« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

46/07/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائتان وسبعة عشر): انكشاف خلاف الواقع بملاك منجزية العلم الإجمالي

الموضوع: الدرس (مائتان وسبعة عشر): انكشاف خلاف الواقع بملاك منجزية العلم الإجمالي

 

[الصورة الثالثة: انكشاف الخلاف بملاك منجزيّة العلم الإجمالي]

الصورة الثالثة انكشف خلاف الواقع بملاك منجزية العلم الإجمالي، فلو انكشف خلاف الواقع بأصل عملي جارٍ في حقه كأصالة الاشتغال بملاك منجزية العلم الإجمالي، مثال ذلك: من علم إجمالاً بوجود صلاة الجمعة أو الظهر عليه ظهر يوم الجمعة، ولكنه كان يتخيل انحلال هذا العلم الإجمالي بقيام أمارة عنده على وجوب الجمعة، فترك صلاة الظهر وصلى الجمعة، وترك البناء على منجزية العلم الإجمالي نظراً لتوهمه أنه قد انحل بإخبار الثقة بوجوب صلاة الجمعة، ثم تبين له أن الأمارة التي قامت عنده ليست حجة كما لو انكشف له أن المخبر لم يكن ثقة، وبهذا سقطت الأمارة عن الحجية.

[إعادة منجزيّة العلم الإجمالي بعد سقوط الأمارة]

وبالتالي أعاد العلم الإجمالي إلى حاله من المنجزية، ولكنه كان قد صلى صلاة الجمعة، وبعد أن عاد العلم الإجمالي إلى منجزيته صارت وظيفته أن يصلي الظهر أيضاً.

[تصوير الفروض الثلاثة في المسألة]

وحينئذ، لو فرض أنه لم يُصَلِّ الظهر في الوقت، فهل يجب عليه قضاء صلاة الظهر خارج الوقت أم لا؟ وهنا توجد فروض ثلاثة:

الفرض الأول: أن يفرض أن هذه الأمارة قد انهدمت حجيتها قبل أن يأتي المكلف في داخل الوقت بصلاة الجمعة كما لو علم أن المخبر فاسق قبل أن يصلي صلاة الجمعة.

الفرض الثاني: أن يفرض انهدام الأمارة بعد أن أتى بصلاة الجمعة وقبل خروج وقت صلاة الظهر.

الفرض الثالث: أن يفرض انهدام الأمارة بعد خروج الوقت.

 

[الفرض الأول: انهدام الأمارة قبل صلاة الجمعة]

أما الفرض الأول، وهو انهدام الأمارة قبل أن يأتي بصلاة الجمعة، فهنا قد قام عنده علم إجمالي ثم انهدم بالأمارة، ثم تبين عدم حجية الأمارة وهو بعد لم يأتي بصلاة الجمعة، فحينئذ حال هذا المكلف حال ما لو فرض قيام العلم الإجمالي عنده من أول الأمر وتنجز عليه من دون أن يحصل معارض، أي من دون أن تقوم عنده أي أمارة تحل العلم الإجمالي، فهذا العلم الإجمالي منجز عليه، وفي مثل هذه الحالة تجب الموافقة القطعية بذلك بالإتيان بصلاة الجمعة والظهر معاً.

فهذا الفرض الأول خارج أصلاً عن محل بحثنا لأنه لا معارض للعلم الإجمالي، فيقع الكلام في الحالة الثانية والثالثة.

ولنفرضهما يصير الفرض الأول والثاني.

الفرض الأول إذا أتى بصلاة الجمعة ولم يأتي بالظهر تسامحاً حتى خرج الوقت، فهنا يكون قد خالف أصالة الاشتغال العقلي بوجوب الموافقة القطعية بالإتيان بالجمعة والظهر معاً، فحينئذ هل يجب عليه القضاء أم لا؟

[الفرض الثاني: انهدام الأمارة بعد صلاة الجمعة]

الفرض الثاني: أن يكون انهدام الأمارة قد حصل بعد أن صلى الجمعة، فهل يجب عليه الظهر احتياطاً أداءً في داخل الوقت وقضاءً في خارج الوقت أم لا؟

والخلاصة: الفرض الأول الانهدام يتحقق داخل الوقت، والفرض الثاني الانهدام يتحقق خارج الوقت.

