46/08/02
الدرس (مائتان وتسعة عشر): إذا انهدمت الأمارة بعد خروج الوقت
الموضوع: الدرس (مائتان وتسعة عشر): إذا انهدمت الأمارة بعد خروج الوقت
الفرض الثاني: إذا انهدمت الأمارات بعد خروج الوقت.
كان الكلام في الصورة الثالثة من صور جريان الأصل العملي وهي أن يكون انكشاف خلاف الواقع بأصل عملي جارٍ في حقه كأصالة الاشتغال بملاك منجزية العلم الإجمالي، هذا العلم الإجمالي الذي قد تنجز عليه قد تقوم أمارة توجب انحلاله.
هذه الأمارة التي توجب انحلال العلم الإجمالي يوجد لها فرضان:
الفرض الأول أن تقوم في أثناء الوقت، وقد ذكرنا وجوهًا خمسة لوجوب القضاء.
الفرض الثاني أن يتضح فساد الأمارة بعد خروج الوقت.
فيكون الفرض الثاني مفاده هكذا: قيام العلم الإجمالي وحصوله لدى المكلف بعد أن أتى بأحد طرفي العلم الإجمالي على طبق الأمارة، كما لو صلى صلاة الجمعة على طبق الأمارة ثم انهدمت هذه الأمارة بعد خروج الوقت، فبقي هو والعلم الإجمالي كما كان العلم الإجمالي في أول أمره. فهل يجب عليه قضاء صلاة الظهر خارج الوقت أو لا؟ لأنه يعلم إجمالًا إما بوجوب صلاة الجمعة وإما بوجوب صلاة الظهر، لكنه اقتصر على الإتيان بخصوص صلاة الجمعة لأنه توهّم قيام الأمارة على وجوب خصوص صلاة الجمعة، كما لو أعتقد أن المخبر ثقة، ثم بعد انتهاء وقت صلاة الظهرين وحلول الغروب، اتضح له أن المخبر فاسق وليس بعادل، فاتضح أنه دحض هذه الأمارة. وبالتالي، كان العلم الإجمالي بين وجوب الجمعة والظهر منجزًا عليه.
[تحقيق وجوب القضاء في الفرض الثاني]
سؤال: فهل يوجب هذا العلم الإجمالي قضاء صلاة الظهر بعد خروج الوقت أو لا؟
وقد ذكرنا في الفرض الأول وهو انهدام الأمارة في أثناء الوقت وجوهًا خمسة، فهل هذه الوجوه الخمسة تجري أيضًا في الفرض الثاني أو لا؟
الجواب: لا يجري الوجه الأول والثالث والرابع في الفرض الثاني حتى لو قلنا بجريان هذه الوجوه الثلاثة في الفرض الأول.
[وجه عدم جريان بعض الوجوه]
والسر في ذلك: إن العلم الإجمالي بعد أن تشكل صار أحد طرفيه خارجيًا عن محل الابتلاء وهو خصوص صلاة الجمعة في المثال بسبب العمل على طبق الأمارة التي تبين فسادها وعدم حجيتها. وحينئذٍ، لا يكون هذا العلم الإجمالي منجزًا ليجب على المكلف طرفه الآخر وهو صلاة الظهر، فلا يجب عليه إعادة صلاة الظهر داخل الوقت أو قضاءها خارج الوقت.
[جريان الوجهين الثاني والخامس]
يبقى الكلام بالنسبة إلى الوجه الثاني والوجه الخامس، فلو قلنا بجريانهما في الفرض الأول، فإنهما يجريان أيضًا في الفرض الثاني.
والصحيح عدم جريان الوجه الثاني في الفرض الأول والفرض الثاني معًا، إذ أن الوجه الثاني هو استصحاب عدم الإتيان بالواجب الواقعي، وهنا من الواضح أنه يستصحب عدم الإتيان بصلاة الظهر أو عدم الإتيان بصلاة الجمعة، فالمستصحب واضح لكن المجهول أنه هل الظهر أو الجمعة هي الواجب الواقعي أم لا؟ وهذا مضى الحديث فيه عندما ناقشنا الوجه الثاني.
فالمستصحب وهو عدم الصلاة يومًا أو عدم صلاة الجمعة واضح ومعلوم، لكن الذي لم يؤتَ به هل هو الواجب الواقعي أم لا، هذا غير معلوم. كما أن الوجه الخامس إنما يجري في خصوص العبادات المتكررة كالصلوات اليومية، ولا يجري في الواجبات غير معلوم تكرارها كالصلاة القصر والتمام.
