« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

47/03/27

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائتان وخمسة وثلاثون): الواجب المعلّق: فصلٌ في شروطه والفرق مع المشروط

الموضوع: الدرس (مائتان وخمسة وثلاثون): الواجب المعلّق: فصلٌ في شروطه والفرق مع المشروط

 

الواجب المعلق والمنجز

والأصلُ في هذا التقسيم ما ذكره صاحب الفصول رحمه الله[1] .

وقبل أن نتطرَّق إلى كلامه رحمه الله، والفارق بين كلامه في الواجب المعلَّق وكلام الشيخ الأعظم الأنصاري في الواجب المشروط، لا بأس ببيان المراد بالواجب المعلَّق مع ذكر مثالين.

تعريف الواجب المعلَّق

الواجبُ المعلَّق في علم الأصول هو الواجب الذي تعلَّق به الأمرُ من الشارع، لكنَّ امتثالَه متوقِّفٌ على حصول شرطٍ في المستقبل. ولنضرب مثالين:

المثال الأول: وجوب الحج

وجوبُ الحجِّ على من تحقَّقت له الاستطاعة: فـ بتحقُّق الاستطاعة يثبت وجوب الحجِّ في ذمَّته وعُهدته، فيكون الوجوب فعليًّا، لكنَّ امتثال الحجِّ الواجب متوقِّفٌ على دخول أشهر الحجِّ والسفر إلى بيت الله الحرام.

إذًا الواجبُ المعلَّق هو ما ثبت وجوبُه بالفعل، لكن زمان امتثاله لم يحن بعدُ، بل توقَّف وتعلَّق بأمرٍ في المستقبل.

أتذكر هذا المبحث حضرته يومًا واحد بحث المرجع الكبير الشيخ جعفر السبحاني - كان يُكرِّر هذه الكلمة: "الوجوب فعلي والواجب استقبالي".

الوجوب الفعلي يتحقَّق بتحقُّق الاستطاعة في أشهر الحجِّ، لكن الحجَّ الواجب لا يمكن أن يأتي به إلا في عرفة، إذ أن الحجَّ عرفة وهو اليوم التاسع من شهر ذي الحجَّة.

المثال الثاني: وجوب الصوم في شهر رمضان

وجوبُ الصوم في شهر رمضان، فوجوب الصوم يتحقَّق بثبوت هلال شهر رمضان، لكن امتثال هذا الصوم الواجب متوقِّفٌ على مجيء زمانه وهو طلوع الفجر من أول يوم من شهر رمضان.

فهنا الوجوب فعلي، إذ أن وجوب الصوم يدخل في ذمَّة وعُهدة المكلَّف بثبوت هلال شهر رمضان من الغروب، لكن الواجب أي الصوم الواجب استقبالي معلَّق على أمرٍ غير اختياري وهو طلوع الفجر من شهر رمضان.

[خصائص الشرط في الواجب المعلّق]

إذًا الواجبُ المعلَّق هو الواجب الذي تعلَّق به أمر الشريعة كالصوم أو الحجِّ، لكن امتثال هذا الواجب يتوقَّف على حصول شرطٍ في المستقبل، هذا الشرط الذي يكون في المستقبل قد يكون غير مقدورٍ للمكلَّف كطلوع الفجر، وقد يكون اتفاقيًّا كما لو اتفاقًا تواجد في مكة يوم التاسع من ذي الحجَّة.

الفارق بين الواجب المعلَّق والواجب المشروط

والفارق بين الواجب المعلَّق عند المحقِّق الأصفهاني صاحب الفصول والواجب المشروط عند الشيخ الأعظم الأنصاري هو أن الواجب المشروط لا يثبت فيه الوجوبُ إلا عند تحقُّق الشرط.

مثال ذلك: وجوب الحجِّ مشروطٌ بالاستطاعة، فالحجُّ واجبٌ مشروطٌ بالاستطاعة، فما لم تكن استطاعة فلا وجوب.