[البحث في الفرض الأول]

ولنتكلم أولاً في الفرض الأول، إذا انهدمت الأمارة داخل الوقت، ومن خلالها سيتضح حكم الفرض الثاني، وهو انهدام الأمارة خارج الوقت.

إذن الكلام أولاً في الفرض الأول، وهو ما إذا تنجز العلم الإجمالي بوجوب صلاة الجمعة والظهر، ثم قامت أمارة حاكمة وتوهم انحلال العلم الإجمالي فصلى الجمعة، ثم تبين أن هذه الأمارة قد انهدمت، فلا تحلل العلم الإجمالي، فتنجز عليه العلم الإجمالي في أثناء الوقت، لكنه تساهل ولم يأتي بصلاة الظهر، وخارج الوقت. فهل يجب عليه القضاء أم لا؟

[الوجوه الخمسة في تقريب وجوب القضاء]

يمكن تقريب وجوب القضاء بخمسة وجوه، وسيتضح أن الثلاثة الأولى منها التي سنأخذها اليوم لا تثبت وجوب القضاء.

[الوجه الأول: التمسك بتبعية القضاء للأداء]

الوجه الأول: أن نستند إلى البيان السابق في وجوب القضاء من تبعية أمر القضاء للأداء، فمن تنجز عليه الأداء ولو ظاهراً وتسامح حتى خرج الوقت كما في الصورة الأولى والثانية، ولم يأتي به وجب قضاؤه، كذلك وجوباً ظاهرياً.

والمستند ما ذكرناه هناك من أن دليل وجوب القضاء ينشئ أمراً نوعياً يتدارك به ما فات حسب ما فات، فملاك القضاء هو التدارك، أي تدارك ما فات؛ اقض كما فات، فإن كان ما فات واجباً واقعياً فيجب القضاء وجوباً واقعياً، وإن كان ما فات وجوباً ظاهرياً، فيجب القضاء وجوباً ظاهرياً.

لكن هذا الوجه الأول إن تم هناك فإنه لا يتم هنا في الصورة الثالثة.

والسر في ذلك: أن وجوب أداء الصلاة عليه لم يكن وجوباً شرعياً واقعياً، ولا وجوباً شرعياً ظاهرياً، وإنما وجب عليه بحكم العقل بمقتضى أصالة الاشتغال العقلي ومنجزية العلم الإجمالي، إذ القاعدة تقول: الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، وقد علم أن ذمته مشتغلة بالصلاة، وهذه الصلاة تدور بين الجمعة والظهر، وبمقتضى منجزية العلم الإجمالي قد اشتغلت ذمته بالصلاتين، فوجوب الإتيان بالصلاتين، صلاة الجمعة وصلاة الظهر معًا، لم يجب الوجوب الشرعي الواقعي أو الظاهري، بل وجب بالوجوب العقلي.

وبالتالي، إذا أردنا إثبات وجوب القضاء "اقض ما فات كما فات" لابد من عناية زائدة بحمل قوله "اقض ما فات كما فات" ما فات بالأمر الشرعي أو العقلي، فنضيف هذه العناية الزائدة.

فدليل وجوب القضاء يتوقف على وجود عناية زائدة، وهي أن يكون الأمر النوعي المنشأ بدليل وجوب القضاء له سَعَة وشمول، يشمل حتى موارد الوجوب العقلي كما يشمل موارد الوجوب الشرعي الظاهري أو الواقعي، أي كأنه ينشئ أمراً في كل مورد كان فيه مقتضٍ للأداء، سواء كان مقتضياً للأداء من قبل الشارع أو من قبل العقل، من دون أن ينظر إلى فوت الأحكام الشرعية بالخصوص.

فحينئذ، إذا رؤيت هذه العناية وهذه النكتة، فيجب القضاء، لكن إثبات هذه العناية يحتاج إلى قرينة ويحتاج إلى دليل، ومن هنا يشكل الحكم بوجوب القضاء، فثبت العرش ثم النقش إذ القضاء فرع وجود أمر شرعي، ومن قال إنه فرع وجود حكم عقلي، هذا يحتاج إلى دليل.

إذاً، الوجه الأول لوجوب القضاء قابل للمناقشة، وليس بتام.

