47/04/04
الدرس (مائتان وتسعة وثلاثون): التقريب الثاني للإشكال الثاني على الواجب المعلق
الموضوع: الدرس (مائتان وتسعة وثلاثون): التقريب الثاني للإشكال الثاني على الواجب المعلق
[تمهيد]
وهو ما ذكره المحقق الشيخ الأصفهاني رحمه الله في تعليقته على الكفاية[1] ، يُراجع "نهاية الدراية" للشيخ محمد حسين الأصفهاني، ويُراجع أيضًا كتابه "بحوث في الأصول"[2] .
[مضمون التقريب الثاني]
[تعريف الإرادة التشريعية وتمييزها عن مطلق الشوق]
وحاصل هذا التقريب أن الإرادة التشريعية هي شوق المولى إلى إتيان الفعل من قبل غيره، لكن ليس مطلق الشوق هو الإرادة، وإنما هو شوق خاص، فالشوق إنما يكون إرادة إذا وصل إلى درجة تحرك العضلات، فهناك شوق تكويني وهناك شوق تشريعي.
[الشوق التكويني والإرادة التكوينية]
أما الشوق التكويني المعبر عن الإرادة التكوينية، فهو أن يبلغ الشوق في نفس المشتاق لدرجة تجعله يحرك عضلاته فيقوم ويصلي، وما لم يبلغ الشوق إلى درجة تحرك العضلات، فهذا الشوق لا يكشف عن الإرادة التكوينية.
[الشوق التشريعي والإرادة التشريعية]
وهكذا بالنسبة إلى الإرادة التشريعية فشوق المولى أي يأتي عبده بالفعل لا يعبر عن الإرادة التشريعية إلا إذا وصل إلى درجة تحرك عضلات العبد نحو الفعل فيقوم ويصلي.
إذًا الشوق إنما يكون إرادة في خصوص ما إذا وصل إلى درجة تحرك عضلات الفاعل نحو الفعل، والإرادة التشريعية عبارة عن الشوق الواصل إلى درجة تحرك عضلات المولى نحو بعث العبد إلى الفعل.
[شرط الباعث في تحقق الإرادة التشريعية]
وعليه، فإيجاد الباعث من قبل المولى شرط أساس للإرادة التشريعية، وما دام لم يصل شوقه إلى درجة أن يحرك المولى العبد نحو إيجاد الباعث، فهنا لا تتم الإرادة التشريعية.
وهنا يقع الكلام في الباعثية والانبعاث: بعثته فانبعث، فهنا يوجد تضايف بين البعث والانبعاث، والمولى يبعث العبد نحو الفعل.
إذًا الإرادة المولوية التشريعية لا تنفك عن إيجاد الباعث للعبد، وهذه الباعثية من قِبل المولى لا تنفك عن انبعاث العبد.
[الفرق بين الباعث الفعلي وإمكان الباعثية]
لكن ليس المقصود من إيجاد الباعث هو إيجاد الباعث الفعلي، فلو كان المقصود هو إيجاد الباعث الفعلي لَلزم أن لا يوجد عاصٍ، فليس المراد من وجود التضايف بين البعث والانبعاث هو الباعث الفعلي، والحال أنه يحصل انفكاك بين بعث المولى فعلاً وعدم انبعاث العبد فعلاً في حالة العصيان.
إذًا ليس المقصود الملازمة بين البعث الفعلي والانبعاث الفعلي، وإنما المقصود إيجاد ما يمكن أن يكون باعثًا، وإمكان الباعثية لا ينفك عن إمكان الانبعاث بحكم التضايف بين البعث والانبعاث.
إذًا الإرادة المولوية التشريعية لا يمكن أن تنفك عن إمكان الانبعاث.
إلى هنا نلخص أصل المطلب لكي نأتي إلى موطن الإشكال.
الخلاصة:
الإرادة التكوينية: لا تتحقق إلا إذا بلغ شوق النفس مرتبة تحرك العضلات نحو المقصود، هذا في الإرادة التكوينية.
وفي الإرادة التشريعية: الإرادة التشريعية لا تتحقق إلا إذا اشتاق المولى إلى الفعل من عبده بحيث يحرك المولى عضلاته ويبعث ويدفع ويحرك العبد نحو الفعل.
فهناك بعث من قبل المولى المشرع، وهناك انبعاث من قبل العبد، وهناك تضايف بين البعث والانبعاث، ولا يُراد بالتضايف التضايف الفعلي - يعني إذا كان البعث فعليًا من المولى فلا بد أن يكون الانبعاث فعليًا من العبد - هذا غير معقول لأنه بالوجدان نجد العبد قد يعصي ولا ينبعث فعلاً.
إذًا التلازم بين الإمكانين: إمكان البعث وإمكان الانبعاث، يعني إذا أمكن أن يبعث المولى عبده نحو الصلاة، يمكن للعبد أن ينبعث نحو الصلاة. واضح هنا؟ فلنسمه الانبعاث الشأني في مقابل الانبعاث الفعلي.
