47/04/11
الدرس (مائتان وواحد وأربعون): تنبيهات الواجب المعلق والمشروط
الموضوع: الدرس (مائتان وواحد وأربعون): تنبيهات الواجب المعلق والمشروط
[تنبيهات حول الواجب المعلّق والمشروط]
التنبيه الأول: المقدمات المفوتة
وهي التي لأجلها دخل الأصوليون في بحث الواجب المشروط والمعلق. مثال ذلك: غسل الجنابة قبل طلوع الفجر من يوم الصيام، فوجوب الصوم يكون فعلياً عند طلوع فجر يوم شهر رمضان، والغسل إنما يكون قبل الفجر لأنه لو وقع بعد الفجر لبطل صوم ذلك اليوم من شهر رمضان. فيُقال لغسل الجنابة بالنسبة إلى وجوب الصوم بأنه من المقدمات المفوتة، وهو مقدمة تتحقق قبل تحقق زمان الواجب. إذاً المقدمات المفوتة: هي مقدمات الواجب قبل تحقق زمانه.
[أنواع الوجوب وأثره على المقدمات]
والمعروف بين الفقهاء والأصوليين هو أن الوجوب إذا ثبت شرعاً، فحينئذ ينبغي أن يُلحظ سنخ الوجوب، وهو على نحوين:
الأول: إذا كان الوجوب فعلياً مطلقاً، فحينئذ يترشح الوجوب على مقدمات هذا الواجب فتتصف بالوجوب الغيري. مثال ذلك: الوضوء بالنسبة إلى وجوب الصلاة، فإذا دخل الزوال وأصبح وجوب الصلاة فعلياً، أصبح الوضوء واجباً بالوجوب الغيري.
الثاني: إذا كان وجوب مشروطاً، فمن الواضح أن المقدمة الوجوبية كالاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحج لا تتصف بالوجوب الغيري. هذا بالنسبة إلى مقدمات الوجوب.
وأما بالنسبة إلى الواجب كالحج، كما لو تحققت الاستطاعة التي أُخذت في وجوب الحج، فهذا الحج له مقدمات وجودية كالسير والسفر إلى مكة، وهذه المقدمات الوجودية لا تتصف بالوجوب الغيري قبل وجود شرط الوجوب وفعليته. فقبل الاستطاعة لا يجب السير والسفر، وقبل فعلية وجوب الحج لا يجب السير والسفر أيضاً، لأن الوجوب الغيري تابع للوجوب النفسي، فإذا لم يكن الوجوب النفسي فعلياً قبل الاستطاعة فلا يكون الوجوب الغيري فعلياً قبل الاستطاعة أيضاً.
إذاً المقدمات الوجودية، يعني مقدمات وجود الواجب كالسفر إلى الحج، إنما تتسم بالوجوب الغيري إذا اتسم الوجوب بالفعلية، وذلك إذا تحقق شرط الوجوب كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج.
[الإشكال في وجوب المقدمة قبل فعلية الواجب]
بناءً على هذا الأصل الموضوعي وقع الإشكال بلحاظ ما ثبت شرعاً في بعض الموارد من وجوب إيقاع المقدمة الوجودية قبل زمان ذيها. مثال ذلك: وجوب إيقاع غسل الجنابة قبل طلوع الفجر، وهذا مقدمة للصوم، لأنه لو أخّر الغُسل إلى حين طلوع الفجر فإنه يفوته الواجب، فالغُسل يتصف بالوجوب قبل زمان مجيء الواجب.
فهنا عندنا وجوب للصوم، وقد أُخذ في هذا الوجوب قيد وهو هلال شهر رمضان، فبهلال شهر رمضان يصبح الوجوب فعلياً، وقد أخذ قيد في الواجب وهو طلوع فجر يوم شهر رمضان، وقبل هذا الطلوع يجب على المكلف أن يغتسل غُسل الجنابة حتى لا يفوته صوم ذلك اليوم، فالغسل مقدمة مفوّتة، أي لو لم يأتِ به لفات الواجب.
جيّد، متى يكون الواجب فعلياً؟ الجواب: عند طلوع الفجر. فكيف يجب الغسل قبل فعلية الواجب؟ والغسل مقدمة وجودية للواجب. واضح الإشكال؟
على هذا الأساس أشكل بأنه اتصفت المقدمة بالوجوب كغسل الجنابة للصوم، مع أن الواجب النفسي وهو صوم اليوم الأول من شهر رمضان لم يصبح فعلياً. فكيف سبق الوجوب الغيري لغسل الجنابة الوجوبَ النفسي لصوم شهر رمضان، مع أن الوجوب الغيري هو من تبعات وترشحات الوجوب النفسي؟
ولو رجعنا إلى الفقه والأدلة والروايات الشريفة لوجدنا أنها تدل على وجوب غسل الجنابة قبل طلوع الفجر، فالمقدمات المفوتة ثابتة إثباتاً، أي في عالم الإثبات والدليل والخطاب هذا تام لا إشكال فيه، لكن وقع الكلام في كيفية تخريجه ثبوتاً، يعني: كيف يمكن الوجوب الغيري يتسم بالفعلية قبل أن يتسم الواجب النفسي بالفعلية؟
ومن هنا بحث الأصوليون المقدمات المفوتة وحاولوا تبريرها بشكل ينسجم ويتفق مع الأصول الموضوعية. إذاً بحثنا بحث ثبوتي وليس بحثاً إثباتياً.
