46/11/01
الدرس (مائتان وواحد وثلاثون): المرحلة الثالثة مرحلة الجعل والاعتبار
الموضوع: الدرس (مائتان وواحد وثلاثون): المرحلة الثالثة مرحلة الجعل والاعتبار
]المرحلة الثالثة من الحكم: الجعل والاعتبار[
المرحلة الثالثة: مرحلة الجعل والاعتبار، ففي عالم الثبوت توجد ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى عالم الملاك.
المرحلة الثانية عالم الإرادة.
المرحلة الثالثة من مراحل الحكم، عالم الجعل، أي صياغة الحكم.
والمهم في عالم الثبوت هو المرحلتان الأوليان، أي الملاك والإرادة، فالأثر يترتب على الملاك والإرادة، فلو استطاع المولى أن يبرز وأن يظهر ملاكه وإرادته من دون صياغة للحكم ومن دون جعل واعتبار، فإن العقل يرى أن تمام الأثر إنما يترتب على الملاك والإرادة.
نعم، المرحلة الثالثة وهي الجعل والاعتبار، هي عبارة عن صياغة عقلائية جرى عليها العقلاء في مقام صياغة المرحلة الأولى والمرحلة الثانية، فالعقلاء عادة ما يصوغون إرادتهم بلسان الجعل والاعتبار، وإلا قد يشيرون بمجرد إشارة من دون صياغة، ولكن في الغالب يبرز العقلاء ملاكهم وضابطتهم وإرادتهم بصياغة جعلية اعتبارية، وهذا تنظيم عقلائي بين الموالي والعبيد، وبين السادة والمكلفين.
]إمكان الواجب المشروط في مرحلة الجعل والاعتبار[
وقد درسنا الواجب المشروط وإمكانه في عالم الإرادة وعالم الملاك، واتضح إمكان ذلك في كلا المرحلتين، فهل هذا أيضاً ممكن في المرحلة الثالثة، وهي مرحلة الجعل والاعتبار؟
]محل القيد: في الوجوب أم في الواجب؟[
وإذا قلنا بإمكان الواجب المشروط في مرحلة الجعل والاعتبار، نطرح هذا السؤال: هل الشرط قيدٌ في نفس الوجوب والإلزام، أم أنه قيد في الواجب الذي هو متعلق الإلزام؟
مثال ذلك: الاستطاعة في الحج، فهل هذا الشرط وهو الاستطاعة، في تحقق أصل وجوب الحج، أي إنه من دون استطاعة لا يثبت وجوب الحج؟ أم أن الاستطاعة شرط في واجب، أي أن الوجوب قد تحقق، لكن الحج الواجب مقيد بالاستطاعة؟
]تحقيق محل الشرط: في الوجوب لا في الواجب[
فهنا نسأل هذا السؤال: هل الشرط دخيل في الوجوب الذي هو أصل الإلزام، أم الشرط دخيل في الواجب، أي متعلق الإلزام؟
والصحيح: إن الشرط والقيد قيدٌ في نفس الإلزام والوجوب، وليس بقيد في الواجب أو متعلق الإلزام.
]البرهان الأول: القيد الاختياري[
وقد يبرهن على ذلك بمجموعة أمرين:
الأمر الأول: إن كل قيد اختياري يؤخذ قيداً في الواجب ومتعلق الإلزام، فهذا لابد أن يكون محركاً نحوه من قبل ذلك الوجوب، أي أنه يوجد وجوب في المرحلة السابقة، وهذا الوجوب يدعو إلى إيجاد القيد.
مثال ذلك: لا صلاة إلا بطهور، فالطهور قيد في الصلاة الواجب التي هي متعلق وجوب صلاة الظهر، فالزوال قيد في وجوب الصلاة، فقبل الزوال لا وجوب للصلاة، بخلاف الطهور، فإنه ليس قيداً في وجوب الصلاة، بل هو قيد في الصلاة الواجب.
]النتيجة: لزوم الوجوب السابق على القيد[
إذاً يوجب المرتبة السابقة وجوب تحقق بتحقق شرطه، وهو الزوال، وهذا الوجوب يدعو إلى إيجاد الطهارة، لأن الوجوب يدعو إلى إيجاد المقيد، وهو الصلاة المقيدة بالطهارة، وإيجاد المقيد دعوة إلى إيجاد القيد، أي أن إيجاد الصلاة المقيدة بالطهارة دعوة إلى إيجاد الطهارة.