وهنا موطن الإشكال:
إذ أن المولى إذا بعث فعلاً غروب هلال شهر رمضان فأمكنه أن يبعث عند الغروب وكان الوجوب فعليًا، فإذا أمكن أن يبعث، لا بد في نفس هذا الوقت يمكن الانبعاث من قبل العبد، والحال إن الانبعاث وهو الصوم قد أُخذ فيه قيد وهو طلوع الفجر، ولا يمكن للعبد أن ينبعث إذ أنه لم يحن وقت الانبعاث.
إذًا هذا الواجب المعلق - وجوب الصوم المعلق على طلوع الفجر أو طلوع اليوم - يلزم منه التفكيك بين إمكان البعث وإمكان الانبعاث.
إذًا خلاصة الإشكال:
الإرادة المولوية لا يمكن أن تنفك عن إمكان الانبعاث، وفي الواجب المعلق يكون الانبعاث نحو هذا الواجب المعلق قبل تحقق شرط الواجب الذي هو طلوع الفجر مثلاً هذا في الصوم غير ممكن، لأنه لا يمكن الانبعاث إلا حين تحقق الشرط وهو طلوع الفجر.
إذًا لا يمكن البعث عند الغروب إلا عند تحقق الشرط عند طلوع الفجر، وبالتالي لا يمكن أن تتحقق الإرادة المولوية التشريعية قبل تحقق الشرط. واضح إن شاء الله.
أُكرر الإشكال بشكل سريع وبسيط حتى نجاوب عليه:
[تعريف الإرادة التشريعية وتلازمها مع البعث]
الإرادة التشريعية عبارة عن بلوغ الشوق من قبل المولى بدرجة تحرك عضلاته لكي يبعث العبد نحو الفعل، وهنا يوجد تلازم وتضايف بين بعث المولى وانبعاث العبد.
[نفي الملازمة الفعلية وتوضيح البعث الشأني]
ولا يُراد الملازمة الفعلية، فقد يبعث المولى فعلاً ولا ينبعث العبد فعلاً، بل المراد البعث الشأني أي إمكان الانبعاث أي إذا أمكن المولى أن يبعث عبده نحو الصلاة، فحينئذ يمكن للعبد أن ينبعث نحو الصلاة.
[تطبيق المفهوم على الواجب المعلق]
وفي الواجب المعلق يدّعي صاحب الفصول أن الوجوب فعلي عند غروب هلال شهر رمضان، والواجب استقبالي عند طلوع فجر اليوم الأول من شهر رمضان.
فهنا يأتي هذا الإشكال: إذا عند الغروب صار الوجوب فعلي - يعني يمكن أن يبعث المولى عبده نحو الصوم - لكن العبد عند الغروب إلى ما قبل طلوع الفجر لا يمكن أن ينبعث نحو الصوم، فيلزم التفكيك بين إمكان بعث المولى وإمكان انبعاث العبد. واضح الإشكال؟
ويمكن الجواب على هذا الإشكال حلاً ونقضًا:
الجواب الحلي الذي يحل المشكلة:
[تمهيد في تحليل الإرادة التشريعية]
فهذا يتضح إذا تعمقنا في الإرادة التشريعية وحللناها، فالشوق التشريعي لا يكون إرادة تشريعية إلا إذا وصل إلى درجة يحرك عضلات المولى نحو البعث بحيث يبعث ويحرك العبد نحو الفعل، فينبغي أن ننقح المسألة وموطن بحثنا، فليس موطن بحثنا هو عبارة عن تفسير كلمة الإرادة بمعناها اللغوي أو العرفي أو الفلسفي، إذ لا شُغل لنا بذلك. لماذا؟ لأننا لا ندرس مباحث الألفاظ حتى نحلل مفردة الإرادة لغوياً، ولا ندرس حقائق الأشياء حتى ندرس ونحلل حقيقة الإرادة فلسفيًا.
إذًا ليس بحثنا عن تحليل المصطلح لغويًا أو عرفيًا، وليس بحثنا في بيان حقيقة الإرادة وواقعها فلسفيًا، بل نحن ندرس الفقه وأصول الفقه، وما يهمنا هو تعيين ما هو موضوع لحكم العقل بوجوب الامتثال.
فمتى يحكم العاقل بوجوب امتثال التكليف؟ هذا هو المهم لأننا ندرس في الفقه ماذا؟ امتثال الأوامر الربانية الشرعية، فمتى يحكم العقل بوجوب الامتثال؟ يعني ما هو الموضوع الذي إذا تحقق حكم العقل بوجوب الامتثال؟
[الفرق بين الشوق والإرادة]
فيقال حينئذٍ إن موضوع حكم العقل بوجوب امتثال التكليف ليس مطلق الشوق، فشوق المولى ما لم يصل إلى مرتبة تحريك عضلات المولى نحو ما بيده من مقدمات المطلب، وما لم يحركه بحيث يجعل العبد ماذا؟ مندفعًا متحركاً، هذا لا يقال له إرادة.
