« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

46/08/12

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائتان وثلاثة وعشرون): محذور أخذ الشرط المتأخر في عالم الملاك

الموضوع: الدرس (مائتان وثلاثة وعشرون): محذور أخذ الشرط المتأخر في عالم الملاك

 

]الموقع الثالث: محذور أخذ الشرط المتأخر في عالم الملاك[

الموقع الثالث محذور أخذ الشرط المتأخر في عالم الملاك، فالموقع الأول ناظر إلى عالم الجعل، والموقع الثاني ناظر إلى عالم المجعول، والموقع الثالث ناظر إلى عالم الملاك الذي هو أسبق من عالم الجعل والمجعول، وإشكال الشرط المتأخر في عالم الملاك أقوى من إشكال الشرط المتأخر في عالم الجعل والمجعول.

]تقريب الإشكال: مؤثرية شرط الوجوب والواجب[

تقريب الإشكال أن يقال:

إن شرط الوجوب يكون له مؤثرية تكوينية في احتياج العبد إلى الفعل، فيكون الاحتياج صفة تكوينية معلولة.

مثال ذلك: برودة الجو شرط في الاحتياج تكوينًا إلى التدفئة؛ فبدون الشتاء وبرودة الجو لا حاجة فعلية تكوينية إلى التدفئة، فتكون برودة الجو شرط وجوب التدفئة، فالتدفئة والحاجة إلى التدفئة صفة معلولة تكوينية لعلة تكوينية وهي برودة الجو.

هذا بالنسبة إلى شرط الوجوب.

وأما شرط الواجب الذي له مؤثرية في إشباع هذه الحاجة وتحققها، فهو يختلف، شرط الواجب يختلف عن شرط الوجوب.

مثال ذلك: إغلاق النوافذ والشبابيك لكي تتحقق التدفئة في الغرفة، فإغلاق النوافذ ليس علة للاحتياج إلى التدفئة كما هو الحال بالنسبة إلى البرودة، ففي شرط الوجوب وهو البرودة، هذا شرط يشكل علة لمعلول تكويناً وهو الاحتياج إلى التدفئة بخلاف شرط الواجب وهو إغلاق النوافذ، فإغلاق النوافذ له مؤثرية في إشباع هذه الحاجة وتحققها.

]الفرق بين شرط الوجوب وشرط الواجب[

إذن، هناك فرق في الشرط الموجب لأصل الحاجة، وهو شرط الوجوب، وبين الشرط المؤثر في إشباع وإتمام هذه الحاجة، وهو شرط الواجب.

إذن، شرط الوجوب الذي يحقق الحاجة الفعلية يختلف عن شرط الواجب الذي يشبع هذه الحاجة، فهو يختلف عنه خطابًا وملاكًا.

]تقريب إشكال الشرط المتأخر في وجوب المتقدم[

والآن نشرع في تقريب الإشكال:

إذا كان شرط الوجوب مقارناً مع الوجوب من قبيل مقارنة الزوال لوجوب صلاة الظهر، فلا يوجد إشكال نظراً لاقتران الشرط بالمشروط، لأن الزوال حين صيرورته أحدث احتياجاً فعلياً عند المكلف إلى صلاة الظهر، فيكون هذا من باب تأثير الموجود في الموجود، تأثير الزوال الموجود في الموجود الصلاة التي وُجدت.

لكن الكلام يختلف إذا كان الشرط متأخراً؛ مثال ذلك: لو قلنا إن صلاة ليلة الأحد شرط في وجوب صوم يوم السبت المتقدم، فهذا يعني أن الشرط المتأخر للوجوب هنا، وهو صلاة ليلة الأحد، قد أحدث احتياجاً عند العبد لصوم يوم السبت المتقدم، وهذا الاحتياج صفة تكوينية واقعية ثابتة بقطع النظر عن جعل المولى وتشريعه.

فبناءً على اعتقادنا بأن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية، فمتى ما وجدت المصالح الواقعية وجد الوجوب، ومتى ما وجدت المفاسد الواقعية وجدت التحريم، فالأحكام ليست جزافًا ولا عبثًا، بناءً على ذلك، تعتبر صلاة ليلة الأحد مؤثرة في ملاك وجوب صوم يوم السبت، أي أن صلاة ليلة الأحد مؤثرة في اتصاف صوم يوم السبت بأنه ذو ملاك ومصلحة.

