« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

46/10/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائتان وتسعة وعشرون): النظرية الثانية نظرية المحقق العراقي

الموضوع: الدرس (مائتان وتسعة وعشرون): النظرية الثانية نظرية المحقق العراقي

 

[النظرية الثانية: نظرية المحقق العراقي]

النظرية الثانية هي نظرية المحقق العراقي، وقد ذكرها في "مقالات الأصول"[1] وفي تقرير بحثه "نهاية الأفكار"[2] .

ومفادها إن الإرادة المشروطة كالإرادة المطلقة فعلية من أول الأمر، كما هو الحال في النظرية الأولى في تقريرات الشيخ الأعظم الأنصاري، وتبعه السيد الخوئي.

[الفرق بين النظرية الأولى والثانية]

لكن النظرية الثانية تختلف عن النظرية الأولى في أن النظرية الأولى كانت تفترض أن الإرادة مطلقة دائما، والتقييد يرجع إلى المراد، فالإرادة دائما مطلقة وفعلية، والتقييد والاشتراط إنما يرجع إلى تقييد المراد لا الإرادة، هذا مفاد النظرية الأولى.

فالنظرية الأولى تفترض أن الإرادة دائما مطلقة، ولذلك تكون فعلية، غاية ما هناك أنها تارة تتعلق بشيء مطلق، وأخرى تتعلق بشيء منوط ومقيد بوجود شيء اتفاقي، أي أن التقييد يرجع إلى المراد، لا إلى الإرادة.

[بيان مبنى المحقق العراقي]

لكن النظرية الثانية، المحقق العراقي، تفترض أن الإرادة المشروطة ليست كذلك؛ فالتقييد لا يرجع إلى المراد، بل تفترض أن الشرط يرجع إلى نفس الإرادة، ولكن إنما تصبح الإرادة فعلية لأن شرطها فعلي.

[سرّ الفعلية في الإرادة المشروطة]

والسر في ذلك: أن الشرط ليس هو الوجود الخارجي للشيء، بل الشرط هو الوجود الذهني للشيء، فالمولى يريد أن يشرب عبده الماء إذا عطش، وهذا معناه أن إرادة الشرب مشروطة بالعطش، لكن لا بالوجود الخارجي للعطش، بل بالوجود اللحاظي للعطش.

فهكذا المريض يريد شرب الدواء، وشرب الدواء مقيد بالمرض، لكن المرض الخارجي بل بلحاظ المرض، فهذا الإنسان يريد شرب الدواء فعلاً إذا لحظ مرضه، ولحظ أنه مريض وارتفعت حرارته مثلاً.

إذا المدار على الوجود الذهني للشراب لا على الوجود الخارجي للشرب، والوجود الذهني ثابت قبل العطش، والوجود الذهني ثابت قبل المرض، لذلك تكون الإرادة فعلية من أول الأمر، فالإرادة المطلقة فعلية وهو أن يريد الإنسان أكل الطعام، والإرادة المشروطة أيضا فعلية، وهو اشتراط شرب الدواء بالمرارة، فالإنسان يريد شرب الدواء إذا لاحظ المرض.

إذا الإرادة فعلية من أول الأمر، وإنما لا تترشح هذه الإرادة إلى القيد، وهو العطش أو المرض؛ لأن من النتائج التكوينية لإناطة الإرادة بلحاظ شيء كون فاعلية تلك الإرادة منوطة بتحقق ذلك الشيء خارجاً، فلا يجب إيجاد ذلك الشيء خارجاً من قبل الإرادة.

[البرهان على كون الشرط ذهنياً لا خارجياً]

ولكن ما هو دليل المحقق العراقي؟

والجواب: البرهان على كون الشرط بوجوده الذهني دخيلاً في الإرادة، لا بوجوده الخارجي، أن إرادة من موجودات عالم النفس المجردة فيستحيل أن يؤثر فيها الوجود الخارجي، وإنما الذي يؤثر فيه هو الوجود الذهني، الذي هو أيضا من موجودات عالم النفس.

