عن طريق افتراض وجود وجوب فعلي لذي المقدمة قبل الواجب، إذاً الأجوبة الأربعة كلها تفترض وجود وجوب فعلي، لكن شكل ونحو هذا الوجوب الفعلي يختلف بحسب الأجوبة الأربعة، فالأجوبة الأربعة تُثبت الوجوب للمقدمات المفوّتة بملاك واحد وهو فعلية الوجوب، يعني: يوجد وجوب فعلي، لكن:

- في الجواب الأول: هذا الوجوب ثابت بنحو الواجب المعلّق.

- وفي الجواب الثاني: هذا الوجوب ثابت بنحو الشرط المتأخر.

- وفي الجواب الثالث: هذا الوجوب قد تعلّق بسدّ بعض أبواب العدم.

- وفي الجواب الرابع: هذا الوجوب المشروط له نوع فعلية قبل تحقق الشرط وهو الوجوب اللحاظي والتقديري.

هذا تمام الكلام في الأجوبة الأربعة، واتضح أن الجواب الأول والثاني تام إلا إذا التزمنا بمبنى المحقق النائيني فإنه لا يتم، والجواب الثالث أيضاً تام، والجواب الرابع قابل للمناقشة.

الجواب الخامس يأتي عليه الكلام.


logo