« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

47/03/28

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائتان وستة وثلاثون): التحقيق في معقولية الواجب المعلق

الموضوع: الدرس (مائتان وستة وثلاثون): التحقيق في معقولية الواجب المعلق

 

ذهب صاحب الفصول إلى الواجب المعلق[1] ، وقد ذكرنا صياغته، فهل هذه الصياغة معقولة ثبوتاً أو لا؟

مراحل البحث

يقع الكلام في تحقيق معقولية الواجب المعلق في ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: مرحلة الملاك

المرحلة الثانية: مرحلة الشوق والإرادة

المرحلة الثالثة: مرحلة الوجوب

ومن الواضح أن الواجب المعلق معقولٌ بلحاظ المرحلة الأولى والثانية، لكن وقع الكلام في معقولية الواجب المعلق بلحاظ المرحلة الثالثة، ولنشرع في بيان معقولية الواجب المعلق بلحاظ المراحل الثلاث:

[معقولية الواجب المعلّق بلحاظ عالم الملاك]

المرحلة الأولى: مرحلة عالم الملاك

ومن الواضح أن القسمة الثلاثية التي ذكرها صاحب الفصول تامة وصحيحة بلحاظ عالم الملاك.

بيان القسمة الثلاثية

بيان ذلك: إن الملاك إذا نُسب إلى قيد، فتارة يكون القيد قيداً في أصل اتصاف الفعل بكونه ذا مصلحة، وهذا ما يصلح أن يكون قيداً في أصل ثبوت الوجوب بلحاظ المرحلة الثالثة.

وأخرى يكون القيد قيداً في ترتب مصلحة الملاك خارجاً، وهذا ما يصلح أن يكون قيداً في الواجب بلحاظ المرحلة الثالثة.

الشق الثاني وفروضه

وبناءً على الشق الثاني، وهو أن القيد من قيود شروط الترتب لا من قيود شروط الاتصاف، فهنا يوجد فرضان:

الفرض الأول

أن يُفرض أن هذا القيد اختياري وتحت تناول اليد بحيث يمكن التحريك نحوه، كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة، فإنه في المتناول، فهذا هو المنجز.

الفرض الثاني

وتارة يكون القيد غير اختياري مع كونه من قيود ترتب المصلحة، فهذا هو المعلق.

خلاصة القسمة

إذاً هذه القسمة الثلاثية التي ذكرها صاحب الفصول تامة بلحاظ عالم الملاك، وهكذا قال، قال: القيد إما يرجع إلى أصل الوجوب، مثل الاستطاعة بالنسبة إلى الحج، فهنا الاستطاعة تكون من قيود أصل الاتصاف لا من قيود ترتب المصلحة.

وتارة يكون القيد لا يرجع إلى شروط أصل المصلحة، بل يرجع إلى شروط ترتب الاتصاف، فهنا هذا القيد إما يكون اختيارياً مثل الوضوء بالنسبة إلى الصلاة، وإما أن يكون غير اختياري مثل طلوع فجر اليوم الأول من شهر رمضان بالنسبة إلى وجوب الصوم.

إذاً هذه القسمة الثلاثية معقولة بلحاظ عالم الملاك.

المرحلة الثانية: عالم الشوق والإرادة والحب والبغض

وهنا أيضاً تكون القسمة الثلاثية معقولة، لأن المولى إذا اشتاق إلى فعل ولاحظ قيداً أو قيوداً قد أخذها في ذلك الفعل، فهنا يوجد شقان:

الشق الأول: القيد في أصل الاشتياق

أن يكون هذا القيد دخيلاً في أصل اشتياق المولى للفعل أو دخيلاً في أصل بغض المولى للفعل، وهذا ما نسميه بالإرادة المشروطة أو الواجب المشروط، ويمكن إرجاع الإرادة المشروطة إلى إرادتين: إرادة مطلقة وإرادة أخرى مشروطة.