[تتمة الكلام في الصورة الثالثة]
هذا تمام الكلام في الصورة الثالثة بكلا فرضيها، إن يتضح انهدام الأمارة في أثناء الواقع كما في الفرض الأول أو خارج الواقع كما في الفرض الثاني. واتضح وجود وجوه خمسة لوجوب القضاء، وأن الوجوه الأربع الأولى لا تدل على وجوب القضاء، والوجه الخامس بالخصوص لو قلنا به وسلم عن الإشكال فهو إنما يتم في خصوص الواجبات المتكررة.
[الصورة الرابعة: جريان الأصل العملي في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر]
الصورة الرابعة والأخيرة من صور جريان الأصل العملي، وإنما أفردناها كصورة رابعة وأفردناها عن الصورة الثالثة، لأن الوجوه الأربع الأولى تجري في الصورة الرابعة، لكن الوجه الخامس لا يجري، لذلك أفردناها كصورة مستقلة.
[تعريف الصورة الرابعة]
ومفاد الصورة الرابعة: إذا كان الأصل العملي الذي يكشف عن الخلاف هو أصالة الاشتغال العقلية، وكان هذا الأصل جارًا لا بملاك منجزية العلم الإجمالي كما في الصورة الثالثة، بل بملاك دوران الأمر بين الأقل والأكثر، إذا قلنا بجريان أصالة الاشتغال العقلي بين الأقل والأكثر.
[بيان أنواع دوران الأمر بين الأقل والأكثر]
هذا بحث معروف في علم الأصول، دوران الأمر بين الأقل والأكثر، إما أن يكون بين الأقل والأكثر الارتباطيين كالتسبيحة الواحدة أو الثلاث تسبيحات في الصلاة، أو بين الأقل والأكثر غير الارتباطيين كما لو شك في أن الواجب عليه هل هو قضاء سنة أو قضاء سنة ونصف، فهنا لا يوجد ارتباط بين الصلوات المقضية، كل منهما مستقل عن الآخر، بخلاف التسبيحات الثلاث.
[المسلك المشهور في المسألة]
مشهور الأصوليين المعاصرين القول بجريان البراءة الشرعية بين الأقل والأكثر سواء كانا ارتباطيين أو غير ارتباطيين، ولكن كان في السابق يُفرق بين الارتباطيين فيقال بجريان أصالة الاشتغال، وبين غير الارتباطيين فيقال بجريان أصالة البراءة.
[تطبيق قاعدة الاشتغال في المقام]
فلو جعلنا أصلاً موضوعياً وهو أنه عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر يجب الأكثر، فإن أصالة الاشتغال العقلي محكمة في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر.
[أمثلة تطبيقية]
ولنضرب مثلاً: هذا المكلف يشك في أنه يجب عليه قضاء صلاة الظهر فقط أو صلاة الظهر والعصر معًا؟ فهنا شك بين الأقل والأكثر. علم أنه يجب عليه قضاء، لكن قضاء يوم واحد فقط أو يومين، شهر أو شهرين.
هنا قاعدة الاشتغال اليقيني تستدعي الفراغ اليقيني، علم أن ذمته مشتغلة بقضاء صلوات فهنا يوجد اشتغال يقيني، وهذا يستدعي الفراغ اليقيني، وذمته لا تفرغ بقضاء صلوات شهر واحد، بل لا تفرغ إلا بالاتيان بالأكثر، وهي قضاء صلوات شهرين.
فلو قلنا إنه في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر، الحكم هو الاشتغال وليس البراءة، فبناءً على هذا المبنى والمسلك، إذا فرضنا أن المكلف اقتصر على الأقل، وصلى وقضى صلوات شهر واحد فقط، ولم يأتِ بالأكثر ولم يقضِ صلوات الشهر الثاني، في هذه الحالة،..
أو مثلًا في نفس الوقت، الآن وقت الظهرين، يشك في أنه يجب على صلاة الظهر فقط أو صلاة الظهر والعصر، واقتصر على الأقل وصلى صلاة الظهر ولم يصل صلاة العصر، وخرج الوقت، فهل يجب عليه الإتيان بالأكثر أي قضاء صلاة العصر أم لا يجب عليه ويكتفي بالأقل الذي جاء به وهو خصوص صلاة الظهر؟
[المبنيان في القول بالاشتغال]
هنا مبنيان ومسلكان للقول بالاشتغال في دوران الأمر بين الأقل والأكثر:
المبنى الأول: منجزية العلم الإجمالي.
المبنى الثاني: الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.