[مناقشة الشهيد الصدر لنظرية المحقق العراقي]

وناقش الشهيد الصدر رحمه الله، المحقق العراقي قائلاً: إن البرهان الذي ذكر على هذه النظرية غير صحيح، إذ كأنما فرض فيه أن الأمر دائر بين كون الشيء بوجوده الخارجي دخيلا في الإرادة، أو كونه بوجوده الذهني دخيلاً في الإرادة، وحيث إن الأول محال، إذ إن الخارج لا يؤخذ في الأمر النفسي، تعين الثاني، في حين أن هناك شقاً ثالثاً، وهو أن يكون الدخيل هو التصديق بوجوده الخارجي، الذي هو من موجودات عالم النفس، فهو كاللحاظ والتصور.

[مقصود المحقق العراقي الحقيقي بحسب كلمات الصدر والحائري]

ولو تأملنا في كلمات المحقق العراقي رحمه الله، في المقالات ونهاية الأفكار، سنجد أن مقصوده ليس هو لحاظ وتصور العطش، بل الشق الثالث الذي ذكره الشهيد الصدر، وهو تصديق والإذعان بوجود العطش، أو التصديق والإثبات بتحقق المراد.

فإذا ما ذكره الشهيد الصدر، كشق ثالث هو نفس مراد المحقق العراقي، وقد أشار إلى ذلك سيدنا الأستاذ السيد كاظم الحائري في مباحث الأصول، الجزء الثاني، صفحة ٣٧٥، حاشية رقم ١، حيث قال: لا يخفى أن مقصود المحقق العراقي رحمه الله، هو كون الدخيل هو التصديق بوجوده الخارجي، والتصور والتصديق من شؤون عالم الذهن.

[الإشكال الوجداني على النظرية]

لكن يمكن مناقشة نظرية المحقق العراقي بأنها خلاف الوجدان، لأن الوجدان قاضٍ بأن مجرد لحاظ العطش من المرتوي لا يحدث في نفسه شوقاً إلى الماء فعلاً، لأن الشوق إنما ينشأ من ملائمة قوة من قواه وحاجة من حاجاته النفسية لكي يكمله ويجبر نقصه، والمرتوي بالفعل لا يحتاج إلى شرب الماء لأنه ليس بحاجة، فلا يميل طبعه إلى شرب الماء.

[تفصيل الاحتمالات الثلاثة في تفسير النظرية]

وإذا أردنا التدقيق والتحقيق بصورة أكثر، فإنه توجد ثلاثة احتمالات:

الاحتمال الأول: هل يقصد المحقق العراقي دخول مجرد الوجود اللحاظي التصوري للمرض التصوري للمرض مثلاً في الشوق إلى ذات شرب الدواء؟ أي أنه بمجرد اللحاظ يحصل الشوق بمجرد أن يلحظ المرض ذهناً، أو بمجرد أن يلحظ العطش ذهناً، يشتاق إلى شرب الماء وإلى شرب الدواء.

إن قصد هذا الاحتمال أولا، فهذا خلاف الوجدان، الذي يقضي بأن مجرد لحاظ وتصور المرض أو العطش لا يخلق الشوق إلى الجزاء من شرب الماء أو الدواء.

أما الاحتمال الثاني: من يقصد المحقق العراقي دخول مجرد الوجود الذهني التصوري للمرض في الشوق لا إلى ذات شرب الدواء، بل إلى شربه على تقدير المرض، فيكون هذا الاحتمال الثاني يرجع القيد من الإرادة إلى المراد، وهذا هو عين النظرية الأولى التي فرغنا من مناقشتها.

الاحتمال الثالث: هو أن يقصد المحقق العراقي دخل الوجود التصديقي للمرض بالعلم الحصولي أو الحضور في الشوق إلى شرب الدواء، فالداخل ليس هو مجرد لحاظ المرض أو العطش، بل الداخل هو التصديق والإذعان والاعتقاد بوجود المرض أو العطش، وهذا هو الذي يفهم من كلام المحقق العراقي في الأفكار والمقالة.

