« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

46/10/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائتان وثلاثون): النظرية الرابعة نظرية الشهيد الصدر

الموضوع: الدرس (مائتان وثلاثون): النظرية الرابعة نظرية الشهيد الصدر

 

[النظرية الرابعة: نظرية الشهيد الصدر]

النظرية الرابعة نظرية الشهيد رضوان الله عليه، ويمكن مراجعة بحوث في علم الأصول تقرير الشيخ حسن عبد الساتر، الجزء الخامس، صفحة خمسين، ومباحث الأصول للسيد كاظم الحائري، الجزء الثاني صفحة ثلاثمائة وثمانية وسبعين.

[بيان النظرية:]

بيان هذه النظرية أن الصحيح في جميع موارد الإرادة المشروطة أن توجد عندنا في الحقيقة إرادتان: الأولى إرادة غير فعلية، والثانية إرادة فعلية.

[مقارنة النظرية الرابعة بالنظريات السابقة]

وبذلك يفترق كلام الشهيد الصدر عن النظرية الأولى للشيخ الأعظم الأنصاري، والنظرية الثانية للمحقق العراقي، والنظرية الثالثة للمحقق النائيني؛ إذ النظريات الثلاث الأول ترى أن الإرادة فعلية في الإرادة المطلقة والإرادة المشروطة، بخلاف الشهيد الصدر فإنه يرى أن الإرادة المطلقة فعلية، وأما الإرادة المشروطة ففيها إرادتان: الأولى منهما غير فعلية، والثانية منهما فعلية، فتفترق الإرادة المشروطة عن الإرادة المطلقة في وجود إرادتين: إحداهما فعلية والأخرى غير فعلية، فما هما هاتان الإرادتان بنظر الشهيد الصدر رحمه الله؟

[الإرادة الأولى: الإرادة المشروطة غير الفعلية]

الإرادة الأولى هي الإرادة غير الفعلية، وهي إرادة نفس ذلك الفعل المفروض وجود شرط بالنسبة له، كشرب الماء المشروط بالعطش، وشرب الدواء المشروط بالمرض، فإرادة شرب الماء مع عدم وجود العطش ليست فعلية، وإرادة شرب الدواء مع عدم وجود المرض ليست فعلية، فهذه الإرادة ليست فعلية قبل وجود الشرط في وجدان الشخص، فالشخص بالوجدان ما لم يكن عطشانا لا يريد الماء، وما لم يكن جائعا لا يريد الطعام، وما لم يكن مريضاً لا يريد دواء.

[تحقق الإرادة الأولى:]

نعم، تتحقق هذه الإرادة بوجود الشرط في وجدانه، أي أن هذا الشخص بالوجدان يريد الشرط، وإحضار الشرط بالوجدان، إما بأن يحضر نفس الشرط لديه إذا كان الشرط من الموجودات الحضورية لدى نفس المريد، أو بأن يحضر التصديق بوجود الشرط لدى الشخص، كما لو صدق وأذعن وأعتقد بوجود مرض فيه أو أعتقد بجوعه أو عطشه، فالتصديق بوجود الشرط، وهو المرض أو الجوع أو العطش، يجعل الإرادة فعلية، فهو يريد شرب الماء أو أكل الطعام أو شرب الدواء فعلاً.

إذاً هذه إرادة يستحيل أن تكون موجودة قبل تصور الشرط أو التصديق بوجود الشرط، والسر في ذلك: إن الشوق إلى شيء إنما يحصل عند ملائمة قوة من قوى الإنسان إلى ذلك الشيء والإحساس بالحاجة إليه، فمع عدم الإحساس بالجوع أو العطش أو المرض، لا حاجة إلى شرب الماء أو أكل الطعام أو شرب الدواء.

نعم، هذه الإرادة ليست فعلية، لكنها تكون فعلية إذا صدق الإنسان ولائمت قوة من قواه الإحساس بوجود الشرط، فلو شعر بالجوع أو العطش أو المرض، تناول الدواء أو شرب الماء أو أكل الطعام.