هذا الشق الأول: أن يكون القيد داخلاً في أصل الحب، أصل البغض، أصل الاشتياق.

الشق الثاني: القيد في المحبوب

أن يكون القيد داخلاً في المحبوب لا في الحب، في المشتاق إليه لا في أصل الاشتياق، وهنا في هذا الشق الثاني يوجد احتمالان:

الاحتمال الأول: أن يكون اختيارياً.

الاحتمال الثاني: أن يكون غير اختياري، وهذا غير الاختياري هو المعلق.

 

خلاصة المرحلة الثانية

إذاً القسمة الثلاثية لصاحب الفصول تامة أيضاً بلحاظ المرحلة الثانية: عالم الحب والشوق، لأن القيد إما دخيل في أصل الحب وإما دخيل في المحبوب. إذا في أصل الحب، هذا الوجوب المشروط، القيد دخيل في الوجوب.

إذا في المحبوب، يعني في الواجب، هذا المحبوب... هذا القيد الذي في المحبوب إما اختياري فهذا واجب منجز مثل الوضوء بالنسبة إلى الصلاة، وإما غير اختياري فهذا واجب معلق مثل طلوع فجر اليوم الأول من شهر رمضان بالنسبة إلى وجوب الصوم.

[دفع إشكال الشهيد الصدر على الواجب المعلّق: الفرق بين شروط الاتصاف وشروط ترتّب المصلحة]

إذاً ما ذكره صاحب الفصول من قسمة ثلاثية تامٌ بلحاظ عالم الملاك وعالم الإرادة، ولا يرد على الواجب المعلق ما أورده الشهيد الصدر رحمه الله على الشيخ الأعظم الأنصاري في الواجب المشروط[2] ، حيث ناقشه الشهيد الصدر قائلاً بأن لازم الواجب المشروط جعل القيد قيداً في المتعلق وفي المحبوب لا في الحب، ولازم هذا ترشح الحب الغيري على هذا القيد[3] .

هذا الإشكال أورده الشهيد الصدر على الشيخ الأنصاري، لأن الشيخ الأنصاري يرى أن القيود المأخوذة في المحبوب هي قيود الاتصاف وليست شروط ترتب المصلحة، بينما صاحب الفصول يرى أن القيد قد أُخذ في المحبوب، لكن هذا القيد وهذا الشرط من شروط ترتب المصلحة وليس من شروط أصل الاتصاف.

الفرق بين الشيخ الأنصاري وصاحب الفصول

إذاً يشترك الشيخ الأنصاري مع صاحب الفصول في كون القيد والشرط قد أُخذ في المحبوب لا في أصل الحب، لكنهما يختلفان في طبيعة وماهية هذا القيد والشرط، فالشيخ الأنصاري يرى أن هذا الشرط من شروط الاتصاف، وصاحب الفصول يرى أن هذا الشرط من شروط ترتب المصلحة، وفرق بين شرط اتصاف الفعل بالمصلحة وبين شرط ترتب المصلحة على ذلك الفعل.

ومن الواضح أن قيود الاتصاف لا يُعقل انقداح الشوق نحوها، بل قد تكون مبغوضة، لذلك يرد الإشكال على الشيخ الأنصاري.

[دفع إشكال ترشّح الشوق الغيري على القيود غير الاختيارية]

لكن صاحب الفصول يقول: هذا الشرط ليس من شروط الاتصاف كما يقول الشيخ الأنصاري، بل هذا الشرط من شروط ترتب المصلحة، يعني قيد من قيود ترتب الملاك على الفعل، هذه القيود التي هي قيود ترتب الملاك تارة تُؤخذ بنحو يترتب ويترشح التحريك عليها فتكون مقدورة وواجبة ومطلوبة، وأخرى بنحو لا يترشح التحريك عليها ولا تجب، بل تُؤخذ بوجودها الاتفاقي أو كونها غير اختيارية للمكلف.

