« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

46/08/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائتان وواحد وعشرون): تقسيمات المقدمة

الموضوع: الدرس (مائتان وواحد وعشرون): تقسيمات المقدمة

 

]تقسيمات المقدمة في علم الأصول[

قُسِّمت المقدمة إلى عدة أقسام نظرًا لاختلاف اللحاظات في التقسيم، ومن هذه الأقسام والتقسيمات: تقسيم المقدمة إلى مقدمة وجودية ومقدمة وجوبية، وقد أشرنا إلى ذلك في تحقيق عنوان محل النزاع، وقلنا إن المراد بمقدمة الواجب هو خصوص المقدمة الوجودية دون المقدمة الوجوبية.

وهناك تقسيمات عديدة لا داعي للتطرق إلى تفاصيلها كتقسيم المقدمة إلى عقلية وشرعية ومقدمة وجود ومقدمة صحة ومقدمة داخلية ومقدمة خارجية، لكن ذكر صاحب الكفاية - رحمه الله - تقسيم الشرط إلى ثلاثة أقسام: الشرط المتقدم، الشرط المقارن، والشرط المتأخر، فهذه ثلاثة أقسام.

]إشكالية الشرط المتأخر[

وجاء النزاع في الشرط المتأخر إذ إن الشرط بمثابة العلة أو جزء العلة فكيف يتأخر عن المشروط؟ مثال ذلك صحة صوم المستحاضة المشروط باغتسالها ليلًا، فصحة صوم المستحاضة في يوم السبت مشروط باغتسالها ليلة الأحد، فالشرط هو الغسل المتأخر ليلة الأحد، والمشروط وهو صحة الصوم متقدم وهو يوم السبت.

وبالتالي وقع بحث بين الأصوليين في صحة الشرط المتأخر وقد عَدَّ صاحب الكفاية - رحمه الله - هذا النزاع والإشكال من الشرط المتأخر إلى الشرط المتقدم.[1]

إذًا لابد من بحث الشرط المتأخر لنرى هل هو معقول أو غير معقول.

]الفرضيات حول تأثير الشرط المتأخر[

ومن الواضح وجود مقدمة عقلية مثل نصب السُلَّم للصعود على السطح أو مقدمة شرعية عَرَضية مثل مقدمية الوضوء للصلاة، ومن الواضح أن نشوء هذه المقدمية من أخذ الصلاة مقيدة بالوضوء، فمن الواضح أن نفس الصلاة وهذا المركب لا يتوقف في وجوده على الوضوء، لكن الصلاة المقيدة والمشروطة بالوضوء متوقفة على هذا الشرط وهو الوضوء فيقال له مقدمة شرطية.

[سؤال:] وعلى أي حال، يقع الكلام والبحث في أنه أي شيء يكون مقدمة وجودية بحيث يكون موجبًا للدخول في محل النزاع بحيث نبحث هل هو واجب أو لا؟

والجواب: كل هذه التقسيمات من داخلية وخارجية ومقدمة عقلية ومقدمة شرعية لا أثر للتعرض لها، والذي يستحق التعرض له من هذه التقسيمات هو التقسيم الأخير: تقسيم المقدمة إلى الشرط المقارن والمتأخر كتمهيد للدخول في إشكالية الشرط المتأخر بل إشكالية الشرط المتقدم وفق مبنى صاحب الكفاية.

]صياغة الإشكال[

صياغة الإشكال: إن الشرط المتأخر، مثل غسل المستحاضة، غير معقول في نفسه باعتبار أن لهذا الشرط له فرضان:

الفرض الأول أن يفرض أنه لا يؤثر في مشروطه شيئًا، فلا يؤثر غسل المستحاضة في صومها شيئًا.

الفرض الثاني أن يفرض أن الشرط يؤثر شيئًا في مشروطه ويفيد صحة صوم المستحاضة.

إذن عندنا فرضان: فإن فرض الفرض الأول وهو عدم التأثير، فهذا خلف الشرطية إذ لا نعقل للشرطية معنى إلا التأثير الضمني للمشروط وأن الشرط جزء من أجزاء المولدة للمشروط، فسلخ الشرط عن التأثيرية هو سلخ عن الشرطية وهو خلف.