[الوجه الثاني: استصحاب عدم الإتيان بالواجب]

الوجه الثاني: إذا أنكرنا العناية الزائدة التي ذكرت في الوجه الأول لكي يشمل دليل القضاء لموارد الوجوب العقلي، وكان قد تنجز عليه في الوقت بسبب العلم الإجمالي إحدى فريضتين، أما الجمعة أو الظهر. وقد جاء بأحداهما كصلاة الجمعة، مع العلم أنه هنا لم يُحرز فوت واجب واقعي ولا واجب ظاهري، كما أنه بناءً على الوجه الثاني لا يفرق بين كون موضوع وجوب القضاء هو أمر عدمي، أي عدم الإتيان بالصلاة، أو أمر وجودي، وهو فوت وخسارة الصلاة.

فهنا لا يمكن إثبات وجوب القضاء على كل حال، وإن كان يتخيل إمكانية التمسك باستصحاب عدم الإتيان بالواجب الواقعي، بناءً على كون موضوع وجوب القضاء هو عدم الإتيان بالواجب.

لكن هذا التوهم غير صحيح، لأننا لا نشك فيما أتيناه وما لم نأتِ به، إذ نعلم يقيناً أننا أتيناه بصلاة الجمعة، وأن الظهر لم نأتي بها.

إذاً، لا يجري الاستصحاب. تستصحب ماذا؟ أنت على يقين من أنك جئت بصلاة الجمعة، ولم تأتِ بصلاة الظهر، إنما الشك في أن هذه الجمعة هي الواجب، أو صلاة الظهر هي الواجب، فإن كان الذي أتيناه هو الواجب، فلا قضاء، وإن كان الذي أتيناه ليس هو الواجب، إذاً يجب القضاء.

فاستصحاب عدم الإتيان لا أثر له، حتى لو قيل بأن موضوع وجوب القضاء هو عدم الإتيان، لا عدم الفوت، فتتبقى مسألة كيفية تخريج وجوب القضاء بلا حل.

إذاً، بناءً على الوجه الأول وبناءً على الوجه الثاني، التمسك بالاستصحاب هذا غير تام.

[الوجه الثالث: وجوب القضاء كطرف للعلم الإجمالي]

الوجه الثالث لوجوب القضاء، أن يقال إن وجوب القضاء بنفسه طرف لعلم الإجمالي. من أول الأمر، فهو كوجوب القضاء العلم الإجمالي له طرفان: الأول وجوب الأداء، والثاني وجوب القضاء.

بيان ذلك: إن المكلف في البداية يعلم علماً إجمالياً، إما بوجوب صلاة الجمعة عليه، أو بوجوب صلاة الظهر عليه. هذا العلم الأول.

ويوجد علم إجمالي ثاني وهو أنه إما تجب عليه صلاة الجمعة، وإما قضاء صلاة الظهر واجب عليه لو لم يأتي بصلاة الجمعة في وقتها، إذ أن صلاة الجمعة تقضى ظهراً إذا فات وقتها.

إذن وجوب صلاة الظهر طرف للعلم الإجمالي من أول الأمر. فيتنجز هنا علمان إجمالياً: الأول علم الإجمالي بوجوب الجمعة أداءً أو الظهر أداءً، والعلم الإجمالي الثاني هو علم إجمالي بوجوب صلاة الجمعة أداءً أو وجوب صلاة الظهر قضاءً لو لم يأتي بصلاة الجمعة في أول وقتها.

إذن، يا أخي، صلاة الظهر واجبة في العلم الإجمالي الأول وفي العلم الإجمالي الثاني. في العلم الإجمالي الأول تجب أداء، وفي العلم الإجمالي الثاني تجب قضاء.

إذن وجوب قضاء... هذا بحثنا: وجوب قضاء صلاة الظهر لو لم يأتي بها أداءً، هذا طرف للعلم الإجمالي الثاني، فيتنجز وجوب قضاء صلاة الظهر بالعلم الإجمالي الثاني.

وهذا الكلام ليس بتام، لأنه وإن كان هذان العلمان الإجماليان صحيحين، لكن الطرف الثاني للعلم الإجمالي الثاني وهو وجوب قضاء صلاة الظهر، هذا الوجوب ليس واجباً بالوجوب الفعلي، بل وجوبه منوط بعدم أداء صلاة الظهر أو الجمعة.

