46/08/17
17 شعبان الأغر 1446
16 فبراير 2024
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدالله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهري
اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليًلا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.
الدرس (مائتان وستة وعشرون): تحقيق الشهيد الصدر في تفسير المتأخر بلحاظ موقع الملاك
تحقيق الشهيد الصدر في تفسير الشرط المتأخر بلحاظ موقع الملاك، كان الكلام في المقام الثاني وهو إشكال الشرط المتأخر بلحاظ الواجب لا بلحاظ الوجوب الذي هو المقام الأول، والكلام في إشكال الشرط المتأخر بلحاظ الواجب إما أن يكون بلحاظ نفس الوجوب أو بلحاظ ملاك الواجب.
وقد أُشكل بإشكال أجاب عنه صاحب الكفاية رضوان الله عليه، واتضح أنه إنما يتوقف بناءً على أن الملاك هو الحسن والقبح العقليين، ولا يتم بناءً على أن الملاك هو المصلحة أو المفسدة الواقعيتين، ومن هنا انبرى الشهيد السيد محمد باقر الصدر رضوان الله عليه للإجابة على الإشكال بناءً على أن المراد بالملاك هو المصلحة والمفسدة.
تفصيل جواب الشهيد الصدر إن الإشكال والتحير نشأ من افتراض أن الواجب كصوم نهار السبت هو الذي يشكل المقتضي من أجزاء العلة، والغسل ليلة الأحد هو الذي يشكل الشرط من أجزاء العلة كما في اشتراط صوم المستحاضة ليلة الأحد في صحة صوم يوم السبت، فيكون كلا الجزئين يشكلان العلة لشيء واحد وهو المصلحة الملحوظة للمولى في فعل الواجب، وحيث إن هذين الجزئين مختلفين في وقوعهما من حيث الزمان، لأن أحدهما يقع في نهار السبت وهو الصوم، والثاني يقع في ليلة الأحد وهو الغسل، وحينئذٍ يقع الإشكال.
ومفاد هذا الإشكال من شقين وفرضين. فيقال هكذا:
الفرض الأول إن فرض تحقق المصلحة حين وجود المقتضي أي الصوم، يعني تحققت المصلحة في نهار السبت عند الصوم، إذن يلزم تأثير الشرط المتأخر وهو الغسل ليلة السبت قبل وجوده، إذ أنه حين الصوم في نهار السبت لا يوجد ليلة الأحد حتى يُغتسل فيها، فيلزم تأثير المعدوم وهو الغسل ليلة الأحد في الموجود وهو الغسل نهار السبت، فهذا الفرض الأول يلزم منه تأثير المعدوم في الموجود.
الفرض الثاني: إن فرض تحقق المصلحة حين الغسل أي ليلة الأحد عند اغتسال المستحاضة، فيفرض تحقق الشرط وهو الغسل، ويفرض تحقق المصلحة حين الشرط أي حين الغسل، لكن بعد انقضاء المقتضي للمصلحة وهو الصوم. فيقال: كيف وجد المقتضى وهو المصلحة بعد انعدام المقتضي وهو صوم نهار السبت؟ فهذا يعني تأثير المقتضي بعد انعدامه، أي تأثير صوم يوم السبت الذي يقتضي المصلحة بعد انعدام هذا المقتضي بعد زوال النهار يوم السبت، وهذا تأثير للمعدوم في الموجود، أي تأثير لصوم نهار السبت المعدوم في الموجود وهو المصلحة.
إذن كلا الفرضين ليس بتام.
لكن هذا الافتراض بلا ضرورة، أي لا تنحصر المسألة في تصوير خصوص هذا الفرض بل يحتمل وجود فرض آخر، وإذا وُجد الاحتمال بطل الاستدلال، فالإشكال يتوجه بناءً على هذه الفرضية وهو أن المقتضي قد زال وهو نهار يوم السبت، فكيف يؤثر في المقتضى وهي المصلحة؟!
