47/04/12
الدرس (مائتان واثنان وأربعون): الجواب الأول على مشكلة المقدمات المفوتة
الموضوع: الدرس (مائتان واثنان وأربعون): الجواب الأول على مشكلة المقدمات المفوتة
[تعريف المقدمات المفوتة]
قلنا: إن المقدمات المفوتة لأجلها دخل الأصولي في بحث الواجب المشروط والواجب المعلّق، والمراد بالمقدمات المفوتة: مقدمات الواجب المشروط قبل تحقق شرطه، كالغسل قبل طلوع الفجر من يوم الصيام.
[الإشكال في ترشح المقدمات الغيرية]
من هنا وقع الإشكال، قالوا: لا يمكن ترشح الوجوب على المقدمات المفوتة؛ لأن المقدمات المفوتة كالغسل إنما تجب بالوجوب الغيري، وإذا لم يثبت الوجوب النفسي للصيام إلا بعد طلوع الفجر، فكيف يترشح الوجوب على المقدمات الغيرية وهي المقدمات المفوتة؟!
[الأشكال من ناحية الفقهية]
أما من الناحية الفقهية فلا إشكال إثباتاً في ثبوت الوجوب للغسل والمقدمات المفوتة، وإنما وقع البحث الثبوتي، أي أنه: كيف يمكن إثبات الوجوب للمقدمات المفوتة؟ وكيف يمكن تخريج هذا الوجوب بعد أن دلّ الدليل عليه إثباتاً في الفقه؟ من هنا ذُكرت عدة أجوبة، نذكر منها ستة.
[الجواب الأول: الالتزام بالواجب المعلّق]
الجواب الأول: الالتزام بالواجب المعلّق، فالوجوب فعليٌّ قبل الشرط، ويتحقق الوجوب من حين هلال شهر رمضان، والواجب استقبالي، أي أن الصوم الواجب يقع في المستقبل بعد طلوع فجر اليوم الأول من شهر رمضان.
إذاً في الواجب المعلّق يكون الوجوب فعلياً قبل تحقق الشرط الذي هو طلوع الفجر في المثال، إذاً في الواجب المعلّق يوجد وجوب فعلي قبل الشرط، وهذا الوجوب متعلق بالمادة المقيدة بالشرط، يعني وجوب الصوم المقيد بطلوع الفجر، ومادام الوجوب فعلياً فإنه يترشح منه الوجوب على المقدمة وهي الغسل، نظراً لفعلية الوجوب قبل تحقق الشرط، واضحٌ إن شاء الله.
إذاً يُراد بالواجب المعلّق هنا: ما كان الوجوب فيه فعلياً والواجب استقبالياً، فمادام الوجوب فعلياً ترشّح الوجوب من الوجوب النفسي إلى المقدمات المفوتة.
[شروط تحقق الجواب الأول]
وهذا الجواب الأول يتوقف على ثبوت أمور ثلاثة:
الأول: كون القيد من القيود المعلومة التحقق عند المولى في حق تمام المكلفين، وقد مضى هذا الكلام من أنه لا يمكن تعقّل الواجب المعلّق في غير هذه الصورة؛ إذ يلزم محذور التكليف بغير المقدور. ينتفي هذا المحذور في صورة واحدة: إذا كان القيد كطلوع الفجر مضمون التحقق، فنحن نضمن أن الفجر سينبلج ما لم تقم القيامة، فهنا بعد ما يصير الوجوب تعلق بشرط وبقيد غير مقدور، هذا الشرط مقدور؛ لأنه معلوم التحقق.
الثاني: كون القيد من قيود الترتب المحض دون شروط الاتصاف؛ إذ لو كان القيد من قيود الاتصاف لم يتحقق مقتضى الوجوب لفرض عدم الوجوب حينئذٍ. ما دام قيد الاتصاف ما موجود، يعني وجوب ما موجود، هو اسمه فيه قيد الاتصاف، يعني يتصف الفعل بأن فيه مصلحة. إذا قيد الاتصاف ما موجود، يعني اتصاف بالوجوب ما موجود، يعني لا توجد فعلية للوجوب، فمن أين يترشح الوجوب إلى المقدمات المفوتة؟! إذاً لابد من رجوع القيد إلى الوجوب ولو بنحو الشرط المتأخر.
