« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

46/08/04

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائتان وعشرون): مقدمة الواجب

الموضوع: الدرس (مائتان وعشرون): مقدمة الواجب

 

]مقدمة البحث[

مقدمة: الواجب تحقيق عنوان المسألة.

مقدمة الواجب واجبة، وهذا العنوان فيه موضوع وهو مقدمة الواجب، وفيه محمول وهو واجب.

فلابد من البحث في ثلاثة أمور:

الأمر الأول تحقيق عنوان الموضوع، وهو معنى مقدمة الواجب؛

الأمر الثاني تحقيق عنوان المحمول، وهو مراد من الوجوب؛

الأمر الثالث ثبوت المحمول للموضوع، فلابد من دراسة هذه الأمور الثلاثة بعناية.

]الأمر الأول: تحقيق عنوان الموضوع (مقدمة الواجب)ِ]

الأمر الأول: تحقيق عنوان الموضوع مقدمة الواجب.

فما المراد بالمقدمة؟ هل المراد مقدمة الوجود أو مقدمة الوجوب؟ مثال ذلك: وجوب الحج

فله مقدمتان:

المقدمة الأولى: هي الاستطاعة، فالاستطاعة مقدمة وجوبية، فإذا انعدمت الاستطاعة انعدم الوجوب، فالحكم الشرعي وهو وجوب الحج فرعُ وجود المقدمة الوجوبية.

المقدمة الثانية: المقدمة الوجودية كالسفر والزاد والراحلة، فهذه مقدمة لوجود الحج، ومن دون السفر إلى مكة لمن لم يكن ساكنًا بمكة لا يمكنه أن يؤدي الحج.

سؤال: فحينما نقول مقدمة الواجب، ما هو مقصودنا من مقدمة الواجب؟

الجواب: المراد هو المقدمة الوجودية كالزاد والراحلة، وليس المراد هو المقدمة الوجوبية. فحينما نقول الوضوء مقدمة لوجود الصلاة، هذا لا يعني أن الوجوب هو أن الوضوء دخيل في إيجاد الصلاة على المكلف، بل يعني أنه لا يمكن إيجاد الصلاة إلا بوضوء. إذاً، الوضوء هو المقدمة الوجودية للمقدمة الوجوبية.

وبتعبير آخر: المراد بها مقدمات وجود الواجب، أي ما يتوقف إيجاد الواجب على إيجاده. إذاً المقدمة على قسمين: الأول المقدمة الوجودية، الثاني المقدمة الوجوبية. وهذان القسمان يختلفان بحسب عالم الجعل وعالم الملاك معًا. ونذكر وجه الاختلاف بحسب عالم الجعل وعالم الملاك كما ذكره الشهيد الصدر رحمه الله في تقريرات الشيخ حسن عبد الساتر، بحوث في علم الأصول، الجزء الخامس، وهو المجلد الثالث، صفحة 7. إذ كرر رحمه الله وفي تكراره مزيد بيان، وإن كان سيدنا الأستاذ السيد كاظم الحائري ذكر هذا الكلام صفحة أو صفحة ونصف تقريبًا، ولكن هذا التكرار والتفنن في التعبير فيه مزيد بيان ونكات الفرق بين المقدمة الوجوبية والوجودية بلحاظ عالم الجعل والملاك.

]الفرق بين المقدمة الوجودية والوجوبية بحسب عالم الجعل[

أولاً: الفرق بحسب عالم الجعل، فالمقدمة الوجوبية كالاستطاعة تأخذ مفروضة الوجود في مقام جعل الحكم، ويكون الوجوب منوطًا بها.

فوجوب الحج منوط بتحقق الاستطاعة، أي أن المولى حينما أوجب الحج جعل الاستطاعة مفروضة الوجود.

