46/10/17
الدرس (مائتان وثمانية وعشرون): تقسيمات الواجب
الموضوع: الدرس (مائتان وثمانية وعشرون): تقسيمات الواجب
تقسيمات الواجب:
قسم الواجب إلى مطلق ومشروط ومعلق ومنجز ونفسي وغيري، ونشرع في التقسيم الأول، تقسيم الواجب إلى مطلق ومشروط.
مثال ذلك: الحج مشروط بالاستطاعة لكنه مطلق بلحاظ زوال الشمس، بخلاف صلاة العصر أو صلاة الظهر فوجوب صلاة الظهر مشروط بزوال الشمس، لكن وجوب صلاة الظهر مطلق بالنسبة لاستطاعة الحج.
[محلّ النزاع في إمكان الواجب المشروط عقلاً]
وقد وقع الكلام والنزاع في إمكان الواجب المشروط عقلاً، وقد وقع الكلام في عالم الثبوت وفي عالم الإثبات، والمراد بعالم الثبوت أي لحاظ الوجوب في ذهن المولى بقطع النظر عن كيفية إبرازه وإنشائه، والمراد بعالم الإثبات أي بلحاظ إبراز المولى للحكم وإنشائه. حيث يقال إنه لا يمكن رجوع القيد إلى الهيئة، بل لابد من رجوعه إلى المادة.
[المقامين الرئيسين في البحث]
إذاً يقع الكلام في الإشكال على الواجب المشروط في مقامين:
المقام الأول: الإشكال باللحاظ في عالم الثبوت.
المقام الثاني: الإشكال في عالم الإثبات.
[تمهيد المقام الأول: الإشكال في عالم الثبوت]
ولنشرع في المقام الأول، وهو الإشكال على إمكان تشريع الواجب المشروط بلحاظ عالم الثبوت، فمن يتتبع وجوب شيء في عالم الثبوت قبل أن يحرك به لسانه، يسأل: هل يعقل الواجب المشروط في هذا المقام أم لا؟
[المراحل الثلاث في عالم الثبوت]
وفي عالم الثبوت توجد ثلاثة مراحل:
المرحلة الأولى: مرحلة الملاك.
المرحلة الثانية: مرحلة الإرادة والشوق القائم في نفس المولى.
المرحلة الثالثة: مرحلة الجعل والتشريع.
فالمولى يلحظ المصلحة والملاك أولاً، ثم تتولد إرادة وشوق لذلك ثانياً، ثم يجعل الحكم ثالثاً، فلنتتبع كل مرحلة من هذه الثلاث لنرى أنه في أي واحدة منها يعقل الواجب المشروط أو لا.
لنشرع في بيان المراحل الثلاث تباعاً:
المرحلة الأولى: مرحلة الملاك
ولا شك أنه في مرحلة الملاك يعقل كون الواجب مشروطاً، فإن الملاك عبارة عن الاحتياج، ومن الواضح أن الإنسان قد يكون محتاج إلى شيء مطلقاً كاحتياجه إلى الطعام والغذاء من دون أي قيد أو شرط، والمهم أنه قد يجوع.
وقد يحتاج إلى شيء مقيد كاحتياجه إلى الدواء بقيد المرض، وهكذا قد يحتاج إلى النار والتدفئة بقيد مجيء الشتاء والبرد، فاحتياجه إلى التدفئة وإلى الدواء يكون مقيداً، إذا الدواء مقيد بالمرض، والتدفئة والنار مقيدان بوجود البرد والشتاء، بخلاف الاحتياج إلى الطعام، فاحتياجه مطلق.
إذاً، يعقل الإطلاق والاشتراط في عالم الملاك.
المرحلة الثانية: مرحلة الإرادة والشوق
ولا إشكال ولا ريب في الجملة في أن إرادة شيء قد تكون منوطة بإرادة شيء آخر، وقد لا تكون منوطة، مثلاً: إرادة الطعام والماء غير منوطة بالمرض، بخلاف إرادة شرب الدواء فإنها منوطة ومقيدة بالمرض هذا واضح بشكل عام.
لكن وقع الكلام والنزاع في تكييف هذه الإرادة المنوطة بغيرها بعد الفراغ عن أصل وجودها وتقييدها، فما هي حقيقة هذه الإرادة المشروطة والمقيدة؟ ومن هنا وُجدت عدة نظريات وتخريجات لتحليل طبيعة الإرادة والشوق المشروطين، ولنذكر بعض النظريات المفسرة والمفرقة بين الإرادة المطلقة والإرادة المشروطة.
[النظرية الأولى: إرجاع القيد إلى المراد لا إلى الإرادة]
النظرية الأولى[1] هي النظرية المنسوبة إلى تقريرات بحث الشيخ الأعظم الأنصاري[2] ، وقد تستظهر هذه النظرية من المحقق الخراساني صاحب الكفاية[3] ، وتبع ما في تقرير الشيخ الأعظم سيدنا الخوئي رحمه الله[4] .
ومفاد هذه النظرية إن الإرادة المطلقة والإرادة المشروطة كلتاهما فعلية، والفرق بينهما إنما هو في متعلق الإرادة، فالقيد لا يرجع إلى الإرادة، بل يرجع إلى المراد، فالإنسان يريد الطعام مطلقاً لكنه يريد الدواء المقيد بكونه في حال المرض، ولا يريد الدواء المطلق، فلقيد يرجع إلى نفس الدواء المراد، لا أن الإرادة مقيدة، فالإرادة في المطلق وفي المشروط إرادة فعلية ومطلقة، لكن المراد في المطلقة مطلق، والمراد في المقيدة مقيد ومشروط.