الثالث: إمكان الشرط المتأخر، فإنه وإن لم يكن وجوب الصوم مشروطاً بطلوع الفجر مثلاً نظراً لأخذه قيداً في الواجب محضاً، لكن الوجوب مشروط ببقاء المكلف على قيد الحياة وقدرة المكلف على تقدير وافتراض طلوع الفجر، وهذا القيد - حياة المكلف وقدرته على الصوم - ليس محرَزاً للمولى في حق المكلفين، ولا مقدوراً للمكلف حتى يمكن أخذه في الواجب دون الوجوب.
[خلاصة الجواب الأول]
خلاصة الجواب الأول: التمسك والالتزام بالواجب المعلّق، ولا بد من توفر ثلاثة شروط:
الأول: أن يكون هذا القيد من القيود المعلومة التحقق.
الثاني: أن يكون هذا القيد من قيود ترتب المصلحة لا من قيود الاتصاف، والالتزام بالواجب المشروط ولو بنحو الشرط المتأخر.
الثالث: الأمر الثالث إمكان الشرط المتأخر.
هذه الأمور الثلاثة كثيراً ما تتم وتتحقق، فإذا تمّ وأمكن تعقّل الواجب المعلّق وتمت هذه الشروط الثلاثة تمّ الجواب.
الخلاصة: الجواب الأول يثبت الوجوب للمقدمات المفوتة بالالتزام بالواجب المعلّق.
[الجواب الثاني: الالتزام بالواجب المشروط بشرط متأخر]
الجواب الثاني: الالتزام بالواجب المشروط بشرط متأخر، وهو ما ذكره صاحب الكفاية رحمه الله من الالتزام بالشرط المتأخر، فوجوب الصوم فعلي من حين الغروب لكنه مشروط بشرط متأخر وهو طلوع الفجر، يراجع[1] .
وهذا الجواب الثاني لا يتوقف على الأمر الأول والثاني، نعم يتوقف على الأمر الثالث، وإليكم التفصيل:
أما بالنسبة إلى الأمر الأول وهو أن يكون القيد معلوم التحقق، فالقول بالوجوب المشروط بشرط متأخر لا يتوقف على ذلك؛ لأنه يمكن تقييد الوجوب بقيد لم يُحرِز المولى تحققه. وكذلك لا يتوقف الجواب الثاني على الأمر الثاني وهو أن يكون القيد من قيود خصوص ترتب المصلحة لا من قيود الاتصاف؛ لأنه يمكن أن يكون القيد للاثنين، فيمكن افتراض القيد قيداً للاتصاف إلى جنب كونه قيداً للترتب، يعني لا يتمحّض لخصوص الترتب، ما يصير محض، يصير قيد للترتب وقيد أيضاً للاتصاف، فيمكن أن يكون قيد لاتصاف صوم النهار بالمصلحة من أول الليل. هذا القيد واضح أو لا؟ يصير طلوع الفجر قيد لاتصاف الصوم بالمصلحة، ومتى تثبت المصلحة؟ من أول الليل، واضح أو لا؟
يعني عند هلال شهر رمضان يثبت وجوب الصوم ويتصف هذا الصوم بمصلحة إذا توفر الشرط المتأخر وهو طلوع الفجر، فيصير طلوع الفجر قيد من قيود اتصاف الوجوب بالمصلحة من أول الليل، كما أنه من المعقول أيضاً أن يكون قيد طلوع الفجر من قيود ترتب المصلحة، أي ترتب المصلحة على الفعل محضاً دون أن يكون قيداً لاتصاف الفعل بالمصلحة، ومع ذلك يُؤخذ شرطاً في الوجوب لكونه غير مقدور مع عدم فرض ضمان حصوله، لِما مضى من أن أخذ القيد في الوجوب إما أن يكون باعتبار كونه قيداً للاتصاف، أو باعتبار كونه غير مقدور وإن فُرض من قيود الترتب لا الاتصاف.
إذاً كلا الاحتمالين ممكن، لا يتعين أن يكون قيد طلوع الفجر من قيود خصوص ترتب المصلحة محضاً كما في الشرط الثاني الجواب الأول.
[مقارنة بين الجوابين الأول والثاني]
يعني قيد باختصار شديد: قيد طلوع الفجر يمكن نجعله قيد في الوجوب ونجعله من شروط الاتصاف، ويمكن نجعله قيد في الواجب ونخليه من شروط ترتب المصلحة. كلا الاحتمالين ممكن ومعقول، فالجواب الثاني لا يتوقف على الشرط الثاني في الجواب الأول. الجواب الأول: الشرط الثاني لا بد أن يكون القيد من قيود ترتب المصلحة لا من قيود الاتصاف، بينما على الجواب الثاني، الجواب الثاني يتم سواء كان قيد طلوع الفجر من قيود ترتب المصلحة أو من قيود الاتصاف.