إذاً فرض كون القيد قيد في الواجب للوجوب هو فرع فعلية الوجوب قبل واجب، ومع فعلية الوجوب، قبل هذا القيد والشرط يكون الوجوب هو المحرك نحو متعلقه، ومتعلق الوجوب هو المقيد، أي الصلاة المقيدة بالطهارة، والتحريك نحو المقيد هو تحريك نحو إيجاد القيد.
إذا كل قيد اختياري، أخذ قيداً في الواجب لابد أن يكون الوجوب محرك نحوها.
خلاصة الأمر الأول:
إذا اشترطنا أن الشرط قيد في الواجب، فلا بد من اشتراط فعلي قبله يدعو نحو إيجاده.
]البرهان الثاني: القيد غير الاختياري[
الأمر الثاني إن القيود غير الاختيارية يستحيل أن تؤخذ قيداً للواجب، بل القيود غير الاختيارية يجب أخذها في الوجوب لا الواجب، لأن القيود غير الاختيارية لو أخذت قيد في الواجب، للزم محركية الوجوب نحو هذا الواجب المقيد بأمر غير اختياري، فيدعو الوجوب لإيجاد هذا القيد، الذي هو أمر غير اختياري.
إذاً فعلية الوجوب مساوقة ومساوية لمحركية الوجوب نحو متعلقه، ومتعلق الوجوب هو المقيد أي الواجب المقيد بقيد، والتحريك نحو المقيد تحريك نحو القيد، فإذا فرض أن القيد غير اختياري، فكيف يدعو الوجوب إلى إيجاد شرطٍ وقيدٍ غير اختياري؟ هذا غير معقول.
إذا الشرط والقيد غير الاختياري لا يعقل أن يكون مقيداً للواجب بل لا بدّ من رجوع هذا القيد إلى الوجوب.
]الاستطاعة وقيد الوجوب[
إذاً بناءً على مجموع هذين الأمرين، نقول: إن الاستطاعة التي هي شرط وقيد في الواجب المشروط، لو قلنا إن الاستطاعة هي قيد في الواجب، أي الحج الواجب، وليست قيداً في وجوب الحج، فهذا يعني أن الاستطاعة مسبوقة بوجوب فعلي للحج، وهذا الوجوب الفعلي يدعو إلى إيجاد الاستطاعة التي أُخذت في الحج الواجب، وهنا يوجد احتمالان:
الاحتمال الأول أن تكون الاستطاعة قد أُخذت قيداً في الواجب بمطلق وجودها.
الاحتمال الثاني أن تكون الاستطاعة قد أُخذت قيداً في الواجب بوجودها الاتفاقي غير ناشئ من الوجوب، يعني لو حصل اتفاقاً أن تحققت الاستطاعة، فهي قد أُخذت في الحج الواجب.
إذاً يوجد احتمالان:
أما الاحتمال الأول وهو إن كانت هذه الاستطاعة قد أُخذت في الحج الواجب بمطلق وجودها، يعني لا بقيد الاتفاقية، يعني المهم هو أن تتحقق الاستطاعة اتفاقاً أو سعيت لها المهم أن تتحقق الاستطاعة باستطاعة بمطلق وجودها، وقد أُخذت كقيد في الحج الواجب.
فهنا يلزم بحكم الأمر الأول أن يكون الوجوب محركاً نحو الاستطاعة، كما يلزم أن يعاقب المكلف إذا لم يسعَ لتحصيل الاستطاعة، والحال إن التحريك نحوها خلف لأننا نريد أن نتصور وجوب الحج بنحو لا يحرك نحو الاستطاعة، هذا خلف الفرضية، نحن نفترض أن الحاج لا يحرك نحو إيجاد الاستطاعة.
إذاً الاحتمال الأول باطل وعاطل، وهو أن الاستطاعة أُخذت بمطلق وجودها كقيد في الحج الواجب، حينئذٍ لابد من وجود وجوب فعلي يدعو إلى إيجادها، وهذا خلف الفرض.
الاحتمال الثاني أن الاستطاعة أُخذت في الواجب بقيدها الاتفاقي غير الاختياري، الذي لم ينشأ من دعوة الوجوب إلى إيجاد هذه الاستطاعة.
ويكون الجواب إن الاستطاعة بوجودها الاتفاقي غير اختيارية، والمكلف لا يعقل التحريك نحو القيد غير الاختياري، لأنه غير مقدور، ويستحيل التكليف بغير المقدور، فحينئذٍ يلزم محذور الأمر الثاني، وهو أن الوجوب لا يعقل أن يكون محركاً نحو شرط غير مقدور، هذا غير معقول.
