46/07/25
الدرس (مائتان وثمانية عشر): الوجه الرابع لإثبات وجوب القضاء على المكلف
الموضوع: الدرس (مائتان وثمانية عشر): الوجه الرابع لإثبات وجوب القضاء على المكلف
[التمهيد في الفرض الأول]
كان الكلام في الفرض الأول، وهو فيما إذا انكشف الخلاف في أثناء الوقت، وأمكن التمسك بأصل عملي لإثبات وجوب القضاء. وصلنا إلى الصورة الثالثة، وهي التمسك بأصالة الاشتغال العقلي الناشئ من منجزية العلم الإجمالي.
[مقدمة في وجوه إثبات وجوب القضاء]
قلنا توجد خمسة وجوه يمكن أن تقام على وجوب القضاء للصلاة. وصلنا إلى الوجه الرابع لإثبات وجوب القضاء على المكلف، مثال ذلك: إذا ثبت وجوب إحدى الصلاتين، إما الجمعة وإما الظهر، أو إما القصر وإما التمام، وقد اقتصر المكلف على الإتيان بإحدى الفريضتين أداءً دون الأخرى؛ كما لو صلى الجمعة ولم يصل الظهر، أو صلى القصر ولم يصل التمام. فهل يجب عليه القضاء أم لا؟
[الوجه الرابع في وجوب القضاء]
الوجه الرابع يرى وجوب القضاء، وهو مبني على أن الأمر بالقضاء إنما هو بنفس الأمر بالأداء لا بأمر جديد، وقد تنجز على المكلف التكليف بالعلم الإجمالي، ويجب عليه أن يفرغ ذمته من عهدة منجزية العلم الإجمالي، من غير فرق بين داخل الوقت وخارج الوقت.
تفصيل بيان الوجه الرابع أن يقال: إن القضاء إنما يثبت بنفس الأمر الأول، لا بأمر جديد، بمعنى أنه حين دخل عليه الوقت، قد توجه إلى هذا المكلف أمران:
الأمر الأول: "صلِّ بلا قيد الوقت".
الأمر الثاني: "أمر بإيقاع الصلاة في الوقت".
وبعد فوات الوقت، يسقط الأمر الثاني المقيد بالوقت، ويبقى الأمر الأول "صلِّ" على إطلاقه.
وحينئذ، بناءً على هذا المبنى من أن الأمر بالقضاء هو بنفس الأمر بالأداء، وهذا الأمر "صلِّ" مطلق، فإنه يشمل داخل الوقت وخارج الوقت، فيكون الأمر بجامع الصلاة بين الجمعة والظهر، أو بين القصر والتمام فعليًا في حقه، وقد توجه الأمر بالجامع إلى المكلف من حين دخول الوقت.
[تشكل العلمين الإجماليين]
فإذا تشكل لديه علم إجمالي وترددت الفرض بين الجمعة والظهر، أو بين القصر والتمام، فحينئذ يتشكل عنده علم إجمالي بالتكليفين من أول الوقت، أي أنه يوجد علمان إجماليان:
العلم الإجمالي الأول علم إجمالي بلحاظ الأمر الأول "صلِّ"، وهذا علم إجمالي بوجوب إيقاع صلاة قصراً أو تماماً من دون تقييد بالوقت.
العلم الإجمالي الثاني بلحاظ الأمر الثاني بلزوم إيقاع هذه الصلاة، التي هي إما قصر وإما تمام، في الوقت.
وكلا هذين العلمين الإجماليين منجزٌ، ويدخل التكليف في الذمة والعهد.
[تحقيق الموافقة القطعية]
فلو أتى المكلف بأحد الطرفين فقط، كما لو صلى الجمعة فقط من دون الظهر، أو صلى قصراً فقط من دون إتيان بالصلاة تماماً، فهذا معنى أنه قد امتثل أحد طرفي العلم الإجمالي، وأما الطرف الآخر للعلم الإجمالي، وهو صلاة الظهر أو صلاة التمام، فيبقى على حاله منجزاً بالعلم الإجمالي، ويجب على المكلف امتثاله.
فلو أن هذا المكلف جاء بالطرف الآخر وصلى تماماً وصلى ظهراً، فإنه يكون قد حقق الموافقة القاطعية لكلا العلمين إذ جاء بالظهر والجمعة معاً، أو بالقصر والتمام معاً، فتتحقق الموافقة القاطعية.