لبّ المشكلة في: فعلية الوجوب الغيري مع عدم فعلية الوجوب النفسي. ولاحظ هذا من متفرعات الواجب المعلق، لأنه في الواجب المعلق الوجوب فعلي والواجب استقبالي، فإذا الواجب استقبالي، يعني الواجب ليس فعلياً، فكيف تجب المقدمة المفوتة كغسل الجنابة قبل فعلية الواجب الاستقبالي الذي يكون فعلياً عند طلوع الفجر؟ وهكذا بناءً على الواجب المشروط بالشرط المتأخر، كيف يكون الشرط فعلي قبل فعلية المشروط؟
إذاً بحث المقدمات المفوتة من متفرعات الواجب المشروط والواجب المعلق.
[الاتجاهات الأصولية في تخريج المقدمات المفوتة]
ولو راجعنا تخريجات الأصوليين لوجدنا أنها تتمثل في اتجاهين رئيسيين:
الاتجاه الأول: القيد من قيود الترتّب لا الاتصاف
إذا القيد المفروض للواجب النفسي مثل طلوع الفجر، لو كان قيداً من قيود الاتصاف، يعني اتصاف الفعل بالمصلحة وبالملاك، أي من القيود الدخيلة في اتصاف الفعل بكونه ذا مصلحة، إذاً لتمّ الإشكال في المقام، لأن قيود الاتصاف لا يوجد الحكم ولا توجد مبادئ الحكم قبلها. فقبل طلوع الفجر لا ملاك ولا إرادة ولا جعل ولا وجوب. فكيف وجب غسل الجنابة قبل تحقق قيد الاتصاف وهو الفجر؟ فيكون الاستشكال مستحكم: كيف يثبت الوجوب الغيري لغسل الجنابة مع عدم ثبوت الحكم فضلاً عن مبادئه قبل شرط الاتصاف وهو طلوع الفجر؟
ولكن الاتجاه الأول يقول: إن طلوع الفجر ليس قيداً من قيود الاتصاف وثبوت الملاك والمصلحة، بل هو من قيود ترتّب المصلحة خارجاً، يعني قيد طلوع الفجر نسبته إلى المصلحة نسبة سدّ المنافذ والنوافذ إلى حصول الدفء، وليس نسبته نسبة الشتاء إلى الاحتياج إلى النار.
إذاً الاتجاه الأول يرى أن القيد الذي أخذ في الواجب كطلوع الفجر من قيود ترتّب المصلحة وليس من قيود الاتصاف. وهنا يوجد موقفان داخل الاتجاه الأول:
الموقف الأول: من يرى إمكان الواجب المعلق أو إمكان الواجب المشروط بشرط متأخر فهنا يكون البحث تاماً بالنسبة إليه.
بيان ذلك: من يرى الموقف الأول من الاتجاه الأول يقول: إن قيد طلوع الفجر من قيود ترتّب المصلحة وليس من قيود الاتصاف، إذاً الحكم بتمام مراتبه فعلي، يعني الملاك والإرادة والخطاب موجود قبل طلوع الفجر، إذ أن الوجوب يكون فعلياً من حين ثبوت هلال شهر رمضان، فوجوب الصوم فعلي.
هنا يوجد قولان:
القول الأول: أن نلتزم بالواجب المعلق، فنقول: إن الوجوب فعلي بفعلية ثبوت هلال شهر رمضان، والواجب استقبالي بثبوت طلوع الفجر. إذا الوجوب فعلي - وجوب الصوم - فعلي. هذا يدعو إلى ماذا؟ إلى الغسل، فيجب الواجب الغيري بثبوت الواجب النفسي.
القول الثاني: الالتزام بالوجوب المشروط، فالوجوب موجود عند هلال شهر رمضان، لكنه مشروط بشرط متأخر وهو طلوع الفجر.
إذاً من يلتزم بإمكان الواجب المعلق، أو من ينكر الواجب المعلق ويرى إمكان الوجوب المشروط بشرط متأخر، يلتزم بوجوب المقدمات المفوتة.
الموقف الثاني: من لا يرى إمكان الواجب المعلق ولا يرى إمكان الشرط المتأخر ويلتزم بالاتجاه الأول وهو أن طلوع الفجر من شروط ترتّب المصلحة وليس من شروط اتصاف الفعل بالمصلحة.
