47/03/30
الدرس (مائتان وثمانية وثلاثون): الإشكال الثاني على الواجب المعلق
الموضوع: الدرس (مائتان وثمانية وثلاثون): الإشكال الثاني على الواجب المعلق
الإشكال الثاني على الواجب المعلق: لزوم الانفكاك بين الإرادة التشريعية والمراد التشريعي.
ويمكن توضيح الإشكال الثاني بأحد تقريبين:
التقريب الأول: ما أشار إليه صاحب الكفاية ناسباً له إلى بعض معاصريه[1] ، وأوضحه المحقق الأصفهاني رحمه الله[2] .
وحاصل عبارة المحقق الأصفهاني عبارة عن مجموع مقدمتين:
المقدمة الأولى: إن المراد بالإرادة التكوينية لا يتخلف عن الإرادة التكوينية، فلا يوجد تفكيك بين المراد التكويني والإرادة التكوينية، وليس معنى هذا أن الإنسان فعال لما يريد ولا يعجزه شيء، بل بمعنى أن الإنسان حيث يعجز عن شيء لا يريده، فإذا لم يقدر الإنسان على شيء لا يريده، وإرادة الإنسان لشيء لا تأتي إلا عند تمامية ما هو دخيل في تحريك عضلاته نحو ذلك الشيء.
خلاصة المقدمة الأولى: لا انفكاك بين الإرادة التكوينية والمراد التكويني، بمعنى أن الإنسان إذا أراد شيئاً كان قادراً عليه، وإذا لم يكن قادراً على شيء فهو لا يريده.
المقدمة الثانية: إن الإرادة التشريعية على وزان الإرادة التكوينية، فكما يستحيل انفكاك الإرادة التكوينية عن المراد التكويني، كذلك يستحيل انفكاك الإرادة التشريعية عن المراد التشريعي.
[إشكالية التفكيك بين الإرادة التشريعية والمراد التشريعي في الواجب المعلّق]
إذاً لا يمكن أن تكون الإرادة التشريعية مطلقة وثابتة عند غروب هلال شهر رمضان، لكن الصوم المراد مقيد بطلوع الفجر، فتكون الإرادة التشريعية فعلية عند غروب الشمس والمراد التشريعي وهو صوم أول يوم من شهر رمضان غير فعلي نظراً لعدم طلوع الفجر، هذا تفكيك بين الإرادة التشريعية والمراد التشريعي.
وجوابه باختصار (لأننا سنفصل في الإشكال وجوابه، أخاف تضيعون، أخذنا الجواب الآن الإشكال باختصار والجواب أيضاً باختصار):
والجواب: لا مانع في التفكيك بين الإرادة التشريعية والمراد التشريعي إذا تخلف الشرط المطلوب في المراد، فهنا إرادة تشريعية وهي صوم شهر رمضان تثبت من غروب هلال شهر رمضان، وهناك مراد تشريعي وهو صوم اليوم الأول من شهر رمضان، هذا المراد التشريعي فيه شرطٌ وهو طلوع الفجر، فقبل طلوع الفجر لم تتحقق قابلية القابل، لم تتحقق قابلية الصوم، إذ أن المولى لم يشرع الصوم في أي وقت، ولم يشرع الصوم من حين الغروب، بل شرع الصوم بشرط وهو طلوع الفجر.
فإذا انتفى هذا القيد كما لو كان في الليل، فحينئذ هذا الليل ليس بقابل لتحقق المراد التشريعي، وبالتالي لا مانع من التفكيك بين الإرادة التشريعية عند الغروب والمراد التشريعي عند طلوع الفجر إذا تحقق شرط وهو الفجر الذي يحقق قابلية القابل أي قابلية اليوم لكي يُصام.
هذا الإشكال باختصار والجواب باختصار سهل، الآن ندخل في التفاصيل، إن شاء الله، ما نضيع في التفاصيل.
ولنرجع إلى كل واحدة من المقدمتين لنرى البيان التفصيلي لها.
فنقول:
المقدمة الأولى: إن الإرادة التكوينية لا يمكن أن تنفك عن المراد التكويني.