إذاً يتعين أن الاستطاعة قد أُخذت كقيد في الوجوب لا الواجب، لأن أخذ الاستطاعة كقيد في الواجب بنحو الاتفاق، هذا تكليف نحو غير المقدور، وأخذ الاستطاعة بشكل مطلق كقيد في الواجب، هذا خلف الفرض، إذ أننا نفترض أن وجوب الحج لا يدعو لتحصيل الاستطاعة.
]النتيجة والخلاصة في المرحلة الثالثة[
الخلاصة:
بعد أن تبين إمكان تصور المطلق والمشروط في المرحلة الثالثة من مراحل مقام الثبوت، وهي مرحلة الجعل والاعتبار، وتبين أن من جملة القيود قيد الاستطاعة، فنقول: هذا القيد لابد أن يرجع إلى الوجوب، ولا يعقل أن يرجع إلى الواجب.
]الضابطة الكلية في رجوع القيود[
ومن هنا يمكن بيان ضابطة كلية قائمة على أصل موضوعي، نكتته وروحه إن كل قيد لم يؤخذ قيداً في الوجوب بل أُخذ محضاً في الواجب، فحينئذٍ يلزم محركية الوجوب نحوه.
ومن الواضح أن محركية الوجوب نحو قيد الواجب فرع تحقق فعلية الوجوب، أي أن لهذا الوجوب فاعلية ومحركية نحو المقيد بذلك، فإذا أردنا تأسيس ضابطة كلية يمكن أن نعرف القيود التي ترجع إلى الوجوب والقيود التي ترجع إلى الواجب.
فنقول: إن الشروط والقيود على قسمين بلحاظ عالم الملاك.
]القسم الأول: شروط الإتصاف[
القسم الأول: شروط في أصل اتصاف الفعل بأنه ذو ملاك، أي شرط في أصل احتياج المكلف إلى الفعل، من قبيل برودة الهواء التي هي شرط للحاجة إلى التدفئة والنار، والاستطاعة التي هي شرط لتحقق وجوب الحج، هذا شرط اتصاف، يعني بدون هذا الشرط لا وجوب ولا إتصاف.
]القسم الثاني: شروط ترتب المصلحة[
القسم الثاني: ما يكون شرطاً في ترتب المصلحة خارجاً مع فرض فعلية الاتصاف قبله، من سد المنافذ بالنسبة إلى الدفء فالمدفأة تعمل، ولا بد من إغلاق النوافذ، فإغلاق النوافذ ليس من شروط الإتصاف، بل من شروط ترتب المصلحة.
وهكذا التحريك الخارجي لوقوع الحج كصعود الطائرة أو السيارة، فالطائرة والسيارة والوسيلة ليست شرطاً في اتصاف الحج بالوجوب، وإنما يتصف الحج بالوجوب إذا تحققت الاستطاعة، فالاستطاعة قيد في وجوب الحج، وركوب الناقلة واتخاذ وسيلة الذهاب والإياب شرط في الحج الواجب لا وجوب الحج.
]تفصيل القسمين: شروط الإتصاف وشروط المصلحة[
إذاً عندنا قسمان من الشروط:
القسم الأول شروط الإتصاف.
القسم الثاني شروط ترتب المصلحة.
]أنواع شروط الإتصاف: اختيارية وغير اختيارية[
وإذا نشرح في القسم الأول شروط الإتصاف.
فهي على قسمين:
إما أن تكون اختيارية وإما أن تكون غير اختيارية.
فإن فرض كون هذه القيود المأخوذة في أصل إتصاف الفعل بأنه ذو مصلحة، وفرض أن هذه القيود اختيارية، فهذه القيود الاختيارية لا يمكن سحبها من الوجوب وجعلها وأخذها في الواجب بشكل محض، ومعنى ذلك عدم المقتضي لذلك لأن شروط الاتصاف بها يتحقق الملاك، فلو فرض أنها سحبت ونزعت من الوجوب، وأُخذت في خصوص الواجب بشكل محض، يعني لم تؤخذ في الواجب والوجوب معاً، أُخذت في الواجب فقط بشكل محض، لزم بناءً على الأصل الموضوعي المتقدم أن يكون الواجب محركاً نحوها، لأنها سحبت من الوجوب وأُخذت في الواجب، مع أنه لا مقتضي للتحريك نحوها.