[نتيجة المناقشة والفرق بين الحالتين]

فإن قيل بذلك، فهذا الكلام يعجز عن بيان الفرق بين حالتين، فهذا المقدار من البيان يعجز عن تفسير الوجدان الحاكم بوجود فرق نفسي واضح بين حالتين:

الحالة الأولى من لم يتمرض ويعلم ويقطع أنه لا يتمرض أبداً ولكنه يبني على شرب الدواء لو تمرض، والحالة الثانية من لم يتمرض ويعلم أنه لا يتمرض، ولكنه يبني على عدم شرب الدواء حتى على تقدير المرض، إذاً في كلتا الحالتين، لم يتمرض ولا يعتقد أنه يتمرض، ويعلم أنه لن يتمرد، ولكن في الحالة الأولى يبني على شرب الدواء لو تمرض، وفي الحالة الثانية يبني عدم شرب الدواء لو تمرض.

[خاتمة النظرية الثانية]

الخلاصة: في كلتا الحالتين هو ليس بمريض ويجزم بأنه ما يمرض، لكن في الحالة الأولى يقول: "أنا لو مرضت سأشرب الدواء"، وفي الحالة الثانية يقول: "لو مرضت لن أشرب الدواء"، هنا لحاظ وليس إذعان، هنا لا يوجد إذعان، المحقق العراقي علق الأمر على وجود تصديق بوجود المرض أو العطش، في هاتين الحالتين لا يوجد تصديق، يوجد اعتقاد وجزم بعدم حاجته إلى الدواء، هو صحيح وليس بمريض، ويجزم ويقطع أنه ليس بمرض، ولكن في الحالة الأولى يقول سأشرب الدواء، وفي الحالة الثانية يقول إن مرضت لن أشرب الدواء، فما هو الفارق بين الحالتين؟ وفي كلتا الحالتين لا يوجد تصديق لحاظي ولا يوجد اعتقاد بوجود المرض، بل يوجد عنده تصور.

هذا تمام الكلام في بيان النظرية الثانية.

[النظرية الثالثة: نظرية المحقق النائيني]

أما النظرية الثالثة فهي نظرية المحقق النائيني رحمه الله، وهي أن وجود الإرادة المشروطة كالمطلقة فعلي من أول الأمر، كما هو الحال في النظريتين السابقتين، إذًا النظريات الثلاث الأولى للشيخ الأنصاري، والثانية للعراقي، والثالثة للنائيني، تتفق على أن الإرادة مطلقة وفعلية، فالإرادة فعلية في المطلقة والمشروطة. اختلفوا في الفرق.

[توضيح رأي النائيني في الفرق بين الإرادتين]

فالمحقق النائيني يرى أن وجود الإرادة المشروطة عبارة عن وجود إرادة معلقة، بينما وجود الإرادة المطلقة عبارة عن وجود إرادة فعلية وغير معلقة، فالوجود فعلي في كليهما، لكن الموجود بهذا الوجود في المشروطة معلق ومنوط، وفي المطلقة غير معلق وغير منوط.

يراجع "أجود التقريرات" تقرير بحث السيد الخوئي، الميرزا النائيني[3] . و"فوائد الأصول" تقرير الكاظمي[4] . وقد حمل المحقق النائيني على ما في هذين التقريرين كلام الأنصاري على ما يقول به.

الخلاصة: كل من الإاردة المطلقة والمشروطة فعلي، فتارة نلحظ وجود الإرادة وتارة نلحظ الموجود، فإذا لاحظنا وجود الإرادة، فكل من الإرادة المطلقة والمشروطة إرادة فعلية، وتارة نلحظ الموجود فالموجود بالإرادة المطلقة غير معلق، والموجود بالإرادة المشروطة معلق.

[تنظير الشهيد الصدر لتوضيح رأي النائيني]

وقد مثل ونظر الشهيد الصدر لكلام الميرزا النائيني بمثال، فقال لتقريب المطلب: هذا من الاعتباريات والوجودات الذهنية، فالإنسان قد يتصور نزول المطر في هذا الوقت وقد يتصور نزول المطر على تقدير وفرض برد الهواء، فوجود المطر الذهني في كليهما فعلي، لكن الموجود بهذا الوجود الذهني في الأول مطر فعلي غير معلق لأنه ينزل الآن، وفي الثاني مطر معلق على تقدير برد الهواء.