وأما المقدمة الوجودية كالسفر إلى الحج فهي ليست دخيلة في اتصاف الفعل بكونه ذا ملاك ومصلحة، فالسفر ليس دخيلاً في اتصاف الحج بكونه ذا ملاك عبادي، فيكون الوجوب مطلقًا من ناحية المقدمة الوجودية، أي إن وجوب الحج مطلق سواء سافرت أو لم تسافر، وجوب الحج مطلقًا من ناحية الاستطاعة، أي إن الحكم الشرعي مطلق من ناحية المقدمة الوجودية وغير منوط بها، والمقدمة الوجودية ليست مفروضة الوجود ولم تأخذ مفروضة الوجود في مقام جعل الحكم الشرعي.

هذا تمام الكلام في بيان الفارق بينهما بحسب عالم الجعل.

]الفرق بين المقدمة الوجودية والوجوبية بحسب عالم الملاك[

ثانيًا: الفارق بينهما بحسب عالم الملاك، فالمقدمة الوجوبية يكون وجودها كفيلاً باتصاف الفعل بكونه ذا مصلحة، وذلك فيما إذا كانت المقدمة اختيارية ومقدورة للمكلف، فالاستطاعة لها دخل في اتصاف الحج بالوجوب.

ومن هنا أخذ وجود الاستطاعة قيدًا في وجوب الحج، وأخذت الاستطاعة شرطًا للوجوب. ومن هنا لا يتوهم ترشح الوجوب على المقدمة، وهي الاستطاعة، إذ إن الاستطاعة هي التي تحقق وجوب الحج، فكيف يترشح الوجوب من الحج إلى الاستطاعة، أي أن الاستطاعة بمثابة العلة، والحج بمثابة المعلول. فكيف يكون المعلول، وهو الحج، علة لعلته، وهي الاستطاعة.

الخلاصة: إن المقدمة الوجوبية كاستطاعة للحج دخيلة في احتياج الإنسان إلى هذا الفعل كالحج، بينما المقدمة الوجودية كالسفر ليست دخيلة في ترتب المصلحة خارجيًا، فالسفر لا يحقق مصلحة وجوب الحج.

بتعبير آخر: هي دخيلة في إشباع حاجة الإنسان فعلًا، ويضرب الشهيد الصدر مثلًا، يقول: برودة الجو والهواء مقدمة وجوبية للرغبة في النار وتحقيق التدفئة، بمعنى إن اتصاف النار والمدفأة بكونها ذات مصلحة واحتياج الإنسان إليها إنما يكون متى ما صار الشتاء، فبرودة الهواء مقدمة وجوبية بمعنى أن برودة الهواء دخيلة في اتصاف المدفأة والنار بكونها ذات مصلحة وفي احتياج الإنسان إليها.

وأما بعد أن برد الهواء وأصبحت النار ذات مصلحة، وأصبح الإنسان محتاجًا إلى النار والمدفأة، فهنا عندنا مقدمة وجوبية، وهي سد شبابيك الغرفة، إذ لو لم تُسد شبابيك الغرفة والنوافذ لما حصل الدفء خارجيًا، ولم تُشبع حاجة الإنسان خارجيًا، فسد الشبابيك والنوافذ مقدمة وجوبية، يعني مقدمة لوجود التدفئة وسد حاجة الإنسان، فسد الشبابيك ليس دخيلًا في أصل احتياج الإنسان إلى النار.

فمحل النزاع في بحثنا إنما هو المقدمة الوجودية، لا المقدمة الوجوبية، لوضوح أن المقدمة الوجوبية إذا أخذناها مفروضة الوجود في المرتبة السابقة على الحكم، فحينئذٍ يثبت الحكم، ويستحيل أن يترشح الحكم على المقدمة الوجوبية من ناحية ذلك الحكم. إذ المقدمة الوجوبية بمثابة العلة، والحكم بمثابة المعلول. فكيف يترشح الوجوب من الحكم الذي هو معلول على المقدمة الوجوبية التي هي علة؟ هذا خارج عن محل النزاع، وهو المقدمة الوجوبية.