هذا الكلام في الإرادة الأولى الإرادة الشرطية غير الفعلية والتي تصبح فعلية بالتصديق بوجود الشرط.

[الإرادة الثانية: الإرادة المطلقة والفعلية]

الإرادة الثانية إرادة مطلقة وفعلية قبل وجود الشرط وقبل التصديق به، وهذه الإرادة الثانية الفعلية والمطلقة غير متعلقة بنفس ذلك الفعل الموجود في الإرادة الأولى، كشرب الماء أو أكل الطعام أو شرب الدواء، ويقول الشهيد الصدر: وأظن أن إحساسهم الوجداني إلى أن هناك شيئاً ما قبل وجود الشرط، وعدم التفاتهم إلى إرادة أخرى غير إرادة شرب الماء، جعلهم يتخيلون أن تلك الإرادة فعلية، بينما الإرادة الفعلية ليست هي الإرادة الأولى، بل هي الإرادة الثانية، فما هي الإرادة الثانية؟

[تعلّق الإرادة الثانية:]

الجواب: الإرادة الثانية الفعلية تعلقت بمجموع أمرين، إذ أنها تعلقت بعدم تحقق المجموع من شرط الوجوب وعدم الواجب، أي العطش وعدم شرب الماء، فهذا الاجتماع مبغوض لدى الإنسان بالفعل، فالإنسان يبغض اجتماع أمرين وهما الجوع وعدم الطعام، والعطش وعدم الماء، والمرض وعدم الدواء، هذه إرادة فعلية، فلو سألنا أي واحد من الناس: "هل أنت الآن تكره اجتماع المرض مع عدم توفر الدواء؟" لقال: "نعم، وألف نعم".

ولو قلت للإنسان: "هل تكره اجتماع الجوع مع عدم توفر الطعام أو اجتماع العطش مع عدم توفر الماء؟" لقال: "نعم".

ولذلك، لو علم أنه إذا صعد إلى قمة الجبال سيعطش ولا يوجد ماء، فإنه لن يذهب إلى أعلى قمة الجبال، ولو علم أنه إذا سافر إلى بلد سيمرض ولا توجد أدوية ولا مستشفيات في ذلك البلد، فإنه لن يذهب إلى ذلك البلاء.

أو علم أن البلد الفلاني فيه مجاعة، وإذا ذهب إليه سيجوع ولن يستطيع الأكل وسد الجوع، فإنه لن يذهب إليه، هذه إرادة مطلقة وفعلية، وهذه غير الإرادة الأولى؛ تقييد إرادة الشرب بالعطش، وتقييد إرادة الأكل بالجوع، وتقييد إرادة شرب دواء بالمرض، فالإرادة الأولى التي فيها تقييد، وفيها تعليق، شرب الدواء معلق على المرض، وأكل الطعام معلق على الجوع، وشرب الماء معلق على العطش، هذه الإرادة قبل تحقق الشرط غير فعلية، وإنما تصبح فعلية عند وجدان الشرط لدى النفس.

بخلاف الإرادة الثانية، حصل العطش أو لم يحصل، حصل الجوع أو لم يحصل، حصل المرض أو لم يحصل، هناك إرادة فعلية بعدم الرغبة في اجتماع الجوع مع عدم الطعام، وعدم الرغبة في اجتماع المرض مع عدم الدواء.

إذاً الإرادة الثانية إنما تعلقت بعدم تحقق المجموع من شرط الوجوب كالعطش أو المرض أو الجوع، وعدم الواجب، يعني عدم شرب الماء، عدم شرب الدواء، وعدم أكل الطعام، فهذا الاجتماع مبغوض لدى المكلف بالفعل، منافرته لقوى، والمنافرة فعلية، فينقدح في نفسه شوق فعلي نحو أن لا يقع هذا المجموع المركب.

