« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

46/07/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائتان وستة عشر): إذا انكشف الخلاف باستصحاب حكمي

الموضوع: الدرس (مائتان وستة عشر): إذا انكشف الخلاف باستصحاب حكمي

 

[الصورة الثانية: انكشاف الخلاف بالاستصحاب الحكمي]

الصورة الثانية: إذا انكشف الخلاف باستصحاب حكمي، فلو كانت هناك شبهة حكمية كمن كان يتخيل في يوم الجمعة وجود دليل اجتهادي حاكم على استصحاب وجوب صلاة الجمعة، لكنه بعد خروج وقت صلاة الجمعة انكشف له عدم وجود دليل حاكم على هذا الاستصحاب.

[بيان مورد الشبهة الحكمية]

أي أن المكلف كان يعلم بوجوب صلاة الجمعة في عصر حضور الإمام المعصوم، وشك في بقاء وجوب صلاة الجمعة في عصر غيبة الإمام المعصوم، مقتضى الاستصحاب بقاء وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة.

[فرض وجود الدليل الاجتهادي الحاكم]

لكنه أعتقد بوجود دليل اجتهادي كأمارة أو خبر ثقة حاكم على الأصل العملي، وهو الاستصحاب، فلم يصل الجمعة، وبعد مضي وقت صلاة الجمعة، اتضح له أن هذا الدليل ليس بحاكم على الاستصحاب، أي أن أركان الاستصحاب تامة في حقه، فعاد ليستصحب بقاء وجوب صلاة الجمعة لأنه كان ثابتًا ومتيقنًا هذا الوجوب للجمعة في عصر حضور المعصوم، والآن في عصر الغيبة يشك في بقاء هذا الوجوب، فيستصحب بقاء وجوب صلاة الجمعة.

[تحديد نوع الشبهة]

إذن الشبهة هنا شبهة حكمية، أي ما هو الحكم وما هو الواجب في ظهر الجمعة في عصر الغيبة؟ هل هو صلاة الجمعة أم صلاة الظهر؟

[فرض الاستصحاب داخل الوقت وخارجه]

وهنا قد نفرض جريان الاستصحاب في داخل الوقت قبل غروب الشمس، وقد نفرض جريان الاستصحاب بعد خروج الوقت، فإن فرضنا أن استصحاب بقاء وجوب الجمعة كان في داخل الوقت، وكان قد صلى الظهر في أول الوقت ولم يصل الجمعة لأنه كان يعتقد بوجود دليل اجتهادي حاكم على الاستصحاب المؤدي لوجوب صلاة الجمعة، فلم يصل الجمعة بل صلى صلاة الظهر، ثم تبين له أن هذا الدليل الحاكم ليس بحاكم، وأن الاستصحاب محكم.

] تنجيز الاستصحاب وآثاره في وجوب الجمعة [

فحينئذ لا شك ولا ريب بأن الاستصحاب منجز، ويدخل وجوب صلاة الجمعة في ذمته وعهدته، ولا شك ولا ريب في وجوب الإتيان بصلاة الجمعة في داخل الوقت، وفي خارج الوقت لابد من قضائها.

غاية ما في الأمر أنه يؤدي أو يقضي الجمعة بالإتيان بصلاة الظهر، لأن وقت صلاة الجمعة معين، وهو أن يمر من أذان الظهر مقدار يسع الخطبتين والصلاة، فإذا مضى هذا الوقت، انتهى وقت صلاة الجمعة، فلابد أن يأتي ببدلها، وهو صلاة الظهر.

[مبنى وجوب القضاء: الأمر الأول أو عدم الإتيان]

فبناءً على أن وجوب القضاء بالأمر الأول أو أن موضوع وجوب القضاء هو عدم الإتيان وليس الفوات، فحينئذ يجب عليه أن يقضي الجمعة بأن يأتي بصلاة الظهر.

[حكم من ترك الجمعة تهاونًا بعد الاستصحاب]

ولو فرض أن المكلف بعد أن أجرى استصحاب بقاء وجوب صلاة الجمعة في الوقت لكنه لم يصلها تهاونًا وتساهلًا حتى فات الوقت، فيجب عليه قضاء صلاة الجمعة بالقضاء المناسب لها، وهو قضاؤها ظهرًا أيضًا، إذ هنا يأتي نفس التقريب المتقدم في الصورة الأولى من إثبات وجوب القضاء بهذا الاستصحاب.

تقريب ذلك: إن دليل وجوب القضاء يثبت أمرًا نوعيًا لا هوية له ولا اتجاه ولا لون، فدليل وجوب القضاء مفاده أمر نوعي تابع من حيث اللون للون ما فات، فإن كان ما فات حكمًا ظاهريًا، فيجب القضاء ظاهريًا.

وهنا قد فات عليه وجوب استصحابي ظاهري لصلاة الجمعة، وهذا الوجوب الظاهري قد فات يقينًا، فيجب عليه قضاؤه من لونه بأن يأتي بصلاة الظهر الواجبة ظاهرًا، هذا إذا أَجرى الاستصحاب في أثناء الوقت.

وأما لو فرض أن المكلف لم يجري استصحاب وجوب الجمعة إلا بعد انتهاء الوقت، وكان قد صلى الظهر في داخل الوقت، فهل يجب عليه قضاء الجمعة أو لا يجب؟

هنا يأتي نفس التفصيل السابق في الصورة الأولى.