[الفرق الجوهري بين الواجب المعلّق والواجب المشروط]

إذًا الفارق بين الواجب المعلَّق والواجب المشروط أنه في الواجب المعلَّق يكون الوجوبُ فعليًّا والواجبُ استقباليًّا، بينما في الواجب المشروط لا يكون الوجوبُ فعليًّا، إذ أن شرط الوجوب لم يتحقَّق، فما لم تحصل استطاعة لا يتحقَّق الوجوب ولا يدخل وجوب الحجِّ في ذمَّة المكلَّف.

خلاصة الفارق

في الواجب المعلَّق: الوجوبُ ثابتٌ وفعليٌّ لكن الواجب مؤجَّلٌ ومعلَّقٌ على أمرٍ في المستقبل ومعلَّقٌ على أمرٍ قد يكون غير اختياريٍّ أو اتفاقيٍّ.

بينما في الواجب المشروط: لا يكون نفس الوجوب متحقِّقًا، فهو لم يثبت ولا يثبت إلا إذا ثبت الشرط.

هذا تمام الكلام في توضيح معنى الواجب المعلَّق عند صاحب الفصول والواجب المشروط.

عودة إلى كلام صاحب الفصول

ولنرجع إلى ما ذكره صاحب الفصول رحمه الله، حيث ذكر أن القيود التي تُؤخذ في الواجب على نحوين:

النحو الأول: أن تكون هذه القيود مأخوذة في الواجب بنحوٍ يترشَّح عليها الإلزام والتحريك من قِبل المولى.

النحو الثاني: أن تكون هذه القيود مأخوذة بنحوٍ لا يترشَّح عليها الإلزام والوجوب والتحريك.

[التقسيم الثلاثي للقيود]

ولذلك جعل القسمة ثلاثية:

بيان ذلك: إن القيد إما أن يكون مأخوذًا قيدًا للوجوب فيكون الواجب مشروطًا، وإما أن يكون مأخوذًا قيدًا للواجب ولا ثالث في البين.

[تفصيل القيد المأخوذ في الواجب]

فإذا قلنا بالثاني وهو أن القيد قد أُخذ في الواجب لا الوجوب، فهنا يوجد نحوان:

النحو الأول: أن يكون هذا القيد مأخوذًا في الواجب بنحوٍ يترشَّح عليه الإلزام والتحريك من قِبل المولى، أي أنه يجب تحصيله، فهذا هو الواجب المنجَّز.

والنحو الآخر: يكون القيد مأخوذًا في الواجب بنحوٍ لا يترشَّح عليه الإلزام والتحريك، فلا يجب تحصيله، فهو الواجب المعلَّق، وذلك بأن يُؤخذ القيد بوجوده الاتفاقي أو على نحو الصدفة.

خلاصة سريعة وسهلة

القيد إما أن يُؤخذ في الوجوب فهذا الواجب المشروط، وإما أن يُؤخذ في الواجب:

هذا القيد الذي أُخذ في الواجب إما يجب تحصيله فهذا الواجب المنجَّز، وإما لا يجب تحصيله فهذا الواجب المعلَّق.

تصير النتيجة: الواجبُ المعلَّق هو الواجب الذي أُخذ القيد في الواجب لا للوجوب، وهذا القيد ليس بواجب ولا يلزم إيجاده أو التحرُّك نحوه.

أنت ما يجب عليك أن تُحصِّل يوم التاسع من ذي الحجَّة، ولا يجب عليك أن تُحصِّل طلوع الفجر من أول شهر رمضان، فالوجوب فعليٌّ بهلال شهر رمضان وبتحقُّق الاستطاعة، والواجب استقبالي، الواجبُ هو صوم اليوم الأول من شهر رمضان والحجُّ في التاسع من ذي الحجَّة.

استحالة التحريك نحو القيد الاتفاقي أو غير المقدور

ومن الواضح أن الوجود المُقيَّد بالصدفة والاتفاق لا يُعقل التحريك نحوه، لأن وقوعه بسبب التحريك نحوه خُلفُ خلف كونه اتفاقيًّا، كما أنه لا يُعقل التحريك نحو قيدٍ غير مقدور، إذ يستحيل التكليف بغير المقدور.

وقد سُمِّي هذا القسم الثالث بالواجب المعلَّق.