الفرض الثاني وهو كون الشرط مؤثرًا، فحينئذ نسأل: هل يكون تأثير هذا الشرط في ظرف مشروطه المتقدم، أي في ظرف الصوم، أو يكون تأثيره في ظرف وجود نفس الشرط المتأخر، أي يؤثر في نفس الليل الذي تغتسل فيه المستحاضة؟

إذن يوجد عندنا زمانان: زمان للمشروط كصوم المستحاضة وزمان للشرط المتأخر كالليل الذي تغتسل فيه المستحاضة، ففي أي الزمانين يفرض تأثير الشرط؟

قد يقال: على كل الفرضين يكون تأثير الشرط غير معقول.

]مقامات البحث في الشرط المتأخر[

الفرض الأول وهو كون التأثير في زمان المشروط، أي الزمان المتقدم وهو صوم يوم السبت مثلًا، فهذا غير معقول، والسر في ذلك: أن الشرط متأخر وهو الاغتسال ليلة الأحد. فعند نهار السبت، أي وقت المشروط، يكون الشرط معدومًا في الزمان المتقدم، فيلزم من تأثيره في الزمان المتقدم تأثير المعدوم، وهو باطل بالبداهة العقلية لأن المعدوم بما هو معدوم لا يمكن أن يؤثر في عالم الوجود.

الفرض الثاني أن نفترض أن الشرط المتأخر مؤثر في الزمان الثاني وهو زمان وجوده، أي أن غسل المستحاضة يؤثر في الليل، وحينئذ لا يلزم تأثير المعدوم لأنه موجود في هذا الظرف، إذ حال الليل واغتسلت المستحاضة، لكن يلزم حينئذ أن يؤثر الحاضر في الماضي، مع أن الماضي قد وقع والواقع لا ينقلب عما وقع عليه فيكون مستحيلًا لاستحالة انقلاب الواقع عما هو عليه.

هذا تمام الكلام في تقريب إشكال الشرط المتأخر.

ولحل هذا الإشكال ينبغي البحث في مقامات ثلاثة:

المقام الأول في تحقيق حال محذور الشرط المتأخر فيما إذا كان شرطًا لنفس الوجوب.

المقام الثاني في تحقيق حال الشرط المتأخر فيما إذا كان شرطًا متأخرًا للواجب لا للوجوب.

المقام الثالث فيما ألحقه المحقق الخراساني صاحب الكفاية بالشرط المتأخر وهو الشرط المتقدم حيث ادعى إن إشكالية الشرط المتأخر تسري إلى الشرط المتقدم أيضًا.

]أحكام الشرع كأمور اعتبارية[

وقبل الخوض في تفاصيل هذه الأبحاث نشير إلى نكتة عامة عرفية.

سؤال: هل الأحكام الشرعية أمور اعتبارية أم أمور عقلية؟

الجواب: أمور اعتبارية إذ إنها تخضع لجعل الجاعل ووضع المعتبر، بخلاف الفلسفة فإنها تدرس الوجود، وأهم مبحث في دراسة الوجود هو بحث العلة والمعلول وقانون العلية.

وبعبارة أخرى: إن الفلسفة تدرس قوانين عالم التكوين والشريعة تدرس قوانين عالم التشريع والاعتبار. فاختلف العلماء بين عالم التكوين والوجود والخالق الذي تدرسه الفلسفة وتدرس بحث العلة والمعلول وبين قوانين عالم التشريع والجعالة والاعتبار، والاعتبار يخضع لوضع المعتبر ووضع المعتبر واعتبار المعتبر، وقال: "الاعتبار سهل المؤونة".

وبحث الشرط المتأخر يعني أن المشرّع، وهو الله عز وجل، والشريعة المقدسة شرعت هذا التشريع، ولا مانع عقلي من أن يعتبر المشرع الشرط متأخرًا والمشروط متأخرًا، لا يوجد مانع عقلي من ذلك، هذا أمر اعتباري، والاعتبار سهل المؤونة.

لكن دخلت المباحث الفلسفية والعقلية في علم الأصول وتوسعت هذه الإشكالات، والحال أنه بمقتضى الذوق العرفي والاعتبار اللفظي لا يوجد إشكال، هذا الجواب بشكل موجز وبسيط وعام.