[لمبنى الأول: منجزية العلم الإجمالي]
ولنشرع في بيان المبنى الأول، فإذا قيل إن مفترض أصالة الاشتغال في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر هو العلم الإجمالي، حيث إنه يعلم إجمالاً بوجوب الأقل لا بشرط، أي وجوب الظهر لا بشرط العصر، أو الأقل بشرط الزيادة، يعني الظهر بشرط زيادة العصر، فهذا العلم الإجمالي منجز؛ هو يعلم إما تجب عليه صلاة الظهر فقط، أو صلاة الظهر والعصر معًا بالتحليل العقلي، إما تجب عليه صلاة الظهر لا بشرط صلاة العصر أو تجب عليه صلاة الظهر بشرط زيادة صلاة العصر.
بناءً على هذا التصوير، أن أصالة الاشتغال في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر ترجع إلى أصالة الاشتغال بملاك منجزية العلم الإجمالي هنا تعود الصورة الرابعة إلى الصورة الثالثة التي انتهينا منها. إذاً، الصورة الثالثة مفادها جريان أصالة الاشتغال بملاك منجزية العلم الإجمالي، وذكرنا وجوهًا خمسة لوجوب القضاء وناقشناها.
فبناءً على الملاك الأول تكون الصورة الرابعة كالصورة الثالثة، ولا داعي لتكرارها، فنقول في الصورة الثالثة: انكشاف خلاف الواقع بأصالة الاشتغال بملاك منجزية العلم الإجمالي أو عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر، إذا رجعت أصالة الاشتغال فيه إلى ملاك منجزية العلم الإجمالي، وتجري الوجوه الخمسة.
[المبنى الثاني: الاشتغال بملاك الشك في تحقق الغرض]
المبنى الثاني: إذا كان المنجز لأصالة الاشتغال هو مسألة الشك في حصول الغرض، وسقوط الوجوب باعتبار أن الغرض معلوم، ويشك في حصوله بالأقل، فيكون بابه حينئذٍ باب الشك في تحقيق الغرض، فتجري أصالة الاشتغال في المقام من هذه الناحية، أي قاعدة الاشتغال: يقين يستدعي الفراغ اليقيني، يعني الشك في محصل الغرض، أنت على يقين من لزوم هذا الغرض، وتشك في المحصل أو المسقط لهذا الغرض.
[نتيجة الصورة الرابعة]
وبناءً على هذا يشكل وجوب القضاء، حيث إن الأداء غير واجب شرعًا، وإنما هو واجب عقلًا ببركة أصالة الاشتغال العقلي، ووجوب القضاء فرع وجود أمر شرعي، إلا أن نوسع ونقول إن القضاء فرع وجود أمر أعم من كونه شرعيًا أو عقليًا، وهذه العناية لا دليل ولا قرينة عليها.
وهنا تأتي الوجوه الأربعة لتقريب وجوب القضاء التي ذكرناها في الصورة الثالثة، أيضًا تأتي وتجري في الصورة الرابعة، واتضح في الصورة الثالثة أن الوجوه الأربعة الأولى غير تامة، فهي أيضًا غير تامة في الصورة الرابعة، لكن لا يجري الوجه الخامس.
[وجه عدم جريان الوجه الخامس في الصورة الرابعة]
فالوجه الخامس يجري في الواجبات المتكررة بالنسبة إلى الصورة الثالثة، لكن الوجه الخامس لا يجري بالنسبة إلى الصورة الرابعة.
والسر في ذلك: إنه لا يمكن في المقام تشكيل علم إجمالي بعد فوات الوقت لو اقتصر المكلف على الإتيان بالأقل وترك الأكثر، حيث لا يمكن أن يقال بأنه يعلم إجمالاً: إما بوجوب الأكثر عليه من هذا اليوم، يعني يجب عليه أن يأتي بصلاة العصر من هذا اليوم، أو بوجوب الأقل عليه من اليوم الآتي.
والسر في ذلك: أن العلم الثاني، وجوب الأقل في اليوم التالي معلوم على كل تقدير، يجب عليه أن يصلي الظهر، سواء وجب عليه الأقل فقط أو وجب عليه الأكثر (الظهر مع العصر)، فوجوب الأقل في اليوم الآتي معلوم على كل تقدير، بخلاف الفرض السابق، يجب عليه إما أن يقضي الظهر اليوم هذه الجمعة بعد أن صلى الجمعة أو يجب عليه صلاة الجمعة القادمة، وجوب صلاة الجمعة القادمة ليست معلومة على كل تقدير، فالجُمعة القادمة قد يجب عليه صلاة الجمعة، أو قد يجب عليه صلاة الظهر، فهذا الوجه الخامس يجري في الصورة الثالثة، لكنه لا يجري في الصورة الرابعة.