كيف يخرّج المقدمات المفوتة؟
يقول: طلوع الفجر من قيود الترتّب، وهو فاقد للوجوب الذي هو عبارة عن المرحلة الثالثة من مراحل الحكم، أي أن وجوب الصوم لا يكون فعلياً قبل طلوع الفجر، لكن المرحلة الأولى والمرحلة الثانية ثابتة، أي في عالم الملاك أولاً وعالم الإرادة ثانياً، يكون الملاك والإرادة فعليين. وقد بحثنا هذا في الواجب المعلق وقلنا بمعقولية فعلية الملاك وفعلية الإرادة.
وهنا يقول الموقف الثاني: إن الوجوب يستحيل أن يكون فعلياً قبل طلوع الفجر، لأن قيد طلوع الفجر أُخذ في فعلية وجوب الصوم الذي هو المرحلة الثالثة - مرحلة الاعتبار - لكنه غير مستحيل بالنسبة إلى المرحلة الأولى (الملاك) وبالنسبة إلى المرحلة الثانية (الإرادة).
إذاً مبادئ الحكم موجودة وإن كان الحكم غير موجود. وإذا مبادئ الحكم فعلية، يعني ملاك الوجوب موجود، إرادة الوجوب موجودة، نفس اعتبار الوجوب غير موجود، يقولون: يكفي فعلية المبادئ لإثبات وجوب المقدمات المفوتة.
إذاً يكفي لتنجيز وجوب غسل الجنابة قبل طلوع الفجر هو ماذا؟ يكفي فعلية المبادئ، فعلية الملاك. واضح أو لا؟
أعيد الاتجاه الأول باختصار وإيجاز:
الاتجاه الأول يرى أن قيد طلوع الفجر من قيود ترتّب المصلحة وليس من قيود الاتصاف، وهنا موقفان:
الموقف الأول: أن نقبل الواجب المعلق أو الواجب المشروط، يعني يصير الوجوب فعلي، إذا الوجوب فعلي، وجبت المقدمات وهي المقدمات المفوتة.
الموقف الثاني: أن ننكر الواجب المعلق أو الواجب المشروط بشرط متأخر، فلا يوجد وجوب فعلي، لكن نقول: مبادئ الوجوب موجودة، الملاك والإرادة موجودان، فيتنجز وتتنجز المقدمات ببركة فعلية مبادئ الحكم دون الحكم.
هذا تمام الكلام في الاتجاه الأول الذي يرى أن القيود هي قيود الترتّب وليست قيود الاتصاف.
الاتجاه الثاني: يرى أن القيد قيد الواجب هو من شروط الاتصاف، فقيد طلوع الفجر من قيود اتصاف الصوم بالوجوب وليس من قيود الترتّب، أي أنه قبل طلوع الفجر لا يوجد ملاك ولا توجد إرادة فضلاً عن الاعتبار، فلا يوجد خطاب فعلي أصلاً.
وعلى الرغم من عدم فعلية الحكم وعدم فعلية مبادئ الحكم، أيضاً نلتزم بتنجز المقدمات المفوتة. وتوجد هنا محاولتان للجواب:
المحاولة الأولى للمحقق العراقي رحمه الله
في بدائع الأفكار[1] ، ومقالات الأصول[2] .
ومفاد هذه المحاولة: إن الوجوب المشروط له نحو فعلية قبل وجود شرطه في الجملة، يعني بشكل عام وبشكل مُجمل، وما دام هذا الوجوب المشروط له فعلية بالجملة لا بالتفصيل، يمكن حينئذ أن يترشح منه وجوب على المقدمات. هذا اتجاه يأتي تفصيله.
إذاً لا يوجد وجوب فعلي بالتفصيل، لكن توجد فعلية بشكل مجمل، وهذه الفعلية الإجمالية يترشح منها الوجوب الغيري.
المحاولة الثانية للمحقق النائيني
أجود التقريرات[3] ، وقد ذكر المحقق النائيني رحمه الله أن لزوم المقدمات المفوتة ليس بلحاظ أنها توجب مخالفة في التكليف لو لم يأتِ بها، وإنما لزومها بلحاظ الملاك المحبوب في وقته.
إذاً المحقق النائيني، يقول: المقدمات المفوتة، كـ الغسل، غسل الجنابة، يقول: في وقت غسل الجنابة قبل طلوع الفجر، يوجد ملاك المحبوبية، لذلك الغسل، وهذا الذي يوجبه. يعني الصوم ليس بواجب قبل طلوع الفجر، فلا يوجد ملاك الصوم، ولا إرادة الصوم، ولا وجوب الصوم، لكن ملاك محبوبية المقدمات المفوتة موجود.
هذا أصل الاتجاهات، وسنتطرق إلى ستة أجوبة على شبهة المقدمات المفوتة، وسيتضح أن الأجوبة الستة تامة عدا الجواب الرابع.
إذاً توجد خمسة أجوبة تامة تثبت منجزية المقدمات المفوتة.
أول جواب أنه بناءً على ماذا؟ بناءً على تعقل الواجب المعلق، أو الوجوب المشروط بشرط متأخر يتم، ويمكن ماذا؟ ويمكن تنجيز المقدمات المفوتة.
الجواب الأول يأتي عليه الكلام.