46/08/06
الدرس (مائتان واثنان وعشرون): التحقيق في إشكال الشرط المتأخر للوجوب
الموضوع: الدرس (مائتان واثنان وعشرون): التحقيق في إشكال الشرط المتأخر للوجوب
[إشكال الشرط المتأخر للوجوب: دراسة تحليلية على ضوء رؤية الشهيد الصدر]
التحقيق في إشكال الشرط المتأخر للوجوب، وقد حقق الشهيد الصدر رحمه الله في إشكال الشرط المتأخر بالنسبة إلى الوجوب[1] وذكر ثلاثة مواقع:
الأول مقام الجعل، والثاني مقام المجعول، الثالث عالم الملاك. ونحن ندرس هذه المواقع الثلاثة كالتالي:
الموقع الأول: الإشكال في مقام الجعل والتشري
التشريع: أي جعل الحكم على موضوعه بنحو القضية الحقيقية، أي النظر إلى الموضوع المفترض والمقدر الوجود، والإشكال في عالم الجعل يكون بأحد تقريبين:
[التقريب الأول: لزوم تأثير المتأخر في المتقدم]
التقريب الأول: ما مضى وحاصله لزوم تأثير المتأخر في المتقدم، وتأثير المعدوم، وهو محال. فإذا قلنا إن صحة صوم المستحاضة يوم السبت تتوقف صحىته على غسل المستحاضة ليلة الأحد، فهنا يلزم تأثير المتأخر وهو الغسل ليلة الأحد في المتقدم وهو صوم يوم السبت، ويلزم تأثير المعدوم، إذ في نهار السبت يكون الغسل ليلة الأحد معدوماً، فكيف يؤثر المعدوم وهو الغسل ليلة الأحد في الموجود وهو الصوم نهار السبت؟
[جواب الإشكال الأول]
وجواب هذا الإشكال الأول ما ذكره صاحب الكفاية رحمه الله، من أن الجعل والتشريع يكفي فيه لحاظ ذلك الشرط، واللحاظ دائماً مقارن، فاللحاظ مقارن للجعل، ولا يكون للشارع بوجوده الخارجي أثر في ذلك، فالمولى حينما يلحظ جعل وتشريع صوم نهار السبت في نفس الواقع يلحظ أن يكون متبوعاً بغسل المستحاضة ليلة الأحد.
إذ لا يوجد شرط متأخر، بل يوجد شرط مقارن بحسب لحاظ المولى، إذن جواب صاحب الكفاية يتم بالنسبة إلى الموقع الأول وهو عالم الجعل والتشريع.
الإشكال الثاني: لزوم التهافت في عالم لحاظ المولى
وهذا ما يظهر من كلمات المحقق النائيني رحمه الله في الإشكال على الشرط المتأخر، كما في تقرير بحثه في "أجود التقريرات"[2] ، و"فوائد الأصول"[3] .
تقريب إشكال لزوم التهافت: إن المولى إذا أراد أن يجب على العبد مثلاً صوم يوم السبت على تقدير أن تغتسل هذه المستحاضة ليلة الأحد، فيجب على المولى تقدير ولحاظ صدور الغسل من المستحاضة ليلة الأحد، بينما هذا التقدير، وهو تقدير ليلة الأحد، هو عبارة عن انتهاء نهار يوم السبت، فكيف يمكن للمولى أن يوجب على هذا التقدير وهو وجوب ليلة الأحد صوم يوم السبت وقد انقضى ومضى ولا يمكنه إرجاعه وإعادته؟
[الجواب على الإشكال الثاني]
الجواب: إن تقدير الغسل ليلة الأحد لا ينحصر في تقديره ماضياً حتى يرد هذا الإشكال، إذ أن هذا الإشكال يرد على فرضية الزمان السابق والماضي، بل يمكن أن يفرضه وأن يقدره في المستقبل، فالمولى يقول: "صوم المستحاضة في يوم السبت القادم صحيحٌ إذا اغتسلت ليلة الأحد القادمة"، فكلاهما ناظر إلى المستقبل، حيث يقدر المولى أن هذه المرأة سوف تغتسل غسل الاستحاضة ليلة الأحد، فيجب عليها صوم يوم السبت على هذا الفرض والتقدير، لا أن المولى يقدر أن المستحاضة قد اغتسلت ليلة الأحد، وبعد مضي غسلها ليلة الأحد يوجب عليها صيام يوم السبت الذي مضى وانقضى.