[تحليل الفرق بين الوجهين الثالث والرابع]
لكن لو لم يوقع الظهر في الوقت، أو لم يوقع التمام في الوقت، واقتصر على قصور الجمعة أو قصور صلاة القاصر، فهنا توجد موافقة احتمالية ومخالفة احتمالية للعلم الإجمالي، ويجب عليه إيقاع الصلاة قضاءً بعد الوقت لتحصيل الموافقة القاطعية، إذ إن الأمر الأول وهو "صلِّ" مطلق وغير مقيد بالوقت، والمقيد بالوقت هو خصوص الأمر الثاني. فنتمسك بإطلاق الأمر الأول "صلِّ"، فيجب امتثال الصلاة داخل الوقت أدائاً وخارج الوقت قضاءً.
وهذا العلم الإجمالي في الوجه الرابع لا يشبه العلم الإجمالي المتقدم في الوجه الثالث، لأن العلم الإجمالي في الوجه الرابع، بناءً على أن الأمر بالقضاء هو بنفس الأمر بالأداء، فهو أمر فعلي، وهذا علم إجمالي بالخطاب الفعلي على كل تقدير، لأن المفروض في الوجه الرابع أن الخطاب قد توجه فعلاً من أول الوقت بعنوان: "أتِني بالجامع"؛ "أتِني بالجامع بين الجمعة والظهر"؛ "أتِني بالجامع بين القصر والتمام".
إذًا، الأمر بالجامع مردد بين الجمعة والظهر، ومردد بين القصر والتمام، فبناءً على هذا العلم الإجمالي، يتنجز العلم الإجمالي من أول، ويكون علم إجمالي بالتكليف على كل تقدير، لا على بعض التقادير دون التقادير الأخرى، يعني الحكم فعلي على كل تقدير، على فرض الجمعة أو الظهر، هذا العلم الإجمالي الفعلي.
هذا تمام الكلام في بيان الوجه الرابع.
[المناقشة الأولى على الوجه الرابع]
ولكن يمكن أن يناقش بمناقشتين:
المناقشة الأولى: هذا الوجه مبني على أن القضاء بالأمر الأول لا بأمر جديد، فيكون العلم الإجمالي علمًا بالتكليف الفعلي على كل تقدير، بناءً على أن الأمر بالقضاء هو بنفس الأمر بالأداء الذي هو فعلي، لكنه غير مقبول، بناءً على أن الأمر بالقضاء إنما هو بأمر جديد ينشأ إذا خرج الوقت.
والشهيد الصدر رضوان الله عليه يرى أن الأمر بالقضاء إنما هو بأمر جديد، وليس بنفس الأمر الأول. [1]
وتفصيل ذلك في الفقه، والأصل عدم القضاء، وإثبات القضاء يحتاج إلى دليل.
إذن المناقشة الأولى مناقشة مبنائية، إذ إن التقريب والوجه الرابع مبني على أن القضاء بنفس الأمر الأول، ونحن لا نسلم ذلك، وهذا الوجه لا يتم بناءً على أن الأمر بالقضاء إنما هو بأمر جديد مستأنف.
[المناقشة الثانية على الوجه الرابع]
المناقشة الثانية بنائية، فلو تنزلنا وسلمنا جدلاً وقلنا إن الأمر بالقضاء إنما هو بنفس الأمر الأول، فهذا إنما يفيد في تنجيز وجوب العلم الإجمالي الثاني فيما لو تشكل العلم الإجمالي قبل الإتيان بالفعل الأول، وأما لو أتى بالفعل الأول، فهذا العلم الإجمالي لا يفيد.
إذاً، عندنا فرضان:
الفرض الأول هو تشكل العلم الإجمالي قبل الإتيان بالعمل، أي قبل أن يصل الجمعة أو القصر، تشكل عنده العلم الإجمالي من أول، كما لو فرض أن المكلف قبل أن يأتي بالجمعة أو بالقصر تشكل عنده علم إجمالي بوجوب الجمعة والظهر، أو وجوب القصر أو التمام.
ففي هذه الحالة، يتشكل العلم الإجمالي قبل أن يأتي بالصلاة، ويكون هذا التكليف فعليًا، ويكون التكليف بالعدلَيْن: الجمعة والظهر، أو القصر أو التمام، فعليًا في حقه، فهنا تجيب الموافقة القطعية، ويتشكل العلم الإجمالي المنجز.