لذلك إذا يسافر في الصحراء يسعى أن لا يذهب إلى مكان لا يوجد فيه ماء أو لا يوجد فيه طعام، وهذه الإرادة الفعلية غير إرادة شرب الماء، ولا تبعث نحو شرب الماء، وإنما نحو أن لا يعطش عطشاً لا يشرب معه الماء، ولا يمرض مرضاً لا يتناول معه الدواء.

[أمثلة على الإرادة الثانية]

كما لو علم أن الصعود إلى مكان أو السفر إلى مكان سيوجب العطش، ولا يوجد على السطح ماء، فهذا يدعوه إلى عدم الصعود وعدم السفر إلى ذلك البلد، في حين أن إرادة شرب الماء لا دور لها في عدم الصعود، فإن إرادة شرب الماء تبعث نحو الشرب عند العطش، فلولا هذه الإرادة الثانية، فما الذي يدعوه ويبعثه نحو عدم الصعود إلى الجبال؟

[العلاقة بين الإرادتين]

وإذا أردنا أن ننظر نظرة تحليلية إلى الإرادة الثانية والمقارنة بين الإرادة الثانية والإرادة الأولى، يمكن أن يقال إن إرادة الشرب في الإرادة الأولى في الحقيقة هي تطور للإرادة الثانية المطلقة، فالإرادة الثانية هي إرادة عدم المجموع، أي أن لا يجتمع الشرب مع عدم توفر الماء، أو إرادة الجامع بين الشرب وعدم العطش، فإن إرادة هذا الجامع يمكن إشباعها إما بعدم العطش، أو يحدث العطش ويشرب الماء.

[الإرادة الثانية كإرادة تخييرية]

إذاً الإرادة الثانية ذات اقتضاء تخييري؛ أما من يمرض أو يمرض ويشرب الدواء، أما من يجوع أو يجوع ويأكل الطعام، وما إلى ذلك، كاجتماع البرودة وعدم توفر وسيلة التدفئة، فيقول الشخص: "إما أن أذهب إلى مكان بارد، أو أذهب إلى مكان بارد فيه تدفئة".

[مثال إضافي:]

إذاً الإرادة الثانية وهي إرادة عدم المجموع، تنحل إلى أمرين تخييريين: إما أن يعطش، أو يعطش ويتعرق، مثلاً يمكنني أن أقول: "إما أن أذهب إلى مكان لا أعرق فيه، مثل البحرين وبيروت لبنان، أو أعرق ويوجد مكيف غازي يوقف العرق."

[تحول الإرادة التخييرية إلى تعيينية]

إذاً بنظرة تحليلية، الإرادة الثانية المطلقة تنحل إلى أمر تخييري، لكن بعد أن يتوفر العطش، وبعد أن يتوفر الشرط كالمرض أو الجوع أو العطش، تتحول هذه الإرادة التخييرية إلى إرادة تعيينية، ما دام الآن عطش، فهو يريد شرب الماء، وما دام جاع، يريد أن يأكل، وما دام مريضًا، يريد الدواء، لأنه لا يمكن إشباعها إلا بالماء في فرض فعلية العطش.

[التفرقة بين الإرادة الأولى والإرادة الثانية]

إذاً الإرادة الثانية تخييرية، وهو مخير إما أن لا يعطش، أو إذا عطش، يشرب الماء، لكن الإرادة الأولى إرادة تعيينية، أي إذا عطش بالفعل، تعين عليه شرب الماء، وبانكشاف هاتين الإرادتين بهذا الشكل، وأن الإرادة الأولى غير فعلية لكنها تعيينية، والإرادة الثانية فعلية لكنها تخييرية، ينحل الإشكال الذي جعله أصحاب النظرية الأولى برهانًا على كون إرادة الواجب مطلقة، ومفاد الإشكال: أنه لو لم تكن الإرادة مطلقة قبل الشرط، فكيف تبعث نحو الخطاب قبل الشرط؟

[دور الإرادة الثانية في الخطاب]