[النتيجة في الموقع الأول]
والحاصل: أن تجديد ظرف المقدر من حيث فرضه مستقبلاً أو ماضياً إنما يكون بيد نفس المقدر والفارض والجاعل، وليس معنى تقدير وفرض وجعل شيء في زمان لكي يترتب على ذلك التقدير الحكم، ليس معنى ذلك تقدير تحققه ومضيه في الزمن الغابر والماضي بل قد يقدر أنه سوف يدفع، فالمولى إما يقول إذا تحقق أو هذا المتحقق نبني عليه كذا، وكلامنا في الأول أنه إذا تحقق في المستقبل.
وهذا اللحاظ وهو التحقق في المستقبل لا ينافي لحاظ يوم سابق عليه لايجاب الصوم فيه فلا تهافت في اللحاظ هذا تمام الكلام في الموقع الأول إشكال الشرط المتأخر في عالم الجعل بالنسبة إلى الوجوب.
الموقع الثاني: إشكال الشرط المتأخر في عالم المجعول والفعلية.
تقريب الإشكال هو التقريب الأول الذي مضى حينما أشكل المحقق النائيني على صاحب الكفاية بأن جوابه بأن الشرط مقارن خلط بين عالم الجعل والمجعوم، وجواب صاحب الكفاية يناسب عالم الجعل والتشريع فإن الجعل مرجعه إلى قضية شرطية وتقديرية تجعل ولو لم يوجد ولو لم يتحقق الشرط في الواقع الخارجي، فجعل التشريع لا يتوقف على أزيد من التصور واللحاظ هذا بالنسبة الى عالم الجعل.
[الإشكال في عالم المجعول]
وأما بالنسبة إلى عالم المجعول وهو ثبوت الحكوم والوجوب على شخص معين بالذات وخروج الجزاء بشأنه من عالم التقدير والافتراض الى عالم الفعلية والتحقق فهذا لا محالة متوقف على فعلية الشرط في حقه في الخارج.
فإذا تحقق الشرط الخارجي كالاستطاعة أصبح الوجوب فعلياً في حقه فيجب عليه الحج.
وهذا هو إشكال الشرط المتأخر أنه إذا فعلا اغتسلت ليلة الأحد صح صومها المتقدم يوم السبت هذا هو نفسه إشكال الشرط المتأخر كيف يكون الشرط الفعلي الخارجي وهو غسل المستحاضة ليلة الأحد مؤثراً فيما سبقه وهو صوم نهار يوم السبت.
إذا الأمر الثاني ناظر إلى إشكال الشرط المتأخر بحسب عالم المجعول والفعلية.
[جواب الشهيد الصدر على إشكال المجعول]
وأجاب عنه الشهيد الصدر رضوان الله عليه بإنكار وجود المجعول وإنكار وجود شيء وحكم حقيقة اسمه المجعول، فلا يوجد مجعول وراء الجعل، يعني لا يوجد حكم مجعول غير الحكم الذي هو الجعل، فالمجعول ليس إلا أمراً خيالياً، والمراد بالأمر الخيالي هو شيء يوجد في تفكير الجاعل. فالجاعل يتوهم ويخطر في ذهنه شيء.
[مثال توضيحي]
مثال ذلك لو قال الأب لابنه: "إذا حصلت على العلامة الكاملة في الامتحان سأشتري لك سيارة"، وقد توهم الأب أن ولده قد جاء بالعلامة الكاملة، فحينئذٍ قد تحقق المجعول بالنسبة إلى الجاعل، ويتحرك الأب حينئذٍ لشراء سيارة لابنه، والحال أنه قد يكون الولد لم يحصل على العلامة الكاملة أو زور الشهادة وجاء بالعلامة الكاملة.