]الوجود اللحاظي مقابل الوجود الخارجي[

الجواب بشكل مفصل نشرع في بيان المقامات الثلاثة:

المقام الأول محذور الشرط المتأخر لنفس الحكومة أي نفس الوجوب، كما لو فرض أن المولى حكم بوجوب الصلاة في النهار على من لم يصلِّ صلاة الليل في ليلة هذا النهار أو على من سيصلي صلاة الليل في هذا الليل، فحينئذ تكون صلاة الليل وجودًا وعدما شرطًا متأخرًا في أصل وجوب الصلاة في النهار، فالمشروط متقدم وهي صلاة نهار السبت، والشرط متأخر وهو الإتيان بالصلاة صلاة الليل ليلة الأحد أو عدم الإتيان بها.

وقد ذكر المحقق الخراساني صاحب الكفاية في مقام دفع إشكال الشرط المتأخر في باب الأحكام الشرعية أنما هو الشرط بحسب الحقيقة إنما هو الوجود اللحاظي الذهني للشرط المتأخر وليس الوجود الخارجي، ومن الواضح أن الوجود اللحاظي مقارن دائمًا، ففي ذهن وأفق المشرع والجاعل يوجد اقتران بين الشرط والمشروط.

يراجع كفاية الأصول[2] .

توضيح جواب صاحب الكفاية: إن الحكم هو فعل من أفعال الله تعالى وقائم بالمولى قيام الجعل بالجاعل، فأي تشريع من أي مولى، سواء كان المولى الحقيقي (الله) أو المولى العرفي، هذا الحكم فعل من أفعال المولى وقائم بالمولى قيام الجعل بالجعل والإنشاء بالمنشئ، فهو قائم في نفس المولى لا في الخارج.

ومن الواضح أن الجعل في مقام جعل وجوب الصلاة في النهار على من يصل الليل في الليلة القادمة يتوقف على لحاظ الشرط، أي لحاظ صلاة الليل في الليلة القادمة. ويتضح أنه لو لم يُلحظ أصلاً الشرط، وهو الصلاة في صلاة الليل في الليلة القادمة، لما امكنه أن يجعل مثل هذا الشرط. إذًا فشرط هذا الجعل إنما هو الوجود اللحاظي لصلاة الليلة القادمة لا الوجود الخارجي لها. والوجود اللحاظي هذا مقارن مع الجعل والحكم. فإن لحاظ المولى لصلاة الليلة القادمة موجود حين جعل المولى الحكم، فيكون مقارنًا مع الحكم، وما هو متأخر عن الحكم، وهو الوجود الخارجي لصلاة الليلة القادمة، ليس شرطًا بحسب الحقيقة.

وقد اعترضت مدرسة المحقق النائيني على هذا الجواب جواب صاحب الكفاية.

مراجعة: فوائد الأصول، تقرير الكاظمي للميرزا النائيني لبحث الميرزا النائيني[3] ، ومحاضرات الأصول للشيخ الفياض تقرير البحث السيد الخوئي[4] .

إذ اعترضت مدرسة المحقق النائيني على إجابة صاحب الكفاية، وقالت إن هذا خلط بين الجعل والمجعول، إذ إن اللحاظ من شأن عالم المجعول وعالم الجعل. فما ذكره صاحب الكفاية من الشرط المقارن ناظر إلى ماذا؟ إلى عالم الجعل. وكلامنا في التكليف الفعلي، أي عالم المجعول. وفي عالم المجعول يُلاحظ الخارج. وفعلية الشرط الخارج، فهذا خلط بين عالم الجعل وعالم المجعول. هذا جواب بشكل مجمل. الجواب بشكل مفصل كما نقرأ في محاضرات الشيخ حسن عبدالساتر[5] .

تفصيل الجواب: يوجد في عالم إنشاء الحكم أمران: أحدهما الجعل والثاني المجعول. أما الجعل فهو أمر لا يتوقف على وجود الشرط والموضوع خارجيًا، وإنما يكفي في تحققه لحاظه من قبل المولى وتقديره من قبل الجاعل، كان يلحظ المولى موضوعًا كليًا ويقدر وجوده ويفترض تحققه ثم ينشئ وجوبًا عليه فيقول: من يصلي الليل في الليل القادم يجب عليه الصلاة في نهاره.