ويمكن الجواب عن ذلك بجواب إجمالي، هو الالتزام بأنه من باب المقدمات المفوتة، ويمكن الجواب بجواب تفصيلي، وهو أن الخطاب إنما هو بمحركية الإرادة الثانية، والإرادة الثانية مطلقة وفعلية، لذلك الإرادة الثانية فعلية قبل وجود الشرط، فهي تحرك نحو إيجاده، فالتحريك نحو بعض المقدمات وإن كان برهاناً على فعلية الإرادة وإطلاقها، لكن ليست هي إرادة الجزاء كما تخيل، فليست هي الإرادة الأولى التعيينية، بل هي الإرادة الثانية الفعلية، وهي إرادة الجامع بين عدم الشرط ووجود الجزاء، فحيث إنه يبغض عطشًا لا ماء معه، ويرى أنه لو لم يوجد الخطاب الآن، فسوف يوجد عطش بلا ماء، فلذلك يوجد الخطاب الآن، هو الآن مخاطب بهذا الخطاب.

[المرحلة الثانية: الشرط والإرادة]

هذا تمام ما ينبغي أن يقال في المرحلة الثانية، وهي مرحلة الشرط والإرادة، وبذلك اتضح أنه في المرحلة الأولى، مرحلة الملاك، يمكن تقييد الملاك واشتراطه بشرطه، كذلك أيضًا في المرحلة الثانية، مرحلة الشوق والإرادة، يمكن تقييد الشوق والإرادة بقيد، وهذه الإرادة غير الفعلية توجد إرادة أخرى مقارنة لها، وهي إرادة فعلية.

[عالم الثبوت وعالم الإثبات]

من هنا نقول: هل عالم الثبوت فيه مرحلتان فقط؟ ملاك وإرادة، ولا يوجد فيه المرحلة الثالثة، وهي الجعل، أو عالم الثبوت فيه ثلاث مراحل: ملاك وإرادة وجعل، فإن قلنا إن الحكم في عالم الثبوت ليس له فيه سوى مرحلتين: مرحلة الملاك ومرحلة الإرادة والشوق، وبعد تماميتهما ننتقل إلى عالم الإثبات، وإبراز المولى لهذه الإرادة في هذه الحالة في عالم الإثبات، فالمولى إما أن يبرز هذه الإرادة والشوق المقيد بلسان خبري، أو بلسان إنشائي، الصياغة الخبرية، يقول: "أريد"، كفى. والصياغة الإنشائية "افعل كذا".

[إبراز الإرادتين في عالم الإثبات]

وبالتالي يكون هذا الإبراز في عالم الإثبات من ناحية الإنشاء أو الإخبار، ليس إلا تفنناً في التعبير، فهو يكشف بالدلالة المطابقة عن المشروطة لنفس الفعل، وبالالتزام يكشف عن الإرادة المطلقة للجامع بين الفعل وعدم الشرط.

[استنتاج:]

إذاً، الإرادة الأولى يبرزها الخطاب في عالم الإثبات بالمدلول المطابقي، والإرادة الثانية نستكشفها من الخطاب بحسب المدلول الالتزامي، وحيث إن العاقل ينتزع من خطاب الباعثية والمحركية لأجل كشفه عن إرادة المولى، وقد فرضنا هنا وجود إرادتين: مطلقة ومشروطة، فإن العقل ينتزع هنا باحثيتين: باعثية مطلقة وباعثية مشروطة، فإن الإرادة الأولى باعثية مشروطة، والإرادة الثانية باعثية مطلقة.

[المرحلة الثالثة: الجعل والاعتبار]

هذا إن قُلنا إنه لا توجد مرحلة ثالثة، وهي مرحلة الجعل والاعتبار، فإننا ننتقل مباشرة إلى عالم الإبراز عالم الإثبات، وإن قلنا بوجود مرحلة ثالثة، فهذا يقتضي الكلام في أن هذه المرحلة الثالثة، مرحلة الجعل والاعتبار، هل يوجد فيها تقييد أم لا؟ يأتي عليه الكلام.

logo