نعم، الجواب الثاني: تتوقف فرضية الشرط المتأخر على الأمر الثالث وهو إمكان الشرط المتأخر، فلو التزمنا باستحالة وقوع الشرط المتأخر لما أمكن القول بالجواب الثاني، ولبّ الجواب الثاني: الالتزام بإمكان الوجوب المشروط بشرط متأخر.
هذا تمام الكلام في بيان الجواب الثاني.
الخلاصة: الجواب الأول يبتني على إمكان الواجب المعلّق، والجواب الثاني يبتني على إمكان الوجوب المشروط بشرط متأخر.
[رأي الشهيد الصدر والمحقق الأصفهاني في التلازم بين الجوابين]
من هنا نجد الشهيد الصدر رحمه الله في بعض تقريراته كتقرير مباحث الأصول للسيد كاظم الحائري[2] ، وتقرير الشيخ حسن عبد الساتر[3] ينسب إلى المحقق الأصفهاني هذه الدعوى.
[نقل كلام السيد كاظم الحائري حول التلازم]
وهذا نص عبارة أستاذنا السيد كاظم الحائري حفظه الله، فقال ما نصه: "ثم إن المحقق الأصفهاني رحمه الله ذكر أن هذين الوجهين - أعني الجواب بالواجب المعلّق والجواب بالواجب المشروط بالشرط المتأخّر متلازمان في الصحّة والبطلان؛ لأنّنا إن قلنا باستحالة انفكاك الواجب عن الوجوب بطل الواجب المعلّق، وبطل الشرط المتأخّر أيضاً في المقام؛ لأنّ المفروض فيه تقدّم الوجوب على الواجب، وإن قلنا بعدم استحالته صحّ كلاهما "، يراجع[4] .
[تعليق السيد الحائري على تقريره]
هكذا ذكر سيدنا الأستاذ السيد كاظم الحائري في متن تقريره، لكنه قال في الحاشية[5] : "هذا التعبير إما لا يخلو من غموض أو من عدم المطابقة لكلام المحقق الأصفهاني، ولعل الخطأ مني في التقرير لا من أستاذنا الشهيد رحمه الله"، وهذا أدب رفيع للسيد كاظم الحائري حفظه الله، وإلا هذا الكلام موجود في تقرير الشيخ حسن عبد الساتر.
الخلاصة: دعوى التلازم، يعني إذا يصح الأول يصح الثاني، يعني اثنينهم يصحان معاً ويبطلان معاً، والحال أنه لا ملازمة بينهما. ولعل السر في هذه الدعوى هو تعريف الواجب المعلّق، فما هو الواجب المعلّق عند المحقق الأصفهاني؟ وما هو الواجب المعلّق عند الشهيد الصدر؟
وهذا ما أفاده سيدنا الأستاذ السيد كاظم الحائري[6] ، قال ما نصه: " هذا، ولعلّ النزاع بين الشيخ الإصفهانيّ (رحمه الله) واُستاذنا الشهيد (رحمه الله) يدور في مصطلح الواجب المعلّق، فيسمّي الشيخ الإصفهانيّ كلّ واجب تقدّم وجوبه على زمان الواجب بالواجب المعلّق، ولكن اُستاذنا الشهيد يقصد بالواجب المعلّق أن يكون القيد الاستقباليّ قيداً للواجب فحسب، لا للوجوب ولو بنحو الشرط المتأخّر ".
[اختلاف تعريف الواجب المعلّق بين الأصفهاني والشهيد الصدر]
إذاً هذا فرق في التعريف: الأصفهاني يرى هكذا: الوجوب فعلي والواجب استقبالي، هذا هو الملاك في الواجب المعلّق، بينما الشهيد الصدر يرى أن هذا القيد وهو قيد طلوع الفجر يكون قيداً لنفس الواجب ولا يكون قيداً للوجوب ولو بنحو الشرط المتأخر.
عموماً، السيد الحائري حفظه الله ذكر مفاد كلام المحقق الأصفهاني وأن كلامه ببيان لطيف، إذا تقرأ كلامه واضحٌ أنه ليس فيه دعوى الملازمة بين الجواب الأول والجواب الثاني، يمكن أن تطالعوا تفصيل هذه المناقشات، لا داعي للإطالة والإطناب فيها.
[تمهيد للجواب الثالث]
الجواب الثالث: يأتي عليه الكلام.