« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

47/04/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائتان وأربعون): الجواب النقدي على التقريب الثاني للإشكال الثاني على الواجب المعلق

الموضوع: الدرس (مائتان وأربعون): الجواب النقدي على التقريب الثاني للإشكال الثاني على الواجب المعلق

 

[دراسة فلسفية أصولية في الإمكان والانبعاث]

الجواب النقضي على التقريب الثاني للإشكال الثاني على الواجب المعلَّق:

[عرض النقض من المحقق الأصفهاني]

هذا النقض التفتَ إليه المحقق المدقق الشيخ محمد حسين الأصفهاني في تعليقته على الكفاية، يُراجع نهاية الدراية في التعليقة على الكفاية[1] .

ومفاد هذا النقض إمكان النقض بموارد الواجب المنجَّز المقيَّد بفعلٍ زماني لا بد أن يقع قبله، كما لو أمر المولى بالصلاة المقيدة بوقوع الوضوء قبلها، فالواجب لم يُقيَّد بالزمان المتأخر، فهو منجَّز وليس بمعلَّق والوجوب فعلي في أول آنات الزمان مع أن الوجوب لا يمكن أن يكون باعثاً على فعل الصلاة، إذ الانبعاث فعلاً نحو الصلاة المقيدة بالوضوء غير معقول وإنما المعقول أن ينبعث أولاً نحو الوضوء ثم ينبعث نحو الصلاة.

[عرض الإشكال في الواجب المعلّق]

إذاً كان الكلام هكذا في أنه يوجد تضايف بين البعث والانبعاث، فإذا كان الوجوب فعلياً عند غروب أول شهر رمضان فلا بد أن يكون الانبعاث أيضاً فعلياً، والحال أن الانبعاث لا يكون إلا عند طلوع الفجر، فهذا كان الإشكال: عندنا وجوب فعلي وبعث، وتوجد فاصلة بين البعث والانبعاث.

[الجواب الحلّي على الإشكال]

أجبنا في الجواب الحلّي: نحن لا نشترط الفعلية يعني تقارن فعلية البعث وفعلية الانبعاث، بل قد يكون البعث فعلياً والانبعاث في طول عمود الزمان، هذا الجواب الحلّي.

[النقض بالواجب المنجّز]

الجواب النقضي ينقض بالواجب المنجَّز لا الواجب المعلَّق ويقول: الصلاة الواجبة كصلاة الظهر المقيدة بالوضوء فعند الزوال يكون الوجوب فعلياً، لكن هذا الوجوب للصلاة المقيدة بالوضوء لا يبعث على مثل هذه الصلاة بل لا بد أولاً يبعث نحو الوضوء وبعد أن يتوضأ يبعث نحو الصلاة.

[جواب المحقق الأصفهاني بالإمكان الوقوعي]

لكن نفس المحقق الأصفهاني أجاب عن هذا النقض بأن المقصود من إمكان الانبعاث الذي جعلناه شرطاً في تحقق الإرادة المولوية إنما هو الإمكان الوقوعي.

[أقسام الإمكان الفلسفي]

توضيح ذلك: إن الإمكان عند الفلاسفة يُقسَّم إلى عدة أقسام وهناك عدة إطلاقات لمصطلح الإمكان، ولنذكر ثلاثة مصطلحات:

المصطلح الأول: الإمكان الذاتي في مقابل الامتناع الذاتي، فالإنسان ممكن ذاتاً وشريك الباري ممتنع ذاتاً.

المصطلح الثاني: الإمكان الغيري في مقابل الاستحالة الغيرية، والإمكان الغيري يتحقق إذا وجدت العلة، والاستحالة الغيرية تثبت إذا استحال وجود العلة.

المصطلح الثالث: الإمكان الوقوعي في مقابل استحالة الوقوع، ويستحيل الوقوع إذا استحال وجود العلة ويمكن الوقوع إذا أمكن وجود العلة حتى لو لم تكن موجودة.

[الفرق بين الإمكان الوقوعي والإمكان الغيري]

والفرق بين الإمكان الوقوعي والإمكان الغيري هو أن الميزان والضابط في الإمكان بالغير والامتناع بالغير هو وجود علة الشيء أو عدم وجودها، فثبوت ولد لزيد الذي لم يتزوج إلى الآن ممتنع بالغير لعدم وجود علته وهي الزواج، بينما الميزان والضابط في الإمكان الوقوعي هو أن لا يلزم من وقوعه أمر محال أي أن تكون علته ممكنة سواء وجدت أو لا.

مثال ذلك: زيد الذي لم يتزوج، هل يثبت له ولد بإمكان الوقوعي أو لا؟

الجواب: ممكن وقوع ذلك، وإن لم يتزوج الآن في الخارج لكن علة الإنجاب وهي الزواج ممكن أن تقع في المستقبل، فإذاً يمكن وقوع الولد لزيد الذي لم يتزوج، لكن يستحيل وقوع وثبوت الولد لله تبارك وتعالى لأن الله ليس بجسم وليس فيه خصوصيات الأجسام فيستحيل في حقه تبارك وتعالى أن يتجسم وأن تكون له أنحاء التجسم كاتخاذ صاحبة أو ولد. واضح إلى هنا؟

[تطبيق الفرق على الصوم والصلاة]

إذا عرفنا الفرق بين إمكان الوقوعي والإمكان الغيري، يقول المحقق الأصفهاني: إن المراد من إمكان الباعثية والانبعاث في موطن بحثنا إنما هو إمكان الوقوعي وهو غير ثابت في مثال إيجاب صوم النهار من أول الليل، إذ يلزم من وقوع صوم النهار في أول الليل أمر مستحيل بالذات.