[تحليل أنواع حركة الإنسان: بين الحركات غير الاختيارية والاختيارية]
النوع الأول: إن جسم الإنسان تارة يتحرك كتحرك الحجر والماء، حركة ناشئة من أسباب خارجية بلا ربط للنفس الإنسانية المدبرة بذلك، وهذه الحركة هي حركة غير اختيارية، مثل حركة القلب ودقاته وحركة الرئة وحركة الكلية، وهذه الحركة خارجة عن محل الكلام كلامنا في المجال التشريعي وهو غير ناظر إلى الحركات غير الاختيارية.
النوع الثاني: الحركات الاختيارية، وهذه الحركات الاختيارية هي التي يتميز بها الإنسان عن سائر الجمادات، وهذا التحريك ناشئ مما أودعه الله في جسم الإنسان من عضلات متفرقة في الجسم، وهذه العضلات تثير الجسم وتحركه، والمحرك لهذه العضلات النفس البشرية في مرتبة من المراتب.
[مراتب الشوق في النفس البشرية وأثرها في تحريك العضلات]
فالنفس البشرية لها مراتب، أي أن النفس البشرية تشتاق لفعل شيء، وهذا الشوق على مراتب: فقد تشتهي أن تشرب الشاي أو النسكافيه لكن بصورة ضعيفة، فتقول: أنام أفضل من أن أشرب المشروبات المنبهة، فهذا الشوق الضعيف لا يحرك العضلات نحو شرب الشاي.
ولكن أحياناً تشتاق إلى شرب الشاي أو النسكافيه وأنت تشعر بالنعاس وتريد أن تحضر الدروس أو تلقي كلمة عرمرمية، فإن هذا الشوق يصل إلى مرتبة يؤكد تحريك العضلات نحو إعداد الشاي وشربه، هذا الشوق البالغ لهذه المرتبة المحركة للعضلات نطلق عليه الشوق الكامل.
إذاً النفس البشرية لها عضلات، والنفس البشرية لها شوق، وهذا الشوق إذا بلغ مرتبة الكمال والتمام حرك العضلات، إذاً هذا تأثير أمر نفساني وهو الشوق في أمر نفساني وهو تحريك العضلات.
[استحالة انفكاك الشوق الكامل عن تحريك العضلات: تحليل الفرضيات الثلاثة]
والمدعى أنه حينما لا يوجد تحرك للعضلات، إذاً لا يوجد شوق كامل، لأنه إذا وجد الشوق الكامل ولم يوجد متعلقه وهو تحريك العضلات، فهذا لا يخلو من احتمالاتٍ ثلاثة كلها غير معقول:
الاحتمال الأول: أن يكون ذلك من باب انفكاك المعلول عن العلة، وهذا مستحيل. انفكاك المعلول وهو تحريك العضلات عن العلة وهي الشوق الكامل، وقانون العلية يرى: إذا ثبتت العلة وصارت فعلية وهي الشوق الكامل في موطن بحثنا، ثبت المعلول وأصبح فعلياً وهو تحرك العضلات.
الاحتمال الثاني: كونه من باب عدم المقتضي، بأن نفرض أن المقتضي أمراً خارجياً كنزول المطر أو هبوب الرياح، لا الشوق النفساني، وهذا أيضاً باطل، لأن العضلات لا تأتمر بالأمور الخارجية كنزول المطر أو النار أو الرياح أو الثلج، وإنما تأتمر العضلات بشوق النفس ولا تأتمر العضلات لغير النفس، ولا تتأثر العضلات بغير مؤثر نفساني.
فإذا هبوب الرياح حركت الإنسان، فهذا من قبيل تحريك الحجر، يعني حركة غير اختيارية، تأتي الرياح وتقلع الإنسان ببیته، هذه حركة غير اختيارية وهذه خارجه عن موطن بحثنا، إذ بحثنا في الحركة الاختيارية.
الاحتمال الثالث: أن یقال بأن المقتضي للتحريك العضلي موجود وهو الشوق الكامل، لكن الشرط غير موجود، لأن الشرط هو طلوع الفجر مثلاً وهو غير موجود، وهذا أيضاً ساقط في الحركة التكوينية، لأن الشرط إما متممٌ لفاعلية الفاعل أو متممٌ لقابلية القابل، وكلاهما غير صحيح في المقام.