إذًا، الاحتياج الذي هو صفة تكوينية معلولة لشرط الوجوب، وهذا الاتصاف قد حصل يوم السبت، لكن بسبب شرط متأخر للوجوب، وهو صلاة ليلة الأحد، وهذا يعني تأثير المعدوم، وهو صلاة ليلة الأحد، في الموجود، وهو صوم يوم السبت.

]تحليل الحالات: المكلف والاحتياج[

وقد يُقرّر هذا الإشكال والمحذور بتعبير آخر، فيقال إن المكلف في لحظة طلوع فجر يوم السبت يكون بين إحدى حالتين:

الحالة الأولى أن يكون محتاجًا إلى الصوم بحسب المصالح والمفاسد المولوية.

الحالة الثانية أن لا يكون محتاجًا إلى صوم يوم السبت بحسب المصالح والمفاسد المولوية.

فلو افترضنا الحالة الثانية، وأن المكلف عند طلوع فجر السبت ليس بحاجة فعلية إلى صوم يوم السبت، إذًا لا يجب عليه الصوم، لأن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية، لكن لو افترضنا الاحتمال الأول، وهو أن المكلف عند طلوع فجر يوم السبت بحاجة إلى صوم يوم السبت، فهذا الاحتياج إما أن يكون مربوطًا ومعلولًا بصلاة ليلة الأحد وإما لا، ولا ثالث في البين.

فإن قُلنا بالثاني، وهو أن صوم يوم السبت ليس معلولا وليس مرتبطًا بصلاة ليلة الأحد، فهذا يعني أن صوم يوم السبت مطلق وثابت في حق الجميع، من صلى ليلة الأحد ومن لم يصل، فالكل يكون حينئذ محتاجًا إلى صوم يوم السبت.

وهذا الفرض الثاني خلف كون الاحتياج صفة تكوينية معلولة، بل كلامنا وفرضنا هو الفرض الأول، وهو أن يكون صوم يوم السبت مفتقرًا ومحتاجًا ومربوطًا ومعلولًا لصلاة ليلة الأحد.

وهذا هو عين تأثير المعدوم، وهو صلاة ليلة الأحد، في الموجود، وهو صوم يوم السبت. والمفروض أن الموجود هنا، وهو الاحتياج، هو صفة واقعية تكوينية وليست تشريعية، وهذه الصفة، صفة الاحتياج، أسبق رتبة من عالم الجعل والمجعول، إذ إنها ناظر إلى عالم الملاك.

وخلاصة الإشكال: إن الشرط المتأخر إذا أُخذ في وجوب المتقدم، فهذا يعني تأثير المعدوم المتأخر في الموجود المتقدم، وهذا ليس بصحيح.

والجواب إننا نختار أن الشرط متأخر، لكن لا ندعي أن صلاة ليلة الأحد تحدث الاحتياج في الزمن المتقدم، وهو زمن صوم يوم السبت المتقدم، فهذا الالتزام يعني تأثير المعدوم في الموجود، بل ندعي أن الشرط المتأخر إنما يحدث الاحتياج في زمنه وحين جعله شرطًا، بحيث إن صلاة ليلة الأحد، التي هي الشرط، توجد حالة عند المكلف يكون معها بحاجة إلى صوم يوم السبت، وقد تفوته هذه الحاجة لو لم يفعلها في اليوم المتقدم.

وإليكم التفصيل ثم الإيجاز في الجواب.

]تفصيل الجواب: ثلاث صور لأخذ الشرط المتأخر[

الجواب المفصل: توجد ثلاث صور في هذا المثال، أخذ صلاة ليلة الأحد كشرط في وجوب صوم يوم السبت.

الصورة الأولى: أن تحدث صلاة ليلة الأحد حاجة إلى صوم بعدها، كصوم نهار يوم الأحد. وهنا لا يوجد إشكال، إذ يكون الشرط، وهو صلاة ليلة الأحد، إما متقدماً أو مقارناً، كما لو صلى صلاة ليلة الأحد في آخر أوقات ليلة الأحد واقترن بطلوع فجر يوم الأحد، ففي الصورة الأولى، يكون الشرط إما متقدماً أو مقارناً، وهنا لا إشكال، وهذا خارج فرض مسألتنا.