وهذا التنظير بالاعتباريات لم يرد لا في "أجود التقريرات" ولا في "فوائد الأصول"، فكأنه توجيه وتفسير من الشهيد الصدر لتوضيح أو تقريب كلام الميرزا النائيني.

[تحليل معنى الوجود والماهية في الإرادة]

ولتقريب المطلب وتوضيحه:

عندنا وجود، وعندنا ماهية، تارة نبحث في الوجود وتارة نبحث في الماهية، كلامنا في الإرادة إذا لاحظنا وجود الإرادتين، المطلقة والمشروطة، سنجد أن هذا الوجود فعلي، أي موجود فعلاً في أفق نفس المتكلم أو الآمر، ولكن لو لاحظنا ماهية وجود الإرادة الموجودة في ذهنه، سنجد أن ماهية الإرادة المطلقة غير معلقة، وماهية الإرادة المشروطة معلقة على قيد.

فحاصل كلام الشيخ النائيني هو أنه لم يقل ذلك، وهذا تحليل لكلامه، كأنه يريد التفكيك بين وجود الإرادة وذات الإرادة، أي بين وجود الإرادة وماهية الإرادة الموجودة بهذا الوجود.

فوجود الإرادة فعلي، لكن ماهية هذه الإرادة إما أن تكون معلقة، وإما أن تكون غير معلقة، فالإطلاق والتقييد ليس في وجود الإرادتين، بل الإطلاق والتقييد في ماهية الإرادتين الموجودتين، فمحصل هذا الكلام التفريق بين الوجود والموجود، بين الوجود وبين الماهية. إلى هنا واضح أو لا؟ قبل أن نناقشه، واضح أو لا؟

يقول: الإرادة المطلقة والإرادة المشروطة كل منهما فعلي في أفق النفس، يعني وجود الإرادة فعلي في نفس المتكلم، سواء أراد إرادة مطلقة أو مشروطة. لكن ماهية هذه الإرادة الموجودة في نفسه إما أن تكون مقيدة ومعلقة على قيد، وإما أن تكون مطلقة.

[مناقشة التفريق بين الوجود والموجود]

الجواب: إن الإطلاق والتقييد والفعلية والتعليق من شؤون الوجود وليس من شؤون الماهية، فالفعلية والتعليق بلحاظ كل ماهية إنما هو بيان لحال وجود الماهية، إذ أن الماهية بما هي ليست إلا حدا عدمياً، كما يقولون، فالماهية بما هي هي ليست إلا هي؛ لا موجودة ولا معدومة، فإذا ما هي غير موجودة، لا يتصور فيها لا إطلاق ولا تقييد.

بكلمة أخرى: إن فعلية الماهية عبارة أخرى عن وجود الماهية، فلا معنى للتفرقة بين الوجود والموجود، الوجود والماهية الموجودة: الماهية الموجودة هي عين الوجود، فلماهية حد للوجود، ولا توجد الماهية إلا إذا تحقق الوجود، فلا معنى لتقسيم الماهية الموجودة إلى فعلية ومعلقة، فالماهية إذا موجودة يعني فعلية وليست معلقة، فالماهية تارة تكون موجودة، وأخرى لا تكون موجودة، وإذا وجدت الماهية، فهي واضح، إن شاء الله.

[النتيجة العامة للنظريات الثلاث]

إذاً التفرقة بين الوجود والموجود غير صحيحة؛ إذ أن الموجود هو عين الوجود، فالقول بأن وجود الإرادة المطلقة والمشروطة فعلي بينما الماهية الموجودة إما فعلية غير معلقة، وإما غير فعلية ومعلقة على شيء آخر، هذا الكلام ليس بتام، لأن الإطلاق والتقييد من شؤون الوجود لا من شؤون الماهية.

إلى هنا اتضحت أن النظريات الثلاث الأولى قابلة للمناقشة، تبقى نظرية السيد الشهيد الصدر يأتي عليها الكلام.


logo