[تحليل دور الشرط في تحقق الفعل: بين فاعلية الفاعل وقابلية القابل]
أما الأول وهو الشرط المتمم لفاعلية الفاعل، فيراد به هو الذي يحصص الفاعل، تقول: النار الملاقية للورقة هي المحرقة، فهنا حصصت النار حصتين: حصة النار الملاقية وحصة أخرى النار غير الملاقية، فالشرط المتمم لفاعلية الفاعل وفاعلية النار في الإحراق مرجعه إلى تحصيص الفاعل، فالنار الملاقية هي التي تحرق، وأما في المقام فطلوع الفجر ليس من عوارض الفاعل، ما هو الفاعل في بحثنا؟ الشوق الكامل وشؤونه، طلوع الفجر لا مدخلية له في تحقق الشوق الكامل.
وأما الثاني وهو أن يرجع الشرط إلى قابلية القابل، فلأن القابل في موطن بحثنا هو القوة العضلية، والقوة العضلية فعلاً قابلة لأن تتحرك متى ما وجدت علتها وهي الشوق الكامل.
إذاً يستحيل أن لا تتحرك العضلات إذا توفرت علتها وهي الشوق الكامل.
النتيجة النهائية: لا يُعقل التفكيك بين الإرادة التكوينية وعلتها الشوق الكامل وبين المراد التكويني ويراد به حركة العضلات نحو الشيء.
المقدمة الثانية: تشبيه الإرادة التشريعية بالإرادة التكوينية وتحليل موارد الانفكاك
إن الإرادة التشريعية كالإرادة التكوينية، فكما لا تنفك الإرادة التكوينية عن المراد التكويني، كذلك لا تنفك الإرادة التشريعية عن المراد التشريعي، وليس المراد بذلك أن كل إرادة تشريعية لابد أن يوجد مرادها، فالمولى يريد تحقق الصلاة والصوم والحج وعدم تحقق الزنا وشرب الخمر واللواط، وفي الواقع ما أكثر اللي ما يصلون ولا يحجون! وما أكثر اللي يزنون!
[الفرق بين الإرادة التكوينية والتشريعية: المباشرة والواسطة في تحقق المراد]
لو قيل أن كل إرادة تشريعية لابد أن يوجد مرادها التشريعي للزم أن لا يوجد عاص في الكون، وما أكثر العصاة!
وإنما المقصود إن الإرادة التشريعية نقطة الضعف فيها عن الإرادة التكوينية إنما هي أن الإرادة التكوينية محركة رأساً ومباشرة للمراد التكويني من دون واسطة: أرفع يدي وأرفع الكتاب، هذه إرادة تكوينية لا توجد واسطة بين حركة يدي وحركة الكتاب، لا توجد واسطة بين الإرادة التكوينية الشوق الكامل في رفع الكتاب وبين المراد التكويني تحريك العضلات لرفع الكتاب.
لكن في الإرادة التشريعية توجد واسطة، إذ أن المشرع والمريد يتوجه إلى تحريك غير المريد نحو المراد، فأقول: شيخنا ارفع الكتاب، فهنا من المريد؟ أنا المشرع. ما هو المراد؟ رفع الكتاب. ما هي الواسطة؟ أنت الذي الذي أنت غير المريد.
إذاً في الجانب التكويني لا توجد واسطة بين المريد والمراد، بينما في الجانب التشريعي توجد واسطة بين المريد والمراد وهو غير المريد.
شيخنا تفضل اشرب شاي، ما أريد شاي، اسكب الشاي للإخوان. هنا المريد هو من أمر بسكب الشاي، والمراد أن يكون الشاي مسكوباً. ما هي الواسطة؟ غير المريد وهو الذي يصب الشاي.
[معالجة ضعف الإرادة التشريعية: فرض الانقياد التام للواسطة]
فهذه نقطة ضعف في الإرادة التشريعية، فقد يكون غير المريد غير ممتثل يعصي ما يشرب الشاي، يقول: أنا ما أسكب الشاي، راتبي ما نزلته، ما أسكب الشاي، هذه نقطة ضعف في الإرادة التشريعية غير موجودة في الإرادة التكوينية.