فوجوب قضاء صلاة الظهر منوط بعدم الإتيان بصلاة الجمعة أو الظهر في وقتها، وهذا معنى أن المكلف يعلم بفعلية الشرط بوجوب القضاء، فيكون علماً بوجوب الفعلية على كل تقدير، لأنه يعلم إما بوجوب الأداء فعلاً أو بوجوب القضاء بعد فوات وقت الظهر، فيصير من باب العلم الإجمالي التدريجي، لأنه بانٍ على عدم الإتيان بالظهر داخل الوقت من أول الأمر، وحينئذ يكون هذا العلم الإجمالي منجزاً في حقه.

إذاً هذا الطرف الثاني وهو وجوب صلاة الظهر ليس فعلياً في حقه. متى يصير فعلياً في حقه؟ إذا فات وقت صلاة الظهر، أو وقت صلاة الجمعة.

وأما إذا فرض أن المكلف سوف يأتي بصلاة الظهر ولم يكن بانياً على عدم الإتيان بها قبل الإتيان بصلاة الجمعة. إذاً، قبل الإتيان بالجمعة، علمه الإجمالي بوجوب الجمعة أو بوجوب الظهر قضاءً لا يكون علماً بالتكليف الفعلي على كل تقدير، لأن وجوب القضاء ليس معلوم الفعلية في حقه وظرفه، إذ لعله سوف يأتي بالظهر. إذاً، فلا يكون منجزاً، لأن العلم المنجز هو العلم الفعلي بالتكليف في ظاهرة على كل تقدير، يعني التكليف المعلوم وجوبه على كل تقدير، وهذا ليس علماً بالتكليف الفعلي في ظرفه على كل تقدير، هذا قبل أن يأتي بالجمعة.

وأما بعد أن يأتي بالجمعة ويمضي الوقت، ويعزف عن الإتيان بصلاة الظهر، فحينئذ يكون هذا العلم الإجمالي علماً بالتكليف الفعلي لكن بعد خروج أحد طرفي العلم الإجمالي وهو الجمعة عن محل الابتلاء، لأنه قد سقط خطاب الجمعة على كل حال على فرض وجوده.

الخلاصة: هذا العلم الإجمالي بوجوب صلاة الجمعة أو وجوب صلاة الظهر قضاءً، هو قبل الإتيان بالجمعة لم يكن علماً إجمالياً بالتكليف الفعلي على كل تقدير، فلا يكون منجزاً، وبعد الإتيان بصلاة الجمعة صار علمه الإجمالي هذا فعلياً لكن بعد أن خرج أحد طرفي هذا العلم الإجمالي عن الابتلاء، ولم يعد منجزاً، إذ فات وقت صلاة.

[النتيجة العامة في الوجوه الثلاثة]

وبهذا تبين أن الوجه الثالث لوجوب القضاء ليس بتام، وأن الوجه الأول والثاني والثالث لوجوب القضاء وهذه المحاولات الثلاث غير ناجحة في إثبات وجوب القضاء.

وبالتالي، يا أخي يا أخي، إذا لم نستطع إثبات وجوب القضاء في أثناء الوقت، يعني إذا تنجز العلم الإجمالي في وقت الأداء، فما ظنك بإثبات وجوب القضاء إذا تنجز العلم الإجمالي بعد خروج الوقت، فيعلم أنه في هذه الوجوه الثلاثة، تكون هذه الوجوه الثلاثة منجزية العلم الإجمالي المدعاة فيها لا تثبت وجوب القضاء، سواء تنجز العلم الإجمالي في أثناء الوقت أو تنجز العلم الإجمالي بعد خروج الوقت.

هذا تمام الكلام في الوجه الثالث، يبقى الوجه الرابع والوجه الخامس، وبعد ذلك الصورة الرابعة، لأننا ذكرنا ثلاث صور. كلامنا فعلاً في ماذا؟ كلامنا لو انكشف الخلاف بأمر تعبدي.

قلنا توجد ثلاث أو أربع صور:

الصورة الأولى: إذا انكشف الخلاف باستصحاب موضوعي.

الصورة الثانية: إذا انكشف الخلاف باستصحاب حكمي.

الصورة الثالثة: إذا انكشف الخلاف بأصالة الاشتغال بملاك منجزية العلم الإجمالي.

الصورة الرابعة: إذا انكشف الخلاف بأصالة الاشتغال بملاك دوران الأمر بين الأقل والأكثر، وقلنا بجريان أصالة الاشتغال عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر.

يبقى الكلام في الوجه الرابع والوجه الخامس لوجوب القضاء، بناءً على هذه الصورة الثالثة يأتي عليهم الكلام.

 

logo