تطابق المفهومين بين صاحب الفصول والشيخ الأنصاري

وبهذا يتَّضح أن الواجب المعلَّق الذي ذكره صاحب الفصول هو عين الواجب المشروط الذي ذكره الشيخ الأنصاري على ما نُسب إليه في تقريرات بحثه - يُراجع مطارح الأنظار تقرير كلنتري[2] ، إذ في هذا التقرير أرجع الواجب المشروط إلى هذا المطلب، إذ ادَّعى أن القيود تُؤخذ في الواجب ولا تُؤخذ في الوجوب، إلا أنها مأخوذة في الواجب بنحوٍ لا يترشَّح عليها الإلزام والتحريك، فيصير معنى الواجب المعلَّق عند صاحب الفصول نفس معنى الواجب المشروط المذكور في تقريرات الشيخ الأعظم الأنصاري.

[اختلاف التعبير لا يغيّر المعنى]

فالواجب المشروط في مطارح الأنظار لم تُرجع القيود إلى الوجوب، بل أُرجعت القيود إلى الواجب ولم يترشَّح الإلزام والتحريك على هذه القيود، فيصير تفنُّنًا في التعبير.

الفارق الدقيق بين الصياغتين

لكن يوجد فارقٌ بين الواجب المعلَّق عند صاحب الفصول وبين الواجب المشروط عند الشيخ الأنصاري.

بيان ذلك:

إن القيود على نحوين:

النحوالأول: قيود اتصاف

النحو الثاني: قيود ترتُّب المصلحة، وقد ذكرنا ذلك فيما سبق.

مثال قيود الاتصاف وقيود ترتُّب المصلحة

مثال النحو الأول: لو كان الجوُّ باردًا واحتجنا إلى تدفئة، أو كان الجوُّ حارًّا واحتجنا إلى تبريد ومكيِّف، فإن حرارة الجوِّ شرطٌ في اتصاف المكيِّف بالتبريد، وبرودة الجوِّ شرطٌ في اتصاف المدفئة بأنها تُدفِّئ، هذا سنخٌ من الشروط: شروط الاتصاف.

مثال النحو الثاني: ويوجد صنفٌ آخر وهو شرط ترتُّب المصلحة، كإغلاق النوافذ والأبواب، فلو كان الجوُّ باردًا وأشعلنا المدفئة، لكن تركنا الأبواب والنوافذ مشرعة مفتوحة فإن تركها مفتوحًا يجعل الحجرة لا تزال باردة ولا يحصل الدفء.

إذًا إغلاق الأبواب والنوافذ شرطٌ في ترتُّب المصلحة، أي أننا لا نستفيد من المدفئة إلا إذا أغلقنا الأبواب والنوافذ، ولا نستفيد من التكييف لتبريد الجوِّ إلا إذا أغلقنا النوافذ والأبواب.

تحليل نوع القيد: اتصاف أم ترتّب المصلحة؟

إذا اتَّضح هذا نقول: في الواجب المعلَّق عند صاحب الفصول والواجب المشروط عند الشيخ الأعظم الأنصاري أُخذ قيدٌ وشرط، ولكن هذا القيد أو الشرط هل هو من شروط الاتصاف كما في السنخ الأول، أو هو من شروط ترتُّب المصلحة كما في السنخ الثاني؟

رأي الشيخ الأنصاري: القيود من نوع الاتصاف

ولنرجع إلى كلماتهما وسنجد أن الشيخ مرتضى الأنصاري في تقرير بحثه مطارح الأنظار[3] قد استخدم صياغة الواجب المشروط بلحاظ قيود الاتصاف أي السنخ الأول، حيث ادَّعى أن القيود الدخيلة في اتصاف الفعل بكونه ذا مصلحة من قبيل تحقُّق الشتاء بالنسبة إلى النار كونها ذات مصلحة، أو تحقُّق الاستطاعة الدخيلة في اتصاف الحجِّ بكونه ذا مصلحة.

أمثلة توضيحية لقيود الاتصاف

إذًا ادَّعى الشيخ الأنصاري أن القيود التي تُؤخذ قيدًا في الواجب ولا تُؤخذ قيدًا في الوجوب إنما هي من قبيل قيود الاتصاف، يعني اتصاف الفعل بالمصلحة، اتصاف النار بأنها تُدفِّئ ما هو شرطه؟ الشتاء. اتصاف المكيِّف بأنه يُبرِّد ما هو شرطه؟ حرارة الصيف. فذكر الشيخ الأنصاري قيود وشروط الاتصاف في الواجب المشروط.