]نتيجة الأمر الأول[

إلى هنا تم الكلام في الأمر الأول، وهو تحقيق عنوان الموضوع، واتضح أن المراد بمقدمة الواجب هي مقدمة وجود الواجب، وليست مقدمة وجوب الواجب.

]الأمر الثاني: تحقيق عنوان المحمول (الوجوب)]

الأمر الثاني: تحقيق عنوان المحمول، تقول: مقدمة الواجب واجبة، فما المراد بالواجب والوجوب؟ وهنا نطرح أربع احتمالات الثلاثة الأولى منها خارجة، فيتعين الرابع.

الاحتمال الأول: اللابدية التكوينية، وليس المراد بمقدمة الواجب واجبة، وليس المراد بالوجوب هو اللابدية التكوينية بمعنى الشيء الذي لا يمكن أن يوجد الواجب بدونه، فإن هذا بعبارة أخرى هو نفس المقدمة لكن بتعبير آخر فاللابدية التكوينية هي عين المقدمية، فلا معنى للنزاع في أنه لابد من وجوده أو ليس لابد من وجوده.

إذا الاحتمال الأول هو نفس فرض الوجوب وهو عين اللابدية التكوينية، فلا نزاع في ذلك.

إذًا الاحتمال الأول أن يراد بالوجوب اللابدية التكوينية خارجة، مثل ماذا؟ اللابدية التكوينية، إذا تحققت النار، تحققت الحرارة، إذا وجدت برودة، تحققت البرودة. هذه لابدية تكوينية.

أما الاحتمال الثاني: اللابدية العقلية، إذا وجدت العلة، وجد المعلول. وإذا وجد المعلول، فلابد من وجود علته، وليس المراد بالوجوب اللابدية العقلية، بمعنى حكم العقل بتنجيز الإتيان بالمقدمة على المكلف، وعدم صحة الاعتذار من المكلف بأنه إنما ترك الواجب لكون مقدمته غير موجودة، كما لو أراد العبد أن يعتذر للمولى عن ترك الصلاة لكونه غير متوضئ، فهذا العذر ليس حجته بحكم العاقل، فمعنى اللابدية العقلية ليس هو محور بحثنا.

إذًا المعنى الأول انتفى، وهو اللابدية التكوينية، والمعنى الثاني انتفى، وهو اللابدية العقلية.

الاحتمال الثالث: الوجوب المولوي الفعلي المجعول على عنوان المقدمة، إما إجمالاً أو تفصيلًا، وليس المراد من وجوب المقدمة الوجوب الفعلي، إما تفصيلًا أو إما إجمالًا، نظرًا لأن الجعل الفعلي يتوقف لا محالة على الالتفات التفصيلي إلى المقدمة من قبل الجاعل، والحال أن الجاعل كثيرًا ما يكون غافلاً عن وجود مقدمة لشيء قد أوجبه، فالجاعل العرفي قد يوجب شيئًا مع غفلته وعدم التفاته إلى وجود مقدمة له أصلًا، إذاً فلا معنى لدعوى الوجوب الفعلي المولوي.

إذاً ثلاثة معاني انتفت: أولًا اللابدية التكوينية، ثانيًا اللابدية العقلية، ثالثًا الوجوب الفعلي التفصيلي أو الإجمالي. يتعين الاحتمال الرابع، والمراد به الوجوب المولوي الفعلي الارتكازي والشأني، أي إن المولى لو أوجب شيئًا ولم يوجب مقدمته، ولعلّه لم يلتفت إلى مقدمته حين إيجابه، لكن لو التفت إلى المقدمة لطلبها.