[تحليل العلاقة بين الجعل والمجعول]
فإذاً يوجد شيء واحد فقط وهو الجعل، وهو التشريع، جعل السيارة بشرط الإتيان بالعلامة الكاملة. وهذا ما يعبر عنه بالمجعول، ليس إلا عبارة عن تطبيق وانتزاع، أي أن الجاعل انتزع من جعله مصداقاً وطبقه عليه، فهذا تطبيق للكبرى التي يأتي بها الجاعل على صغرى يتخيلها أو يعتقد بها أو يتوهمها، فلا توجد اثنينية جعل ومجعول، يوجد شيء واحد فقط: أصل الجاعل والتشريع، والمجعول أمر خيالي، أي نظر في أفق ذهن الجاعل.
وسيأتي توضيح هذا بمزيد بيان من الشهيد الصدر في بحث الواجب المطلق والمشروط.
[الاحتمالات في نسبة المجعول إلى الجعل]
وحاصله إن المجعول الذي يفرض تحققه بعد الجعل عند فعلية الموضوع، هل نسبته إلى الجعل هي نسبة المجعول إلى الجعل، أو هي نسبة المسبب إلى السبب، كنسبة المقتضى إلى المقتضي؟ يوجد هنا احتمالان:
[الاحتمال الأول: نسبة المجعول إلى الجعل]
الاحتمال الأول أن تكون النسبة هي نسبة المجعول إلى الجعل، وهذا غير معقول.
والسر في ذلك: أن المجعول والجعل حالهما حال الإيجاد والوجود، فإن الجعل إيجاد والمجعول وجود، والتغاير بين الإيجاد والوجود إنما هو تغاير اعتباري وليس تغيراً حقيقياً، فالجعل وجود والمجعول هو نفس الوجود، فمن ناحية وجود الجعل والمجعول، وجودهما واحد، والتغاير بينهما بالاعتبار واللحظة، فإذا لحظ أصل التشريع والجعل، قال: "هذا جعل"، وإذا لحظت تطبيق هذا الجعل وهذه الكبرى على مصداقه وصغراه، قال مجعول.
إذاً، لا يعقل أن تكون النسبة بينهما نسبة المجعول إلى الجعل لأنهما واحد حقيقة ووجوداً، إذا الاحتمال الأول باطل،
[الاحتمال الثاني: نسبة المسبب إلى السبب]
أما الاحتمال الثاني فهو أن تكون النسبة بينهما نسبة المقتضى إلى المقتضى ونسبة المسبب إلى السبب، يعني أن الجعل مسبب ومقتضى، والمجعول مقتضى ومسبب.
والمقتضى كالحكم المجعول، كثيراً ما يتأخر زمانه عن المقتضى بسبب عدم اكتمال الشروط، فإذا تحققت الشروط واكتملت، أصبح المقتضى فعلياً، فيتحقق المقتضى.
وهنا نقول أيضاً: هذا الاحتمال الثاني باطل.
[مناقشة الاحتمال الثاني]
فلو قلنا إن هذا المجعول نسبته إلى الجعل هي نسبة المسبب والمقتضى إلى السبب والمقتضي، نسأل هذا السؤال: هل هذه العلاقة والنسبة بين المقتضى والمقتضي، بين المسبب والسبب، هل هي علاقة خارج ذهن المولى الجاعل أو داخل ذهن المولى الجاعل؟ ولا ثالثة في البين، وكلا الاحتمالين سقيم وعقيم.
[الاحتمال الأول: العلاقة خارج الذهن]
أما الاحتمال الأول وهو أن يراد بأن النسبة بين المجعول والجعل هي نسبة المقتضى إلى المقتضي خارج ذهن المولى.