رأي صاحب الفصول: القيود من نوع ترتّب المصلحة

بينما صاحب الفصول في الواجب المعلَّق لا يدَّعي هذه الدعوى، إذ أنه يعترف بأن قيود الاتصاف إنما تكون مأخوذة في الوجوب لا الواجب، لكي يثبت الوجوب لا بد من شروط الاتصاف، يعني لكي يتَّصف الفعل بأن فيه مصلحة. هذا القيد يُحقِّق ماذا؟ يُحقِّق الوجوب مثلًا... الاستطاعة شرطٌ من شروط الاتصاف، يعني الحجُّ لا يتَّصف بالوجوب إلا إذا تحقَّقت الاستطاعة.

[الفرق في زاوية النظر بين صاحب الفصول والشيخ الأنصاري]

فصاحب الفصول يرى أن شروط الاتصاف التي هي السنخ الأول لا ترجع إلى الواجب بل ترجع إلى الوجوب.

وكلام صاحب الفصول في الواجب المنجَّز والمعلَّق ليس راجعًا إلى قيود الوجوب بل راجعًا إلى قيود الواجب.

فكلام صاحب الفصول رحمه الله ناظرٌ في قيود الواجب، ليس إلى شروط المصلحة بل إلى شروط ترتُّب المصلحة، وهو ما يُسمَّى بالمقدِّمات الوجودية الدخيلة في ترتُّب المصلحة خارجًا.

أمثلة تطبيقية لتمييز شروط الاتصاف وشروط ترتّب المصلحة

مثال ذلك: الاستطاعة من شروط الاتصاف وهي دخيلة في أصل تحقُّق وجوب الحجِّ، لكن حلول يوم التاسع من ذي الحجَّة شرطٌ لترتُّب مصلحة الحجِّ، وهكذا ثبوت هلال شهر رمضان شرطٌ لترتُّب وجوب الصوم، فثبوت الهلال من شروط ثبوت المصلحة، لكن هذه المصلحة متى تترتَّب؟ متى تتحقَّق؟ إذا طلع فجر اليوم الأول من شهر رمضان، فطلوع فجر اليوم الأول من شهر رمضان من شروط ترتُّب المصلحة.

خلاصة الفارق بين المدرستين

الشيخ الأنصاري في مطارح الأنظار في الواجب المشروط نظر إلى شروط الاتصاف.

صاحب الفصول الغروية في بحث الواجب المعلَّق والمنجَّز نظر إلى شروط ترتُّب المصلحة وقسَّمها إلى قسمين:

القسم الأول: شرطٌ يمكن تحصيله وباليد، يعني مقدور. هذا هو الواجب المنجَّز، فيُؤخذ هذا القيد الممكن تحصيله في الواجب بنحوٍ يمكن تحصيله فيصير الواجبُ منجَّزًا.

القسم الثاني: غير ممكن التحصيل، فيكون قيدًا في الواجب لكن لا بنحوٍ يترشَّح عليه الإلزام من المولى، إما لكونه غير اختياري بحسب طبعه كالزمان، وإما لاعتبار وجوده بعناية خاصة كأن يُؤخذ بنحو الاتفاق أو الصدفة فيكون غير اختياري أيضًا.

الخلاصة النهائية للفارق

صياغة صاحب الفصول للواجب المعلَّق ناظرة إلى قيود الترتُّب لا إلى قيود الاتصاف، وصياغة الشيخ الأنصاري في مطارح الأنظار ناظرة إلى شروط الاتصاف لا إلى شروط الترتُّب.

السؤال المطروح للبحث

يبقى الكلام في أن ما ذكره صاحب الفصول هل هو معقول في عالم الملاك أولًا، وعالم الشوق والإرادة ثانيًا، وعالم الاعتبار ثالثًا؟، أي الحكم ومبادئ الحكم بلحاظ الملاك أولًا والشوق والإرادة ثانيًا والاعتبار ثالثًا.

هل هذه الصياغة لصاحب الفصول معقولة أو لا؟ هذا ما يأتي عليه الكلام.

 


logo