فهنا يوجد احتمالان:

الاحتمال الأول: أن يقع الصوم بلا قيده يعني بلا قيد طلوع الفجر يعني يصوم في الليل وهذا ليس هو المطلوب.

الاحتمال الثاني: أن يقع الصوم مع قيده يعني يصوم عند طلوع الفجر، هنا يلزم اجتماع الزمانين: الزمان المتأخر وهو الصوم عند طلوع الفجر والزمان المتقدم وهو الصوم في الليل دفعة واحدة.

ولكن الصلاة في أول الوقت كصلاة الظهر، الصلاة مع الوضوء بالنسبة لهذا الشخص ليست مستحيلة بالاستحالة الوقوعية وإنما هي مستحيلة بالغير لأن الوضوء ليس أمراً مستحيلاً إلا أنه بعدُ لم يقع.

إذاً فرّق المحقق الأصفهاني رحمه الله بين ما نحن فيه وهو الواجب المعلَّق ومثاله الصوم عند طلوع الفجر وبين النقض الذي جاء به وهو صلاة الظهر المقيدة بالوضوء، بأن الفرق بينهما في الإمكان الوقوعي واستحالة الوقوع. إلى هنا واضح؟

[الانتقال إلى الإمكان الاستعدادي]

ثم التفت هو رحمه الله في حاشيته على الحاشية[2] : نهاية الدراية في التعليق على الكفاية وفي حاشية نهاية الدراية توجد حاشية على النهاية يعني حاشية الحاشية، في متن التعليقة يعني التعليقة الأولى فرّق بينهما بإمكان الوقوعي واستحالة الوقوع، في الحاشية ذكر الإمكان الاستعدادي ورفع اليد عن إمكان الوقوعي، حيث التفت رحمه الله في حاشيته على الحاشية إلى أن الوضوء وإن كان أمراً ممكناً في عمود الزمان لكن لا يمكن وقوعه مع الصلاة دفعة واحدة.

[شرح الزمن المتصرم وتأثيره]

والسر في ذلك: أن الزمن أمر متصرِّم أي أنه في كل لحظة تزول اللحظة السابقة وتأتي اللحظة الجديدة فيقع الوضوء في زمن متصرِّم ويزول ثم يأتي الزمن الذي تقع فيه الصلاة، فلا يقع الوضوء والصلاة في زمن واحد ودفعة واحدة.

ولاحظ تأثير دخول الفلسفة في هذه المطالب! مطالبنا فقهية أصولية عرفية، ما دخل الفلسفة فيها؟! عموماً بحسب الدقة الفلسفية الزمان متصرِّم أي تنعدم اللحظة السابقة وتأتي اللحظة اللاحقة، فالوضوء وقع في اللحظة السابقة والصلاة وقعت في اللحظة اللاحقة فلم يحصل الوضوء والصلاة دفعة واحدة وفي زمن واحد.

إذاً الوضوء والصلاة تدريجيان فوقوعهما في آن واحد مستحيل استحالة وقوعية يعني لا يمكن أن يقع ذلك وهذا يوجب الخلف والتناقض، إذاً وجود الصلاة في آن الوضوء مستحيل استحالة وقوعية، فلا يمكن الانبعاث والبعث.

[تفسير الإمكان الاستعدادي]

ومن هنا بدّل المحقق الأصفهاني الجواب، فكان قد جعل الميزان هو الإمكان الوقوعي فبدّل هذا الميزان والمعيار وجعله الإمكان الاستعدادي وفسّره بهذا التفسير وهو أن تكون القوى العضلية قابلة للتحرك نحو الشيء وتامة التهيؤ والاستعداد في مقابل أن تكون قواه مشلولة، يعني عنده إمكان استعدادي للوضوء يعني يمكن أن يحرك عضلاته ويتوضأ، عنده استعداد للتوضأ.

[طبيق الإمكان الاستعدادي على الصلاة والوضوء]

فذكر المحقق الأصفهاني رحمه الله أن الإنسان في أول الوقت يمكنه الصلاة المقيدة بالوضوء بمعنى الإمكان الاستعدادي يعني عضلاته مستعدة للتوضأ والصلاة، أي أن قوى العضلات لا نقص فيها في مقام تحريك العبد نحو القيد وهو الوضوء ولا نحو المقيَّد وهو الصلاة، فإذاً في أول الوقت يعني عند الزوال العضلات عندها قابلية الوضوء وعندها قابلية الصلاة، فإذاً أولاً يخرج الإمكان والقوة إلى الفعل في الوضوء ثم في الصلاة.