لكن يمكن اقتراح وافتراض وتصوير افتراض آخر ينحل به الإشكال ولا يلزم منه محذور، وهو أن يكون المقتضي وهو الصوم علة لشيء هو الحلقة المفقودة بين الواجب والمصلحة المطلوبة، فلا نقول إن الصوم علة للمصلحة، بل نقول إن الصوم علة لشيء، وهذا الشيء يعاصر المصلحة.
فالإشكال يبتني على أن صوم نهار السبت علة للمصلحة، والمصلحة معاصرة للغسل أي ليلة الأحد، فكيف تتحقق المصلحة ليلة الأحد بعد انعدام المقتضي، وهو صوم نهار يوم السبت؟
والجواب: صوم نهار السبت ليس مقتضٍ للمصلحة بل مقتضٍ لأمر ثالث وسيط بين المقتضي والمصلحة من دون اشتراك، وشركة الشرط وهو الغسل.
ثم إن ذاك الشيء الذي يبقى إلى زمن الشرط المتأخر وهو الغسل يشكلان بمجموعهما علة تامة للمصلحة، وبهذا تكتمل أجزاء العلة فتحصل المصلحة.
ولنضرب مثالاً تكوينياً لتوضيح الحكاية كادعاء شرب الدواء وشرطه، فإن الدواء هنا بمثابة صوم المستحاضة يوم السبت، والشرط المتأخر هو التمشي بعد استعمال الدواء، وهو بمثابة غسل المستحاضة ليلة الأحد، فهنا شرب الدواء يكون مقتضياً لأثر في البدن، ولنفرض هو وصول درجة حرارة البدن إلى درجة معينة.
إذن، هذه الدرجة المعينة من الحرارة هي معلولة لشرب الدواء، وتنشأ درجة الحرارة مع شرب الدواء، وشرب الدواء ينتهي بانتهاء شربه، لكن تبقى درجة حرارة البدن المعينة بعد زوال هذا المقتضي وهو شرب الدواء.
وفرض بقاء الحرارة التي هي أثر شرب الدواء بعد زوال المقتضي هذا مفروغ عنه، ولم يستشكل فيه أحد، إذ هو كالبناء الذي يبنى ثم يموت ويبقى أثره، وهو البناء محفوظ بقانون جاذبية الأرض وتماسك أجزاء البناء، فكذلك درجة حرارة البدن التي هي أثر، فإنها تحدث مقارنة مع شرب الدواء، فإذا انقضى المقتضي وهو شرب الدواء، بقي الأثر وهو حرارة بدن الإنسان، التي قد تحفظ بقانون جاذبية البدن.
إلى هنا أثبتنا هذه النقطة: الدواء مقتض، درجة الحرارة مقتضى، هنا لم نتكلم عن الشرط وهو المشي، الشرط وهو المشي فيما بعد لا دخل له في اقتضاء الدواء للحرارة، ثم تأتي المرتبة الثانية وهو أن هذا الأثر، وهو درجة الحرارة، تبقى إلى زمان الشرط وهو التمشي، فتؤثر في صحة البدن.
إذن صحة البدن معلولة له علتان: شرط وهو المشي ومصلحة ومقتضى، وهو ماذا؟ حرارة البدن، ولا تقل إن المقتضي هو شرب الدواء، شرب الدواء انتهى.
الخلاصة: هكذا شرب الدواء مقتضٍ له مقتضٍ وأثر، وهو حرارة البدن، وبانتهاء المقتضي يبقى أثره، وهو حرارة البدن، حرارة البدن تكون مقارنة للشرط، كل منهما يشكل جزء علة لصحة البدن.
إذن تكون الصحة معلولة لأمرين مجتمعين في وقت واحد ومتقارنيين، فلا يلزم نشوء متقدم من متأخر ولا تأثير متقدم في متأخر، وبهذا يعرف أن من شأن إشكال الشرط المتأخر هو إسقاط الحلقة المفقودة في الوساطة، أي افتراض أن مقتضي الملاك هو شرب الدواء، وهذا بخلاف ما لو فرض أن شرب الدواء المقتضي يشكل علة للحرارة، ثم إن الحرارة مع المشي الذي هو الشرط يشكلان جزئين متعاصرين من علة واحدة، وهذا شيء مضطرد وسيال في كل مقتض يظهر أثره.