فهذا التقريب الرابع يتم إذا كان العلم الإجمالي قد تشكل قبل الإتيان بأحد العدلين. الفرض الثاني، لو تشكل العلم الإجمالي بعد الإتيان بأحد العدلين، أو تشكل العلم الإجمالي وانحل، وأتى المكلف بأحد العدلين.
فإذن الفرض الثاني هو هذه الصورة، إذا فرغنا بأن العلم الإجمالي بوجوب الجمعة والظهر أو القصر أو التمام لم يتشكل إلا بعد الإتيان بالجمعة أو بالقصر، فحينها هذه الصورة هي الصورة الأولى.
الصورة الثانية: كان العلم الإجمالي حادثًا قبل الإتيان بالظهر أو الجمعة، لكنه قد انحل بقيام بينتين وحجتين على وجوب الجمعة تعيينًا أو وجوب القصر تعيينًا.
وإنما صار العلم الإجمالي غير منحط بعد الفراغ من القصر والإتيان به، فمثل هذا العلم الإجمالي الذي يفرض حدوثه بعد الإتيان بالقصر وانحلاله، هذا ليس منجزًا للإعادة فضلاً عن القضاء.
والسر في ذلك: أنه قد خرج أحد طرفي عن محل الابتلاء قبل أن يتشكل هذا العلم، لأنه أحد الطرفين صلاة الجمعة والقصر، ثم تشكل العلم الإجمالي فخرج أحد الطرفين عن محل الابتلاء، فهو إما علم إجمالي بوجوب القاصر، وهذا لا أثر له، أو علم إجمالي بوجوب الجمعة، وهذا لا أثر له، وعلم إجمالي بوجوب التمام أو وجوب الظهر، وهذا له أثر.
إذن، أحد العدلين خرج عن محل الابتلاء، وهو العدل الذي قد جاء به قبل تشكل العلم الإجمالي، كصلاة الجمعة أو صلاة القاصر.
[نتيجة الوجه الرابع]
النتيجة النهائية: الوجه الرابع لا يدل على وجوب القضاء، إلى هنا ذكرنا أربعة وجوه في الصورة الثالثة، يعني إذا تمسكنا بأصالة الاشتغال بملاك منجزية العلم الإجمالي، هذه الوجوه الأربعة التي أقيمت على وجوب القضاء لا تدل على وجوب القضاء.
[الوجه الخامس في وجوب القضاء]
الوجه الخامس والأخير لإثبات وجوب القضاء على من تنجز عليه فائت بالعلم الإجمالي.
تقريب ذلك:
أن نفرض أن المكلف يوم الجمعة قد اقتصر على الإتيان بالجمعة ولم يأتي بالظهر، ونريد أن ننجز عليه وجوب قضاء الظهر من يوم الجمعة.
[تفصيل بيان الوجه الخامس]
وحينئذ نقول: إن وجوب قضاء صلاة الظهر الذي فاتته في يوم الجمعة منجز عليه بالعلم الإجمالي، لكن لا بالعلم الإجمالي المتقدم في الوجه الثالث، وهو العلم الإجمالي إما بوجوب الجمعة الآن أو بوجوب قضاء الظهر هذا اليوم لو لم يأتي بالظهر لأن هذا العلم الإجمالي مردد بين المعلق وغير المعلق، مردد بين المنجز وهو الجمعة، وبين المعلق أنه صلاة الظهر إذا لم تجب الجمعة، فأحد الأطراف غير فعلي على كل تقدير، وهذا أشكلنا به على الوجه الثالث.
لكن العلم الإجمالي في الوجه الخامس فعلي على كل تقدير.