]نتيجة الأمر الثاني[

فالمراد بالوجوب المقدمي هو الوجوب الفعلي الارتكازي، أي إن المقدمة تجيب بالوجوب الفعلي الارتكازي الشأني، فحتى لو لم يلتفت المولى إلى المقدمة يكفي أنه لو التفت إليها لطلبها، فالمراد بالوجوب المقدم هو الوجوب الشأني والارتكازي، فهذا الوجوب المقدم تصدق معه هذه القضية الشرطية، وهي أنه لو التفت لطلبه فيكون الطلب موجودًا بوجود ارتكازي الشأني، ويخرج إلى عالم الفعلية بمجرد الالتفات.

هذا تمام الكلام في الأمر الثاني، وهو تحقيق عنوان المحمول.

]الأمر الثالث: تحقيق النسبة بين المحمول والموضوع[

الأمر الثالث: تحقيق النسبة بين المحمول والموضوع.

سؤال: فما هو المراد من ثبوت المحمول، وهو الوجوب، للموضوع، وهي مقدمة الواجب؟

الجواب: المدعى أن ثبوت الوجوب للمقدمة باعتبار الملازمة العقلية ودعوى أن مقدمة المقدمة تستلزم عقلًا هذا الوجوب المولوي التقديري الشأني الارتكازي، لا تقول: نحن نبحث مباحث الألفاظ، وفي مباحث الألفاظ نبحث مقدمة الواجب. إذاً، كلامنا عن خصوص استفادة هذه الملازمة بحسب عالم الألفاظ.

والجواب: ليس النزاع في خصوص الدلالة اللفظية الالتزامية للأمر بشيء على وجوب مقدمته، والتي هي أخص من مطلق الملازمة العقلية، لأن الملازمة العقلية قد تكون بقوالب لفظية وقد لا تكون بقوالب لفظية، لأن الدلالة اللفظية الالتزامية إنما تكون في خصوص اللازم البين حسب مصطلح علم المنطق، لا في مطلق اللازم، ولو كان اللازم خفيًا، لأن اللازم إما بين أو غير بين، والملازمة تكون في خصوص اللازم البين، إذ لا مبرر لقصر النزاع على خصوص الدلالة اللفظية في اللازم البين بالخصوص، بعد أن كانت النتائج والآثار المطلوبة من إثبات الوجوب الغيري مترتبة على هذه الدلالة اللفظية الالتزامية، إن ثبت الوجوب الغيري بالملازمة العقلية. فالمدار على الملازمة العقلية سواء كانت هذه الملازمة العقلية تستتبع دلالة لفظية أو لا تستتبع دلالة لفظية، فخصوصية كون الملازمة بدرجة تستتبع الدلالة اللفظية ليس لها دخل في الغرض المقصود كي يكون النزاع مقصورًا عليها.

الخلاصة: المراد ماذا؟ المراد المقدمية العقلية، إذن الزبد والخلاصة أن البحث ليس عن خصوص الدلالة اللفظية الالتزامية للأمر بشيء على وجوب مقدماته، وإنما البحث في مطلق الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته بحسب حكم العقل، سواء كانت هذه الملازمة بينهما بحيث تشكل دلالة لفظية التزامية، أو لم تكن هذه الملازمة بينهما ولا تشكل دلالة لفظية، إذ لا مبرر لقصر البحث على خصوص الملازمة البينة، نظرًا لأن النتائج والآثار المترتبة على هذا البحث لا تقتصر على خصوص الملازمة البينة في القضايا اللفظية.

]خلاصة البحث[

خلاصة بحث اليوم وخلاصة تحقيق عنوان المسألة: مقدمة الواجب واجبة.

أولًا: المراد بالمقدمة مقدمة الوجود للمقدمة الوجوبية.

ثانيًا: المراد بالواجب الواجب الفعلي الارتكازي الشأني، وليس المراد به اللابدية التكوينية أو العقلية أو الوجوب الفعلي التنجيزي.

وثالثًا: المراد من النسبة بين المحمول والموضوع هو ماذا؟ الملازمة العقلية للملازمة اللفظية.

هذا تمام الكلام في تحقيق عنوان الموضوع، يبقى الكلام في تقسيمات المقدمة، يأتي عليها الكلام.

logo