وبهذا ندرك وجود حلقة مفقودة تكون هي مع الشرط المتأخر المقتضي للمصلحة المطلوبة، يعني هذه الحلقة المفقودة تكون مع الشرط المتأخر تكون المقتضي للمصلحة المطلوبة.
واضح إلى هنا، يعني في التصوير الذي ورد عليه الإشكال. قيل هكذا: شرب الدواء ولد المصلحة، والمصلحة تنتفي بانتهاء ماذا؟ شرب الدواء، والشرط متأخر وهو المشي، فكيف يؤثر الشرط وهو المشي ليلة الأحد في شرب الدواء؟ لأنه ماذا كان يقال هكذا، يقال إنه إذا كانت المصلحة موجودة ليلة الأحد، يكون المقتضي وهو شرب الدواء قد انتفى.
ونطبق هذا على مثالنا، لاحظوا المثال الشرعي: الإشكال ورد بناءً على تصوير أن غسل يوم السبت يولد المصلحة، وبانتفاء يوم السبت ينتفي المقتضي، وبالتالي ينتفي المقتضى، والشرط هو الغسل ليلة الأحد، فبناءً على الفرض الثاني وهو وجود المصلحة مقارنة لـ ليلة الأحد، يأتي هذا الإشكال وهو أن الشرط فعلي وهو غسل ليلة الأحد، لكن المصلحة مقتضى ومعلول وعلته ليلة الأحد قد انتفت وهي الغسل، فيكون الجواب هكذا: غسل يوم السبت لم يولد المصلحة، بل غسل يوم السبت ولد حالة نفسية لدى الصائم، فصوم يوم السبت علة ومقتضي، والمعلول يعتمد الحالة النفسية للصوم، هذه الحالة النفسية لا تنتهي بانتهاء يوم السبت بل تبقى ليلة الأحد.
إذن في ليلة الأحد وجد الجزء الأول من العلة وهي الحالة النفسية للصائم، ووجد الجزء الثاني من العلة وهو الشرط، وهو غسل المستحاضة، فتحققت المصلحة وانتفى الإشكال، ولا يوجد تأخر للغسل عن الحالة النفسية، بل يوجد بينهما تقارن.
إذن إذا أدركنا وجود حلقة مفقودة هي معلول للمقتضي والعلة، وهذه الحلقة المفقودة تكون مع الشرط المتأخر المصلحة المطلوبة، فحينئذٍ ينتفي الإشكال.
إذن شرب الدواء إنما هو موجد للأثر، وهو درجة الحرارة، الذي شكل مع معاصرته للشرط المتأخر تمام العلة في وجود الملاك.
إذن فمتى ما وجدنا شيئين، أحدهما ينتج عن الآخر رغم كونهما غير متعاصرين، فشرب الدواء ولد درجة الحرارة، والغسل ولد حرارة إيمانية، نستكشف لا محالة وجود الحلقة المفقودة، وهي درجة الحرارة المعينة أو الحالة الإيمانية المعينة، وبذلك لا يبقى بحسب الحقيقة شرط متأخر، بل عندما نسقط حلقة في الوسط من حلقات التسلسل السببي، يكون دائماً الشرط مقارناً للمشروط ولا يكون متأخراً.
فإذا بنينا على هذا في الأمور التكوينية مثل شرب الدواء، فليكن الأمر كذلك في الأمر التعبدي المولوي بالصوم المشروط بغسل متأخر عنه من هذا الباب، إذ يمكن للمولى في مقام الجعل أن يجعل وجوبه متعلقاً بالدواء مع المشي، وإن كان المحصل الحقيقي للملاك المصلحة هو ماذا؟ هو الحرارة مع المشي، وليس شرب الدواء مع المشي، إلا أن الطبيب لا يطلب من المريض إيجاد الحرارة في جسمه، لأن التكاليف لا بد أن تتعلق بعناوين مفهومة للمكلفين، وأما عموم الناس فلا يلتفتون إلى التفاصيل، فيطلب الطبيب من المريض استعمال الدواء، فيكون بذلك قد علق وجوبه على جزئين ليسا بدرجة واحدة، وإنما هما بدرجتين غير متعاصرتين: الأول وهو شرب الدواء، وشرب الدواء لا يوجد المصلحة، بل يوجد العلة التي تكون جزءاً من الملاك والمصلحة، والآخر جزء من الملاك وهو الشرط.