وأن نقول هكذا: يجب عليه إما أن يأتي بصلاة الظهر الآن يقضيها، أو يصلي الجمعة القادمة صلاة الجمعة، لأنه لاحظ فرض المسألة هذا المكلف صلى صلاة الجمعة، ثم شك: هل يجب عليه صلاة الجمعة أو صلاة الظهر؟
الآن حكمه الفعلي إذا فعلاً صلاة الجمعة واجب عليه، ارتفع عنه التكليف، إذاً صلاة الظهر هي الواجب عليه، يجب عليه الآن فعلاً أن يقضي صلاة الظهر لأن الجمعة لا تجزئ. واضح أم لا؟ فيتشكل هذا العلم الإجمالي الفعلي، وهو علم إجمالي إما بوجوب قضاء الظهر فعلاً بعد أن فرضنا فوتها واقتصار المكلف على الجمعة فقط إلى أن فات الواقع أو بوجوب صلاة الجمعة في الأسبوع الآتي، فذلك لأن الواجب في الشريعة الإسلامية في يوم الجمعة إن كان هو الظهر، إذن يجب عليه قضاء الظهر التي فاتته في يوم الجمعة حينما صلى الجمعة. وإن كان الواجب عليه هو الجمعة، واجب عليه أن يصلي صلاة الجمعة في الجمعة القادمة، ولا يجب عليه قضاء صلاة الظهر.
[تحليل العلم الإجمالي الفعلي]
وهذا خطابان فعليان، كل في ظرفه، يعني في ظرف اليوم يجب عليه أن يصلي الظهر، وفي ظرف الجمعة القادمة يجب عليه أن يصلي صلاة الجمعة.
وإذا أردنا أن نحلل الموضوع بشكل أدق، يكون وجوب صلاة الجمعة في يوم الجمعة القادمة طرفاً لعلمين إجماليين، إذ يمكن أن نقول بأنه إما أنه يجب على المكلف صلاة الجمعة في يوم الجمعة القادمة، وإما يجب عليه أمران أحدهما قضاء ظهر هذه الجمعة التي فاتته، والآخر أداء الظهر في يوم الجمعة القادمة.
وهذا علم إجمالي يتشكل بعد فوات يوم الجمعة، يعني هو الآن صلى الجمعة، بعد صلاة الجمعة يجب عليه إما أن يعود بالظهر لهذه الجمعة، أو الجمعة القادمة، يصل لجمعة أو ظهر، فهذا يتشكل بعد الإتيان بصلاة الجمعة للأسبوع الأول.
وهذا علم إجمالي يتشكل بعد فوات يوم الجمعة السابق، فيكون علماً بالتكليف الفعلي على كل حال، وهذا العلم يمكن تشكيله في أثناء نهار الجمعة السابق، فيما لو حصل العلم الإجمالي بوجوب الجمعة أو الظهر بعد الإتيان بالجمعة.
إذن حينئذ نصبح بحاجة إلى تنجيز الظهر، ويكون منجز صلاة الظهر هو هذا العلم الإجمالي وهو العلم بأنه إما يجب الظهر الآن أو صلاة الجمعة في الجمعة القادمة، إذن دائماً حينما نريد أن ننجز وجوب صلاة الظهر القضائية أو الأدائية، لو لم يكن العلم الإجمالي حاصلاً في أول الواقع، فإننا ننجزه بهذه الصيغة للعلم الإجمالي، يعني تشكيل العلم الإجمالي بعد الإتيان بصلاة الظهر.
وهذا العلم الإجمالي يمتاز عن العلم الإجمالي السابق، بأنه علم فعلي بالتكليف على كل تقدير، فيكون منجزاً لا محالة.
[خاتمة البحث في الوجه الخامس]
لكن هذا التوجيه قابل للمناقشة، فلو سلمنا به، فهو إنما يتم في الواجبات المتكررة كصلاة الظهر والجمعة، ويكون نافعاً في تنجيز وجوب القضاء فيها، لكنه لا يتم في مثل القصر والتمام والواجبات التي لا يعلم فيها بأن الحالة سوف تتكرر على كل حال.
[النتيجة الختامية]
فلو سلمنا بهذا الوجه الخامس لوجوب القضاء، فهو إنما يتم في موارد خاصة، أو مورد خاص، وهي خصوص الواجبات المتكررة على أنه هذا خروج عن محل بحثنا، نحن محل بحثنا إجزاء الحكم الظاهري عن الواقع وهذا خارج.
هذا تمام الكلام بالنسبة إلى وجوب القضاء بناءً على الفرض الأول.
يبقى الكلام في الفرض الثاني، أنه إذا حصل بعد خروج الوقت، يأتي تطبيق هذه الوجوه الخمسة في الفرض الثاني، وفي الصورة الرابعة يأتي عليه الكلام إن شاء الله.