الصورة الثانية: أن تحدث صلاة ليلة الأحد احتياجاً إلى صوم يوم السبت المتقدم، لكن لا ندعي أنها صلاة ليلة الأحد إذا جاءت ليلة الأحد تؤثر في الاحتياج في الزمن السابق، وهو يوم السبت المتقدم، بل ندعي أن المكلف إذا لم يصم يوم السبت، سيشعر بحاجة لهذا الصوم إلى صلاة ليلة الأحد.

ولنضرب مثالا لتقريب المطلب:

فصل الشتاء يحدث حاجة إلى شراء الفحم في الشتاء، فإذا علم المولى أن عبده سيعجز عن شراء الفحم في الشتاء نظراً لغلائه، فيأمره حينئذ بشراء الفحم في الصيف لأنه رخيص الثمن، لكن إذا بقي حياً في الشتاء، فلا معنى لشراء الفحم في الصيف.

إذن، فحياة المكلف في الشتاء تحدث احتياجه في الشتاء إلى الفحم، ولا تحدث احتياجه إلى الفحم في الصيف، لكن حيث إن الفحم عند احتياجه في الشتاء غير موجود، فإن المولى يحكم بوجوب شرائه للفحم الآن في الصيف، لكن مشروطاً بشرط متأخر بما إذا كان سيعيش إلى الشتاء، هذا شرط متأخر معقول، ولا يلزم منه تأثير المعدوم في الموجود، لأن الشرط هذا أثر في الاحتياج في حينه، لكن الاحتياج إلى فعل سابق.

الخلاصة: صلاة ليلة الأحد أُخذت كشرط في صوم يوم السبت، لكن لم تؤخذ حينما جاء يوم السبت حتى يلزم تأثير المعدوم، وهو ليلة الأحد، في الموجود، وهو يوم السبت، بل أُخذت حين اشتراط ليلة الأحد، بحيث حتى قبل يوم السبت يقول له المولى: "إذاً، ألك نية يوم السبت القادم للصوم". مثل هذا: "إذاً، ألك نية، الشتاء قادم، وأنت لا تقدر على شراء الفحم، إذن، إذا كنت ستعيش إلى الشتاء، اشترِ الفحم".

الصورة الثالثة: أن يحدث الشرط المتأخر، صلاة ليلة الأحد، احتياجاً إلى الجامع بين صوم يوم السبت الذي هو متقدم وصوم يوم الأحد الذي هو متأخر، فهو لا يحدث احتياجاً إلى خصوص المتأخر ولا إلى خصوص المتقدم، بل إلى الجامع بينهما، فهنا يمكن للمولى أن يحكم من أول الأمر في وجوب صوم يوم ما، أن يقول: "يجب أن تصوم يوماً إذا صليت ليلة الأحد".

مثاله في حياتنا اليومية كثير، ومنها أن الطبيب يصف الدواء، ويكون لشربه فائدة كبيرة، ولكن يشترط على المريض إذا أراد أن يحصل على الفائدة أن يحجم عن أكل اللحم البقري مثلاً، وإن لم يكن دواءه مضراً، فالدواء مفيد بشرط أن لا يعقبه أكل لحم البقر. فهنا قد اشترط الطبيب لتحصيل الفائدة من شرب دوائه في الزمن المتقدم إحجام المريض عن تناول لحم البقر في الزمن المتأخر، وهذا شرط متأخر معقول.

خلاصة الجواب عن هذا المقام: بالنسبة للموقع الثالث، إشكال الشرط المتأخر بالنسبة إلى عالم الملاك، إن الشرط المتأخر لا يولد ملاكاً قبله، بل يولد احتياجاً حين اشتراطه. والمولى باعتبار تحفظه على شؤون عبده، يجعل عليه وجوباً من أول الأمر، وهذا الوجوب منوط بهذا الشرط المتأخر، وهنا لا يلزم منه تأثير المعدوم في الموجود، بل هو تأثير موجود في موجود.

هذا تمام الكلام في المقام الأول، وهو محذور الشرط المتأخر فيما إذا كان شرطاً للوجوب.

]المقام الثاني: محذور الشرط المتأخر للواجب[

المقام الثاني: محذور الشرط المتأخر إذا كان شرطاً للواجب، يأتي عليه الكلام.

logo