فالمولى يحرك نحو المصلحة لو إتصف الفعل بها، لاحظ هكذا، ما هو دوره؟ المولى يحرك نحو المصلحة لو وصف الفعل بالمصلحة، لا أن المولى يحرك نحو أن يتصف الفعل بأنه ذو مصلحة، المولى يقول: "يا عبدي! هذا الفعل إذا في مصلحة وجب عليك"، ولا يقول: "يا عبدي! أوجد هذه المصلحة في الفعل لكي يجب عليك"، المولى لا يدعو لإيجاد المصلحة، المولى يوجب الفعل إذا إتصف بالمصلحة.
إذاً، التحريك نحو هذا القيد شرط الاتصاف بلا مقتض، وبهذا البرهان يستحيل جرّ سحب القيود من الوجوب وأخذها من دائرة الوجوب إلى دائرة الواجب، لأنه تحريك بلا مقتض، بالتالي يتعين أن تكون قد أُخذت كقيد في الوجوب.
هذا تمام الكلام بالنسبة إلى القيود الأولى: شروط الإتصاف.
]تفصيل احتمالات شروط الإتصاف[
كلامنا الآن في نفس القسم الأول: شروط الاتصاف، أما اختيارية أو غير اختيارية، إذا كانت اختيارية، يلزم هذا المحذور، وهو عدم المقتضي، وإذا القسم الثاني الشروط غير اختيارية، يلزم عدم المقتضي ووجود المانع محذوراً.
]احتمالان في شروط الإتصاف[
إذاً القسم الأول شروط الإتصاف يوجد فيها احتمالان:
الاحتمال الأول أن تكون اختيارية، فيلزم عدم المقتضي.
الاحتمال الثاني أن تكون هذه الشروط غير اختيارية، فيلزم محذوران، المحذور الأول عدم المقتضي، والمحذور الثاني وجود المانع.
]بيان المحذور في القيود غير الاختيارية[
بيان ذلك:
إن فرض كون القيود الإتصافية أنها غير اختيارية، يعني بمعنى عدم معقولية إلزام المولى بها، إما لأنها خارجة عن الاختيار، كالزوال والغروب وطلوع الفجر، وإما لكون هذه القيود، وإن كانت اختيارية، لكنها تقع اتفاقاً، واتفاق تحققها ليس بيد المكلف، فهي قيود غير مقدورة.
فحينئذٍ لا يعقل التكليف بالحصة الاتفاقية من قبل المولى، ويأتي البرهان السابق: لا يمكن سحب هذا القيد من دائرة الوجوب إلى دائرة الواجب، وذلك لعدم المقتضي ولوجود المانع أيضاً.
]توضيح عدم المقتضي والمانع[
أما عدم المقتضي تقدم بيانه، فهذه القيود لو سحبت من دائرة الوجوب وأخذت في الواجب محضاً، يلزم محركية الوجوب نحوها، والتحريك نحوها بلا مقتض، لأن المولى لا يهمه أن يحدث ملاكاً، بل المولى يهمه أنه لو حدث الملاك وجب الشيء، لا أنه يجب عليك أيها المكلف أن تحدث الملاك والمصلحة، إذا التحريك نحو هذا القيد بلا مقتض،
وأما المانع لأنه هذه القيود قيود غير اختيارية، والتكليف بغير الاختيار غير معقول، فإن فرض أن هذا القيد أُخذ في الواجب محضاً دون الوجوب، يلزم فعلية الوجوب قبل وجوده، وفعلية الوجوب مساوقة مع محركيته، فيكون محركًا نحو متعلقه، أي محركًا نحو إيجاده، لأن المتعلق هو الواجب المقيد بقيد، فهي دعوة لإيجاد القيد، وهذا القيد غير اختياري، ويستحيل التكليف بغير المقدور.
]النتيجة في القيود غير الاختيارية[
إذاً القيود غير الاختيارية لا يعقل أن ترجع إلى الواجب محضاً، بل يجب رجوعها إلى الوجوب، إما إلى الوجوب فقط، أو إلى الوجوب والواجب معاً، هذا معقول، أما أن تكون دخيلة في خصوص الواجب فقط، فهذا غير معقول.
هذا تمام الكلام بالنسبة إلى القسم الأول: شروط أصل الإتصاف.
]القيود الثانية: شروط ترتب المصلحة[
القسم الثاني: شروط ترتب المصلحة، يأتي عليه الكلام.