هذا المثال نتعقله في صوم المستحاضة، لأن صومها نهار السبت مشروط بغسل ليلة الأحد، وهما جزآن غير متعاصرين زماناً، وبالتالي لا يمكن لكل منهما أن يشكل مجموع العلة التامة لشيء واحد، بحيث يكون أحدهما المقتضي والآخر الشرط، نظراً لوجود فترة زمنية بينهما.
لكن على ضوء ما تقدم، نستكشف في عالم الملاك أن أحد هذين الجزئين وهو الصوم، ليس هو المقتضي للمصلحة والملاك ابتداءً، بل هو مقتض وعل ابتداءً للحالة النفسية، وهذه الحالة النفسية ببقائها واستمرارها إلى زمن الشرط المتأخر، حينما تقترن مع الغسل، تؤثر في المصلحة والملاك، فالملاك والمصلحة وليد أمرين: الجزء الأول هو الحالة النفسية، والجزء الثاني هو الشرط المتأخر، وهو الغسل، ولا يوجد تفاوت زماني بين الحالة النفسية وبين الغسل.
خلاصة: نشأ الإشكال إذا قلنا إن مولد المصلحة، أو علة المصلحة، هو الغسل أو شرب الدواء. صحيح، يوجد فاصل زمني بين شرب الدواء والمشي ليلة بين الصوم نهاراً والغسل ليلاً، لكن إذا قلنا إن جزء العلة الأولى للملاك هو ليس شرب الدواء أو الصوم نهار السبت، بل الجزء الأول هو أثرهما الباقي، وهو الحالة النفسية للصائم ودرجة الحرارة للمريض، هذا الجزء الأول، والجزء الثاني الشرط، وهو الغسل أو المشي هذا الشرط لم يصبح متأخراً، بل أصبح مقارناً للحالة النفسية ودرجة الحرارة.
إذن شرب الدواء، الصوم، هذا مقتضٍ لحالة نفسية، وهذه الحالة النفسية إذا بقيت واستمرت، واقترنت مع الغسل، فإنها تؤثر في المصلحة ووجود الملاك، فالمصلحة توجد عند الغسل في ليلة الأحد، ولا توجد المصلحة في نهار السبت.
ولا يستشكل حينئذٍ بأنه كيف وجدت المصلحة والملاك في ليلة الأحد مع أن المقتضي، وهو الصوم، قد وجد نهار يوم السبت وقد انقضى، لأننا نقول إن صوم نهار السبت ليس هو المقتضي المباشر لهذه المصلحة والملاك، وإنما صوم نهار السبت مقتضٍ للحالة النفسية، فهو من قبيل شرب الدواء الذي علة لدرجة حرارة معينة.
ثم بعد ذلك نقول إن هذه الحرارة استمرت، وأصبحت مقارنة للمشي، وأيضاً هذه الحالة النفسية التي هي أثر لصوم يوم السبت بقيت ليلة الأحد، وأصبحت مقارنة لغسل المستحاضة ليلة الأحد.
إذن صار هناك اقتران بين الحالة النفسية والغسل في الليل، وصار اقتران بين درجة الحرارة المعينة ومشي المريض في الليل.
وبهذا يتبين أن الشرط المتأخر لا أساس له في الواجبات والتكاليف، وأن ما يبدو فيها أنه شرط متأخر، هو ليس بشرط متأخر، بل في الواقع والحقيقة هو شرط مقارن.
هذا تمام الكلام في المقام الثاني.
إلى هنا انتهينا من المقام الأول وهو إشكال الشرط المتأخر بلحاظ الوجوب، والمقام الثاني إشكال الشرط المتأخر بلحاظ الواجب.
يبقى الكلام في المقام الثالث، وهو ما ادعاه صاحب الكفاية من أنه إذا تم الإشكال في الشرط المتأخر، يتم أيضاً في الشرط المتقدم.
المقام الثالث يأتي عليه الكلام، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.