وهذا جعل يتحقق من المولى حتى لو لم يوجد هناك مُصلٍّ أصلاً في الخارج، لأن هذا الجعل مآله إلى قضية شرطية جعلية تقديرية، يكفي في شرطه لحاظه وتقديره من قبل الجاعل دون أن يتوقف على وجود الشرط والموضوع خارجًا.

إذاً هذه القضية الشرطية بما هي قضية شرطية حقيقية هي الجعل. وأما المجعول وهو الحكم الفعلي فإنه عبارة عن فعلية جزاء هذه القضية بفعلية شرطها. فهو متوقف على فعلية الشرط وتحققه خارجًا. إذ إن المولى بعد أن أنشأ تلك القضية الشرطية المُعلقة قد وجد خارجًا من يصلي صلاة الليل. وبهذا أصبح الشرط في القضية الشرطية فعليًا. وعليه فلا محالة يصبح الجزاء وهو الحكم فعليًا.

مثال ذلك: الاستطاعة والحج، تشريع أصل وجوب الحج يحتاج إلى اللحاظ، يعني المولى يلحظ وجود الاستطاعة لتحقق وجوب الحج، يحتاج إلى تقدير وافتراض وجود استطاعة. هذا في عالم الجعل.

لكن في عالم المجعول، أي تكليف المكلف خارجيًا، هل يجب عليه الحج أم لا؟ إذا توفرت الاستطاعة خارجيًا، يكون الحج فعليًا في ذمته وداخلاً في عهدته.

إذاً يصبح الشرط في القضية الشرطية فعليًا، إذا تحقق الشرط في الخارج. وعليه، فلا محالة يصبح الجزاء وهو الحكم فعليًا، ويخرج من عالم التقدير إلى عالم التحقيق، وتنشأ قضية تنجزية بدلاً عن القضية الشرطية. مفادها أن فلانًا يجب عليه الصلاة في النهار فعلاً، وهذه قضية إنجازية وفعلية، وهذا هو المجعول.

وحينئذ يقال إن ما ذكره المحقق الخراساني صاحب الكفاية من أن الشرط هو اللحاظ الملحوظ يناسب هذه الإجابة في عالم الجعل وعالم إنشاء القضية الشرطية. كما ينشئ المولى قضية شرطية ويقول إذا استطاع المكلف فلا يحناج، فإن هنا لا يحتاج إلا إلى الافتراض والتقدير. وهذا هو اللحاظ الذي يحتاجه الجاعل للوجود الخارجي. ومن الواضح أن الوجود اللحاظي هذا يقارن الجاعل دائمًا. وليس كلامنا في عالم الجاعل. كلامنا في عالم المجعول. أصل الإشكال في عالم المجعول، أي عالم القضية الفعلية الذي يتحول فيه المجعول من التقديرية إلى التحقيق. تابعًا لتحول الشرط من التقدير إلى التحقيق. فإنه في هذا العالم فعلية المجعول تابع لوجود الشرط خارجًا. ويكون وجوب الحج بالفعل فرع وجود استطاعة بالفعل في الخارج، لا فرع لحاظ الاستطاعة أو وجود الاستطاعة لحاظًا.

وعليه، فإذا فرض كون هذا الشرط متأخرًا، فيكون الوجوب والحكم فرع أمرين ونتيجة أمرين لم يولدا بعدُ، وحينئذ يلزم تأثير المعدوم، وهو صلاة الليل في الليلة القادمة، أو غسل المستحاضة في الليلة القادمة، في الموجود والمتقدم وهو صحة صوم هذا اليوم أو صلاة هذا اليوم أو نهار هذا اليوم، لأن الشرط هنا هو الوجود الخارجي، لا الوجود اللحاظي.

إذًا فلا يُتَّبع جواب صاحب الكفاية أعلى الله في الخلد مقامه، وتحقيق الكلام في المقام هو أن إشكال استحالة الشرط المتأخر للوجوب يتصور في ثلاثة مواقع.

إذًا، تحقيق الجواب على الشرط المتأخر يتطلب الكلام.


logo