بالتالي بناءً على مبنى صاحب الفصول لا يرد إشكال لزوم ترشح الشوق الغيري نحو هذا القيد إذا كان قيداً للمراد وكان أمراً غير اختياري، إذ لا مانع من الشوق إلى أمر غير اختياري. ما المانع أن يشتاق المولى أو الإنسان إلى أمر غير اختياري؟!

عموماً إلى هنا اتضح أن الواجب المعلق معقول بلحاظ المرحلة الأولى وهي مرحلة الملاك، وبلحاظ المرحلة الثانية وهي مرحلة الشوق.

المرحلة الثالثة: مرحلة الوجوب والتحريك

يبقى الكلام في معقولية الواجب المعلق بلحاظ مرحلة الوجوب والتحريك.

أهم الإشكالات المطروحة

وأهم الإشكالات على ذلك إشكالين:

[ الإشكال الأول: هل الواجب المعلّق جديد أم هو الواجب المشروط؟]

وحاصله إن الواجب المعلق إما أن نُرجعه إلى الواجب المشروط فلم نأتِ بجديد، وإما أن يكون غير معقول، وهذا الإشكال والاعتراض هو الأهم.

[تحليل القيد: طلوع الفجر وهلال عرفة]

تفصيل ذلك: إن القيد غير الاختياري أو الاتفاقي مثل قيد طلوع الفجر بالنسبة إلى وجوب صوم شهر رمضان، أو قيد يوم عرفة هلال عرفة بالنسبة إلى وجوب الحج. هنا نسأل: هل طلوع الفجر أُخذ قيداً في الصوم الواجب؟ وما هو نحو هذا الشرط؟ فهذا الشرط إما مقارن وإما متأخر.

فنقول هكذا: وجوب الصوم من أين حصل؟ من هلال شهر رمضان. والصوم الواجب مشروط بشرط متأخر وهو طلوع الفجر. وهكذا وجوب الحج من تحقق الاستطاعة، لكن يوجد شرط متأخر وهو هلال يوم عرفة وهو التاسع من ذي الحجة.

هذا إذا قلنا بالشرط المتأخر، يعني يكون الوجوب حادثاً وفعلياً من هلال شهر رمضان أو من تحقق الاستطاعة، لكن هذا الوجوب مشروط بنحو الشرط المتأخر بطلوع الفجر بالنسبة إلى وجوب الصوم وهلال عرفة بالنسبة إلى وجوب الحج.

وإما أن نقول إن طلوع الفجر أو هلال عرفة لم يُؤخذ في وجوب الحج أو الصوم بنحو الشرط المتأخر، بل بنحو الشرط المقارن.

هذا احتمالين، فلنتكلم على كلا الاحتمالين:

[ الاحتمال الأول: القيد مأخوذ بنحو الشرط المتأخر]

أما الشق الأول، الاحتمال الأول: أن يُؤخذ القيد بنحو الشرط المتأخر، يعني يكون طلوع الفجر أُخذ قيداً في الواجب بنحو الشرط المتأخر.

هنا يوجد مبنيان:

المبنى الأول: استحالة الشرط المتأخر (الميرزا النائيني)

من يرى استحالة الشرط المتأخر مثل الميرزا النائيني[4] ، فبناءً على مبنى الميرزا النائيني يلزم من الالتزام بالشرط المتأخر أن يكون الواجب المعلق مستحيل، إذ يستحيل أن يكون الوجوب حادثاً من الغروب ومنوطاً بأمر متأخر وهو طلوع الفجر بعد ذلك.

بل لا بد أن يكون طلوع الفجر شرطاً مقارناً، يعني وجوب الحج يصير مقارن ليوم عرفة، ووجوب الصوم يصير مقارن لطلوع فجر اليوم الأول من شهر رمضان، يعني الوجوب والواجب في وقت واحد.