والسر في ذلك: أن الأقل في اليوم التالي واجب على كل تقدير.
لذلك نقول: لو اقتصر المكلف، طبعًا أنا قلت الأكثر والمراد الأقل، سبق لفظي، يشوش الذهن.
لو اقتصر المكلف على الإتيان بالأقل وترك الأكثر، حينئذٍ لا يمكن أن يقال بأنه يعلم إجمالًا إما بوجوب الأكثر عليه من هذا اليوم أو الأقل من اليوم التالي، لأن وجوب الأقل في اليوم التالي معلوم الوجوب على كل حال، إذن فلا يمكن تشكيل مثل هذا العلم الإجمالي.
وبالتالي الوجه الخامس لا يتم في الصورة الرابعة، لذلك جعلناها صورة رابعة ولم ندرجها ضمن الصورة الثالثة، لأن الصورة الثالثة فيها خمسة وجوب، والصورة الرابعة فيها أربعة وجوب.
[خاتمة البحث في الإجزاء]
هذا تمام الكلام في الصورة الرابعة، وبذلك ننهي بحث إجزاء الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي.
واتضح أن الصحيح هو عدم الإجزاء إلا إذا كان يوجد إطلاق، فإذا وجد إطلاق، فالحكم هو الإجزاء، أو دلَّ دليل خاص على الإجزاء.
[الأمثلة على موارد الإجزاء]
مثال ذلك: موارد إجزاء عمل المقلد عندما يرجع إلى مقلد آخر، والآن قلة المجتهد، هذا المجتهد كان يرى إجزاء صلاة الجمعة، وكان قد صلى صلاة الجمعة، توفي ورجع إلى الأعلم من بعده، الثاني من بعده يرى عدم مشروعية صلاة الجمعة في عصر الغيبة، يجب عليه أن يصلي الظهر. هنا هل يجب عليه أن يقضي صلوات الجمعة الماضية، يقضيها ظهرًا؟ الجواب: لا يجب لدليل خاص يدل على الإجزاء.
مثال آخر: الإخلال في الصلاة في موارد الإخلال غير الركني، فلو صلى ولم يخل بالركن أحيانًا يخل بالركن كالركوع والسجدتين أو القيام، وأحيانًا لا يخل بهذا الركن، فهذه الموارد خرجت عن القاعدة وهي عدم الإجزاء. إما لعدم إطلاق في دليل الحكم كما في الأدلة اللبية على بعض الإجزاء والشرائط التي قد لا تشمل حال التبدل: الوظيفة اجتهادًا أو تقليدًا، وإما لوجود مقيد لإطلاق دليل الحكم الواقعي مثل قاعدة لا تعاد الصلاة إلا من خمس.
فعدم الإتيان بالدليل الواقعي أو عدم الإتيان بهذا، يعني هذا يوجب الأصل هنا، يصير ماذا؟ هنا الحكم الظاهري لا يجزئ عن الواقعي، لكن إذا جاءنا هذا المقيد (لا تعاد الصلاة إلا من خمس)، فلو كان هذا الذي لم يُأتي به أو أخلَّ به ليس أحد الخمسة، هنا ببركة هذا المقيد نلتزم بماذا؟ بعدم القضاء.
[القاعدة العامة في الإجزاء]
إذًا القاعدة العامة هي عدم إجزاء الحكم الظاهري عن الواقعي إلا أن يقوم دليل خاص على إثبات الإجزاء.
[خاتمة الخاتمة]
ومنه يتضح ما تطرق له الآخوند الخراساني في آخر بحث الإجزاء من الكفاية حينما تطرق إلى عدم إجزاء الأوامر الخيالية، فنحن كلامنا في أمر ظاهري ثابت، هذا لا يجزي عن الواقع، فكيف بأمر خيالي قد تخيله المكلف ولم يثبت؟ فمن الواضح عدم إجزاء الأوامر الخيالية وكون الإجزاء ملازمًا للتصويب، أو ليس بملازم له.
عمومًا، اتضح أنه الحكم الظاهري لا يجزي عن الواقع، وكذلك الأوامر الخيالية لا تجزي عن الواقع.
هذا تمام الكلام في بحث الإجزاء، وبه مسك الختام في بحث الإجزاء، البحث القادم، بحث جديد: مقدمة الواجب، هل هي واجبة بالوجوب الشرعي أو واجبة بالوجوب العقلي؟ يأتي عليها الكلام.