والجواب أنه باطل لوضوح أن الحكم ليس من الأمور الخارجية كالسواد والبياض والحرارة والبرودة. فإذاً، لا معنى لكون العلاقة بين المجعول والجعل هي العلاقة بين المقتضى والمقتضي في الخارج، فالاحتمال الأول ليس بتام.
[الاحتمال الثاني: العلاقة داخل الذهن]
أما الاحتمال الثاني، وهو علاقة المقتضى إلى المقتضي في ذهن المولى، فهذا أيضاً باطل لوضوح أنه يكفي في فعلية الحكم تحقق موضوع في الخارج واقعاً، ولو لم يتحقق في ذهن المولى. فلو كان الأب يعتقد أن الولد ضعيف ولا يحصل على علامة كاملة، وكان في الواقع الولد قد جاء بالعلامة الكاملة، فحينئذٍ يستحق شراء السيارة، وإن تخيل المولى أنه لا يستحقها.
إذاً، الاحتمال الثاني أن تكون النسبة بين المجعول والجعل نسبة المسبب إلى السبب في أفق ذهن المولى، هذا باطل لأنه من الواضح أنه يكفي في فعلية الحكم تحقق موضوع الحكم خارجاً وواقعاً، سواء التفت المولى إلى هذا التحقق أو لم يلتفت إليه أو اعتقد خطأ عدم تحققه.
[الخاتمة: المجعول كتصور خيالي]
إذاً، يا أخي، المجعول مجرد خيال وتصور للجاعل، يعني المجعول اعتقاد للجاعل، والواضع أنه يضع أصل الكبرى: "إن جئتني بالعلامة الكاملة، أعطيتك سيارة". ويتوهم أن الولد جاء أو لم يأتِ. فالفعلية بالنسبة إلى المولى توهم، وليس المدار على توهم المولى، بل المدار على تحقق الموضوع خارجاً.
فالمولى حينما يتصور المستطيع مثلاً ويجعل له وجوب الحج، فهو بنظره التصوري يرى كأنه قذف هذا الوجوب إلى البعيد وإلى مستطيعٍ قد يكونون غير مولود إلى الآن. نعم، فاعلية الحكم ومحركيته عقلاً إنما تكون مع انطباق عنوان الموضوع على شخص في الخارج واقعاً، لا بحسب الاعتقاد والوهم.
فإذا انطبق على هذا الشخص عنوان أنه سيصلي ليلة الأحد، أو هذه المرأة ستغتسل ليلة الأحد، حكم العقل بلزوم طاعة أمر المولى بصوم يوم السبت، لكن انطباق هذا العنوان عليه ليس بابه باب التأثير، والتأثير، بل بابه باب الانطباق والانتزاع، فهو من باب الانتزاع.
بل، يا أخي، حتى لو لم يوجد حكم تشريعي، ما موجود جعل من قبل المولى، كما لو قيل: "فلان سيغتسل ليلة الأحد، وزيد سيصلي صلاة الليل"، فينتزع من عنوان هذا، فينتزع من هذا الشخص عنوان "سيصلي صلاة الليل"، وهذا لا يعني تأثير المتأخر على المتقدم، لأنه أصلاً لا يوجد حكم بالنسبة إلى صلاة الليل، فلا يوجد حكم ولا يوجد شرط متأخر.
إذاً، الخلاصة: الحكم المجعول أمر خيالي، أي فعلية للحكم في خيال الجاعل والمنشئ للجعل، وليس المدار على خيال الجاعل، بل المدار على تحقق الموضوع بالفعل.
هذا تمام الكلام في معالجة إشكال الشرط المتأخر بالنسب الأمر الثاني، مقام المجعول.
[الموقع الثالث: الإشكال في مقام الملاك]
الأمر الثالث معالجة الإشكال بالنسبة إلى مقام الملاك، وهذا الإشكال في عالم الملاك أقوى من الإشكال في عالم الجاعل والمجعول، وإن شاء الله يأتي عليه الكلام.