هذا المبنى الأول، بناءً على المبنى الأول للميرزا النائيني يلزم الالتزام بالاستحالة.

المبنى الثاني: إمكان الشرط المتأخر

من يقول بإمكان الشرط المتأخر يقول: هذا معقول، فيصير الواجب المعلق معقول، لكنك لم تأتِ بجديد، لأنه قسم من الواجب المشروط، الحج واجب ومشروط بهلال عرفة، الصوم واجب ومشروط بطلوع الفجر، فمن يرى إمكانية ومعقولية الشرط المتأخر فإنه يرى أن هذا معقول، لكنه ليس بشيء جديد، بل هو عبارة عن الواجب المشروط، ولا فرق بين الواجب المشروط والواجب المعلق.

إذاً من يقول بإمكان الشرط المتأخر يقول: هذا معقول، والأولى أن يُقال هكذا: إن الواجب المشروط تارة يكون الوجوب فيه مشروطاً بشرط مقارن، وأخرى يكون مشروطاً بشرط متأخر، دون أن يكون هذا الواجب المعلق في مقابل الواجب المشروط.

هذا إذا قلنا بالشق الأول، ما هو الشق الأول؟ أنه بنحو الشرط المتأخر.

الاحتمال الثاني: القيد لم يُؤخذ في الوجوب أصلاً

الشق الثاني وهو أن قيد طلوع الفجر لم يُؤخذ في الوجوب أصلاً، لا بنحو الشرط المقارن ولا بنحو الشرط المتأخر، وعليه يكون الوجوب فعلياً من حين الغروب، ويكون وجوب الحج فعليا من حين الاستطاعة، يصير وجوب الصوم مطلق من ناحية طلوع الفجر، ووجوب الحج مطلق من ناحية هلال يوم عرفة، فإذا كان وجوب الصوم فعلياً من حين الغروب، كانت فاعليته أيضاً فعلية لا محالة، لأن الفاعلية مساوقة للفعلية، إذا الوجوب فعلي يعني فاعليته ومحركيته موجودة، فيكون فاعلاً ومحركاً بالفعل نحو ذلك القيد.

جيد، هذا المقيد غير اختياري فعلاً، طلوع الفجر غير اختياري وهلال عرفة غير اختياري للمكلف، فيلزم أن يكون الوجوب الفعلي محركاً نحو أمر غير اختياري وغير مقدور، ويستحيل التكليف بغير المقدور، فتصير النتيجة: بناءً على ذلك يلزم التكليف بغير المقدور.

خلاصة الإشكال

القيد كطلوع الفجر، هذا القيد هل أُخذ في الوجوب؟ أو لم يُؤخذ في الوجوب؟

إذا أُخذ في الوجوب، هذا الذي أُخذ في الوجوب أُخذ بنحو الشرط المقارن أو بنحو الشرط المتأخر؟

إذا قلنا بنحو الشرط المتأخر، بناءً على مبنى الميرزا النائيني غير معقول مستحيل.

بناءً على مبنى من يرى جوازه، شيصير؟ يصير معقولاً، لكن هذا نفسه الواجب المشروط وليس بجديد.

وأما إذا قلنا هذا الشرط ماذا؟ ليس متأخراً، هذا الشرط مقارن، جيد، هذا الشرط المقارن إذا هذا الشرط غير مقدور، وهذا لم يُؤخذ في الوجوب، يعني الوجوب فعلي، وجوب الحج ووجوب الصوم فعلي، إذا فعلي يعني يحرك نحو الواجب، الواجب أُخذ فيه قيد غير اختياري، أُخذ فيه طلوع الفجر وليس باختيار المكلف، أُخذ فيه هلال عرفة وليس باليد، فيلزم التحريك نحو أمر غير مقدور، ويستحيل التكليف بغير المقدور.

هذا تمام الكلام في بيان الإشكال والاعتراض الأول، يبقى الكلام في كيفية دفعه، يأتي عليه الكلام.


logo