[غياب الإمكان الاستعدادي في صوم النهار]

وأما في مثل صوم النهار فالإمكان الاستعدادي له في أول الليل غير موجود لأن القوة العضلية ناقصة وعاجزة عن إيجاد القيد وهو طلوع الفجر، فعضلات الإنسان غير قادرة على تحريك الأفلاك وتحريك الشمس والقمر بحيث يطلع الفجر وبالتالي عاجزة عن إيجاد المقيَّد بهذا القيد الخارج عن إمكانها واستعدادها.

خلاصة تعليقة التعليقة يقول: بالنسبة إلى النقض يوجد فيه إمكان استعدادي أي أنه عند زوال الشمس هذا العبد قادر على أن يحرك عضلاته نحو الوضوء ويمكنه أن يحرك عضلاته نحو الصلاة فيأتي بالقيد وهو الوضوء ويأتي بالمقيَّد وهو الصلاة، فيمكن أن ينبعث نحوهما، يعني صار بعث وانبعاث: بعث بحلول الزوال، انبعاث لأنه يمكن أن يوقع الوضوء والصلاة معاً.

إذاً يوجد بعث وانبعاث بالنسبة إلى مثال الزوال: الصلاة عند الزوال، نظراً لوجود الإمكان الاستعدادي، يعني عنده استعداد لكي يحقق هذا الممكن، هذا في الواجب ماذا؟ هذا في الواجب المنجَّز، في الواجب المنجَّز الإمكان الاستعدادي موجود.

وأما في الواجب المعلَّق ومثاله هلال شهر رمضان فمن الغروب يثبت وجوب الصوم، فهنا البعث فعلي لكن الانبعاث نحو الصوم في أول يوم هذا مقيَّد بماذا؟ بطلوع الفجر، وطلوع الفجر ليس بيد المكلف، إذ أن عضلات المكلف غير قادرة على تحريك الفلك وجعل الفجر يخرج، فلا يوجد إمكان استعدادي بالنسبة إلى ماذا؟ بالنسبة إلى الواجب المنجّز.

هذا تمام الكلام في بيان النقض.

[نقض اشتراط الإمكان الاستعدادي]

والجواب: سهل، من قال إن الإمكان الاستعدادي دخيل في أصل التكليف؟! نحن لا نُسلِّم أن الإمكان الاستعدادي له دخالة في أصل التكليف. ولنضرب مثالاً لذلك: لو كان الإنسان مشلولاً لا يقدر على المشي ولكنه يقدر على علاج نفسه، فهذا الإنسان المشلول لا يستطيع المشي ولا يستطيع الوضوء، فعضلاته هل عندها إمكان استعدادي للوضوء أو لا؟

الجواب: ليس لها إمكان استعدادي، وعلى الرغم من ذلك يمكن للمولى أن يوجب عليه الوضوء، كما لو تمكّن من أن يوصل بدنه بجهاز كهربائي يعطيه القدرة على تحريك العضلات، أو يمكنه أن يتناول قرصاً يعطيه الطبيب ويحرك عضلاته ويتوضأ، فبالتالي يصبح علاج نفسه بالقرص أو الكهرباء مقدمة وجودية للواجب، ومن هنا يأمره المولى بالوضوء وإن كان هذا الإنسان بما هو هو وبقطع النظر عن العلاج ما عنده إمكان استعدادي، لكن يمكن توجيه الخطاب إليه إذا أمكن أن يعالج نفسه.

وبالتالي ينتفي أصل النقض هو نقض وتمسّك باشتراط الإمكان الاستعدادي، فإذا لم نشترط الإمكان الاستعدادي في التكليف انتفى أصل النقض.

[رأي السيد كاظم الحائري]

طبعاً سيدنا الأستاذ السيد كاظم الحائري حفظه الله في كتابه[3] دافع عن المحقق الأصفهاني وغيَّر جوابه، وبالتالي يقول: يمكن أن يُستشكل بهذا الإشكال النقضي لكن المهم هو الجواب الحلّي ولا داعي لإطالة البحث في هذا المبحث.

الخلاصة: الواجب المعلَّق الذي جاء به صاحب الفصول ممكن في صورة واحدة وهي إذا كان في قيدٍ يمكن للمولى ضمان حصوله كقيد طلوع الفجر، فإن المولى يضمن حصوله ما لم تقم القيامة، فإذا كان الواجب المعلَّق قد قُيِّد بقيد يضمن المولى حصوله فإن هذا الواجب معقول، وإن كان هذا القيد غير مقدور للمكلف، لكن ما دام هذا القيد مضمون في امتداد عمود الزمان فإن الواجب المعلَّق يكون معقولاً.

كيف كان... الصحيح أن الواجب المعلَّق معقول في خصوص هذه الصورة إذا كان القيد مضموناً، ولعله هو نفس ماذا؟ الواجب المشروط.

[التنبيه إلى المقدمات المفوّتة]

في ختام الواجب المشروط والواجب المعلَّق توجد تنبيهات أهمها المقدمات المفوِّتة، هذا بحث مهم وعملي، فأول التنبيهات في المقدمات المفوِّتة، يأتي عليه الكلام.


logo