[إيراد على النظرية الأولى]
ومن هنا يرد إشكال: إذا كان القيد والشروط راجع إلى المراد، للزم حينئذٍ تحصيل ذلك كما هو الحال في كل قيود الواجب، فالصلاة واجبة وفيها قيود كالاستقبال والطهارة، فيجب تحصيل الطهارة واستقبال القبلة، فهذه الشروط والقيود إنما رجعت إلى الصلاة المرادة لا إلى الإرادة.
وإذا رجعت القيود إلى المراد، لازم تحصيل القيود لتحصيل وتحقيق المراد، فإرادة الشيء سواء كانت تكوينية أو تشريعية، تسري لا محالة إلى كل قيود ذلك المراد، فلا بد للإنسان أن تسري إرادته التكوينية إلى تمريض نفسه لكي يشرب الدواء في حال المرض، ولابد أن تسري الإرادة التشريعية للكفارة إلى الإفطار لكي يكفر العبد، وهذا لا يمكن الالتزام به.
[الجواب عن الإشكال]
وقد أجيب على هذا الإشكال بأن هذا القيد الذي أُخذ في المراد أُخذ على نحو لا يعقل الالتزام به من جهة تلك الإرادة، هذا بخلاف سائر قيود الواجب، والسر في ذلك إن هذا القيد إنما هو الوجود الاتفاقي للمرض، أو الوجود اتفاقي للاستطاعي، يعني لو اتفقت أن حصلت استطاعة، وجب الحمد، ولو اتفق حصول المرض، وجب شرب الدواء.
فليس المراد إرادة إيجاد الاستطاعة، وإرادة إيجاد المرض، بل المراد من دخول القيد في المراد هو أن هذا القيد، لو تحقق في المراد اتفاقاً، فهنا الإرادة لا تحرك إلى وجود هذا القيد في المراد، بل المراد القيد الاتفاقي، وليس المراد وجود القيد الذي تحركت إليه نفس الإرادة، وحينئذٍ تستحيل محركية الإرادة نحو هذا القيد، إذ بمجرد تحريك الإرادة نحو هذا القيد يخرج عن كونه مصداقاً للقيد الدخيل في الواجب، لأن القيد الدخيل في الواجب إنما هو القيد الاتفاقي وليس القيد المحرك نحوه، فالاستطاعة المأخوذة في وجوب الحج ليست الاستطاعة التي يحرك نحوها، بل الاستطاعة التي تحققت اتفاقاً.
[نقد النظرية الأولى وجدانيّاً]
وهذه النظرية خلاف الإلهام الفطري للإنسان في المسألة، وهذا الإلهام يحكم بأن إرادة شرب الماء فعلية، وإرادة شرب الدواء غير فعلية، فكيف تقول: كلتا الإرادتين فعلية؟!
ومن الواضح بالوجدان، ولا يحتاج إلى البرهان، أن الجائع يريد الطعام فعلاً، والعطشان يريد الماء فعلاً، لكنه لا يريد الدواء فعلاً، بل إرادته مقيدة ومشروطة بوجود المرض.
وبعبارة أخرى: إن الإلهام الفطري يرى رجوع القيد إلى الإرادة بشكل مجمل ومبهم يحتاج تحليل، ولا يرى رجوع القيد إلى المراد، فما هو السبب لصاحب هذه النظرية في الادعاء بأن الإرادة فعلية وأن كل القيود ترجع إلى المراد ولا ترجع إلى الإرادة؟!
[وجه الاستناد في النظرية الأولى: بين الوجدان والبرهان]
لو راجعنا كلماتهم، فإنه يتحصل أن الاستناد إلى هذه الدعوة يكون إما من جهة الوجدان أو من جهة البرهان.
[تقرير الوجدان في رجوع القيد إلى المراد]
ولنتطرق إلى وجه الوجدان، يمكن تصويره بعدة تصورات فيقال: الوجدان يقضي برجوع القيد إلى المراد لا إلى الإرادة.
تقريب ذلك: إن المولى إذا التفت إلى نفسه بالنسبة لشيء، فإما أن يريده، وإما أن لا يريده، فإن لم يرد، فهذا خارج عن موطن بحثنا، إذ أن موطن بحثنا هو إرادة الشيء، وإذا أراد المولى شيئاً، فبعض الأشياء مطلقة وبعض الأشياء مشروطة، فإذا افترضنا أنه أراد الأشياء، فهذا يعني أن الإرادة وجدت، إذا وجدت الإرادة فمن الخلف كونها مشروطة، وإنما هذه الإرادة متعلقة تارة بشيء على الإطلاق، وأخرى بشيء على تقدير وجوده اتفاقاً، ومن غير ناحية هذه الإرادة.
[نتيجة التقرير الوجداني]
إذاً خلاصة هذا التقرير للوجدان، أنه بالوجدان: الإنسان إما أن يريد، أو لا يريد، إذا لم يرد هذا خارج عن بحثنا، إذا أراد يعني الإرادة مطلقة فعلية، ثم يقع الكلام في الشيء المراد، هذا المراد إما مطلق وإما مقيد.
هذا البيان إذا تم، فالأولى تسميته بالبرهان لا الوجدان، وإن عبروا عنه بالوجدان، ويمكن أن يبين هذا الوجدان ببيان آخر أشار له سيدنا الأستاذ السيد كاظم الحسيني الحائري في مباحث الأصول[5] .
[خاتمة وتمهيد للدرس اللاحق]
فيراجع هذا البحث، وإن شاء الله نتطرق في الدرس القادم إلى حيثية الوجدان وحيثية البرهان ونناقشهما، فتكون النتيجة أن النظرية الأولى ليست تامة.
تتمة الحديث تأتي إن شاء الله.