لكن يجبر هذا النقص وهذا الضعف بكون غير المريد منقاد للمريد. يقول له: ما يعطونك راتب وبعد تسكب الشاي؟ قال: أنا أعشق هذا الشيخ، عطاني راتب لو ما عطاني راتب أصب الشاي.
فمع فرض انقياد غير المريد للمريد يُجبر الضعف بين الإرادة والمراد.
إذاً الضعف الموجود في الإرادة التشريعية ينجبر بفرض الكلام في العبد المنقاد تمام الانقياد للمريد، ففي هذا الفرض تصبح الإرادة التشريعية كالإرادة التكوينية لا يُعقل انفكاكها عن المراد.
[النتيجة: استحالة الانفكاك في حال الانقياد الكامل]
إذاً كما أنه لا يُعقل الانفكاك بين الإرادة التكوينية والمراد التكويني، كذلك لا يُعقل الانفكاك بين الإرادة التشريعية والمراد التشريعي فيما إذا كانت الواسطة منقادة تماماً للمريد.
مناقشة تقرير المحقق الأصفهاني حول الواجب المعلّق
ففي الواجب المعلق تكون الإرادة فعلية عند الغروب، والمراد لا يكون فعلياً عند الغروب وإنما يكون فعلياً عند طلوع الفجر في مثال وجوب صوم النهار من أول الليل، وهذا تفكيك بين الإرادة التشريعية عند غروب أول شهر رمضان وبين المراد التشريعي عند صيام أول يوم من شهر رمضان عند طلوع الفجر.
وهذا التقرير الذي أصر عليه المحقق الأصفهاني وكرره، إذ ذكره في كتاب بحوث في الأصول[3] ، وذكر تفصيل المقدمة الأولى وأصر عليها في نهاية الدراية[4] .
لكن هذا التقريب قابل للمناقشة: إذ أننا نفترض تأخر المراد عن الإرادة وتخلفه عنها لفقدان الشرط الذي هو متمم لقابلية القابل، فنفترض تأخر المراد وهو صوم أول يوم من شهر رمضان عن الإرادة التي هي إرادة الصوم عند هلال غروب ليلة شهر رمضان، لكن هذا المراد وهو صوم أول يوم من شهر رمضان فيه قيدٌ وشرطٌ وهو طلوع الفجر، وطلوع الفجر شرطٌ متمم لقابلية العضلات للتحريك.
تحليل قابلية العضلات للتحريك عند الغروب
وقولك إن قابلية العضلات للتحرك تامة، إنما يكون صحيحاً بلحاظ مطلق التحرك، ولكننا نفترض أن الشوق تعلق بحصة خاصة من التحرك ولم يتعلق بمطلق التحرك، وهو التحرك عند خصوص طلوع الفجر، وقابلية العضلات لهذه الحصة من التحرك غير تامة عند الغروب.
بشكل مختصر: عند هلال غروب شهر رمضان تحقق الشوق الكامل لتحريك عضلات الإنسان نحو الصوم، لكن هذا الشوق الكامل ليس لمطلق الصوم وليس لمطلق تحريك العضلات نحو الصوم، بل هذا الشوق الكامل إنما اتجه لحصة خاصة وهي خصوص الصوم بعد طلوع الفجر، ولا مانع من ذلك.
وبالتالي فليحصل تفكيك بين الإرادة التشريعية والمراد التشريعي، فالمولى عند الغروب لم يشتق إلى مطلق الصوم، بل اشتاق إلى حصة خاصة من الصوم، وهي خصوص حصة الصوم التي تنشأ بعد طلوع فجر اليوم الأول.
إذاً الشوق الكامل تعلق بالصوم المقيد بطلوع الفجر ولم يتعلق بمطلق الصوم، والقيد وهو طلوع الفجر يخضع لعوامل خارجية وليس تحت اختيار النفس، فأي استحالة في تخلف الشوق عن المشتاق إليه، نحن ذكرنا في نوعين، قلنا في هناك عوامل خارجية: تهب ريح وتحرك (واضح أو لا؟)، يطيح مطر يبللك، هذا أمر خارجي، وبحثنا في الإرادة التشريعية عن الأمور التي تحت اختيارك.
هذا تمام الكلام في التقريب الأول ودفعه.
التقريب الثاني يأتي عليه الكلام.