فإن العقل غاية ما يوجب على العبد في مقام العبودية أن تكون عضلاته وقواه بمنزلة عضلات المولى وقواه، فالشوق الذي لا يحرك عضلات المولى ويجعل المولى يبرز إرادته بداعي تحقيق الغرض، هذا الشوق لا يجب أن يحرك العبد نحو المطلب ونحو المقصود والمطلوب.
[الشوق المحرك للإرادة التشريعية]
إذًا الشوق الذي يحرك العبد نحو المطلوب ونحو المقصود هو خصوص الشوق الذي يحرك عضلات المولى لكي يُبرز مراده للعبد في صورة طلب.
إذا عرفنا هذه النكتة وهي اشتراط وصول شوق المولى إلى درجة توجب أن تحرك عضلاته بحيث يبعث العبد نحو الفعل فيُصدر له التشريع لكي يحركه.
[النكتة المركزية في الإرادة التشريعية]
إذًا الآن لب النكتة هي ماذا؟ لُب النكتة في الإرادة التشريعية هي ماذا؟ إن شوق المولى يبلغ إلى درجة يحرك عضلاته بحيث يحرك العبد نحو الفعل.
هذه النكتة لا تقتضي اشتراط أن يصدر من المولى ما يمكن أن يكون باعثًا للعبد بالفعل، بل يكفي بلحاظها أن يصدر منه إنشاء يكون في معرض الباعثية في عمود الزمان، فإن هذا المقدار كافٍ لحكم العقل على العبد بالانبعاث في وقت الواجب، سواء كان باعثاً بالإمكان فعلاً أو لا.
ومحصل الجواب: إن لُب الإرادة التشريعية هي بلوغ شوق المولى نحو الفعل كالصلاة بحيث تتحرك عضلات المولى لكي يبعث العبد نحو الصلاة.
إذًا الملاك في الإرادة التشريعية وجود هذه الباعثية، وهنا قلنا لا تلازم بين البعث الفعلي والانبعاث الفعلي، وإلا لو توجد ملازمة يلزم أن لا يوجد عاصي.
وكذلك نقول: من قال أنه لا بد من الفعلية بين الإمكانيين «إمكان البعث وإمكان الانبعاث»؟! فالإشكال مبني على أن البعث من المولى كان فعليًا عند الغروب، وانبعاث العبد نحو الصلاة ليس بفعلي عند الغروب وإنما يصبح فعليًا عند الفجر، وهذا تفكيك بين فعلية البعث وفعلية الانبعاث.
والإشكال هنا: من قال باشتراط الفعلية بين البعث والانبعاث؟! من قال إذا البعث فعلي - يعني إذا أمكن البعث فعلاً - لا بد أن يمكن الانبعاث فعلاً؟! نحن لا نلتزم بفعلية الإمكانيين، فيمكن أن يكون البعث فعليًا عند الغروب، وإمكان الانبعاث ليس فعليًا وإنما في طول عمود الزمان.
وهنا إذا هل هلال شهر رمضان ثبت الوجوب وأصبح الوجوب فعليًا، أي أنه يمكن للمولى أن يبعث العبد نحو الصلاة (الصوم)، وكذلك يمكن للعبد أي يصلي (يصوم)، لكننا لا نشترط فعلية إمكان الصلاة (الصوم)، لأنه عند الغروب فعلاً لا يمكن للعبد أن يصوم ـ مو الصلاة الصوم ـ لا يمكن أن يصوم لأنه لم يطلع الفجر، لكن إذا تحقق القيد وهو طلوع الفجر، أمكن للعبد أي يصوم.
خلاصة الجواب:
منشأ إشكال التقريب الثاني هو دعوى الملازمة بين فعلية إمكان البعث وفعلية إمكان الانبعاث، وهذا لا نلتزم به، بل هناك تضايف بين إمكان البعث وإمكان الانبعاث، هذا التضايف لا يلزم الفعلية في الطرفين، بل يقتضي أنه إذا أمكن البعث أمكن الانبعاث ولو في امتداد عمود الزمان، فلا نشترط الملازمة بين فعلية إمكان البعث وفعلية إمكان الانبعاث، بل نقول: توجد ملازمة بين إمكان البعث وإمكان الانبعاث في طول عمود الزمان.
وبالتالي حلينا المشكلة، لأن منشأ الإشكال توهم التلازم بين فعلية البعث وفعلية الانبعاث، وهذا لا نُسلم به.
هذا تمام الكلام في الجواب الحلي، الجواب النقضي، يأتي عليه الكلام.