[القول بموضوعية عدم الإتيان في وجوب القضاء]

فيقال: إن كان وجوب القضاء موضوعه عدم الإتيان بالواجب، فهذا الموضوع متحقق في المقام بالاستصحاب، لأن الاستصحاب يثبت أمرًا عدميًا، وهو عدم الإتيان بالصلاة، فعدم الإتيان بالواجب ينحل إلى جزئين: أحدهما عدم الإتيان بشيء، والثاني أن يكون ذلك الشيء واجبًا.

أما الأول وهو عدم الإتيان بالشيء، فهذا ثابت يقينًا لأنه لم يأتِ بالجمعة قطعًا ويقينًا.

وأما كون الثاني واجبًا فقد ثبت بالاستصحاب وبضم الوجدان واليقين الذي مفاد الأول إلى التعبد الذي هو مفاد الاستصحاب، يتنقح موضوع وجوب القضاء، إذن يجب عليه القضاء.

هذا كله إذا كان موضوع وجوب القضاء أمرًا عدميًا، وهو عدم الإتيان بالصلاة.

[القول بموضوعية الفوت والخسارة في وجوب القضاء]

وأما إذا كان موضوع وجوب القضاء أمرًا وجوديًا، وهو الفوت والخسارة، فحينئذ لا يمكن إثبات هذا الأمر الوجودي بالاستصحاب إلا بناءً على الأصل المثبت، إذ إن الاستصحاب يكون فيه المستصحب أمرًا عدميًا، وهو عدم الإتيان بالصلاة، وله لازم عقلي وهو الخسارة والفوت.

والاستصحاب لا يثبت لوازمه العقلية، ومن هنا قيل: الاستصحاب المثبت لا يثبت. عجيب كيف مثبت ولا يثبت؟ يعني الاستصحاب المثبت للوازمه العقلية ليس حجة في إثبات اللوازم العقلية.

[التوهم في إمكان إثبات الفوت بالاستصحاب والجواب عنه]

وقد يتوهم إثبات الفوت بالاستصحاب ليكون موضوعًا لوجوب القضاء من دون الوقوع في الأصل المثبت، فيقال: يجب القضاء حتى لو قيل بأن موضوع وجوب القضاء هو الفوت، وذلك لأن الموضوع مركب من جزئين: الأول فوت الشيء، والثاني كون ذلك الشيء واجبًا.

وفي المقام فوت الشيء متحقق، إذ قد فاتته الجمعة بالوجدان واليقين أنه لم يصل الجمعة وقد مضى وقتها، وكان الشيء الفائت واجبًا، وهذا الواجب قد ثبت بالاستصحاب، فيثبت موضوع وجوب القضاء، خلافًا للصورة الأولى.

وجواب هذا التوهم أن يقال: بإن موضوع وجوب القضاء بناءً على أن موضوع وجوب القضاء أمر وجودي، وهو عنوان الفوات والخسارة، لا يصح أن يُجعل مركبًا من جزئين، وإن كان استظهار التركيب بين القيود هو مقتضى القاعدة العرفية في موضوعات التكاليف، بل لا بد أن يكون الموضوع في المقام مأخوذًا بنحو التقييد، فيكون الموضوع هكذا: فوت الشيء الواجب بما هو واجب، بمعنى أن الفوت والواجبية أخذ أحدهما مقيدًا بالآخر.

يا أخي اختصرها: فات الواجب، فات الشيء الواجب، أي قيد الفائت بأنه واجب، هذا ليس معناه مركب من فوت وواجب، بل يعني أن الواجب قد أُخذ قيدًا في الشيء الفائت.

[حقيقة الفوت وارتباطه بالوجوب]

فالنكتة في لزوم أخذ أحدهما مقيدًا بالآخر هو أن عنوان الفوت لا يتحقق إلا إذا انتزع من خصوص عدم الإتيان بشيء لازم وبشيء له مزية، وأما إذا كان شيء غير لازم، فلا يُقال: فات مثلًا صلاة ثلاث ركعات في الظهر، فإذا شخص ما صلى ثلاث ركعات، فلا يُقال: فاتته، لأن هذه ليست لازمة ولا مزية، لكن إذا لم يصل لأربع ركعات صلاة الظهر، يُقال: فاتته. فعنوان الفوت لا يصدق إلا على خسارة الشيء اللازم والذي له مزية.

فإذا اللزوم والمزية قد أُخذا كقيد في تقويم الشيء الفائت، فالفوت لا يُضاف إلى صلاة الجمعة أو أي صلاة أو فعل، بما هو صلاة جمعة أو فعل، حيث لا يُقال لمن فاتته الصلاة ثلاث ركعات في النهار أنه قد فاتته الصلاة، والسر في ذلك: أنه لم تُشرع في حقه ثلاث ركعات في النهار.

فحقيقة الفوت أنه أمر منتزع عن وجوب الشيء مع عدم وقوعه خارجًا، لا أن كل ما لم يقع خارجًا يُصدق عليه أنه قد فات، فالفوت لا يُنسب إلى الشيء بذاته، بل الفوت يكون في طول وفارع عدم وقوع شيء واجب الوقوع.

[النتيجة: عدم حجّية الاستصحاب المثبت للفوت]

وعليه فالفوت لازم عقلي لمجموع أمرين: أحدهما عدم الإتيان، والآخر كون الشيء المترك واجبًا ولازمًا، ولابد من الإتيان به.

إذن كما أن استصحاب عدم الإتيان في الصورة الأولى كان مثبتًا وهو غير مثبت للفوت، فكذلك في الصورة الثانية استصحاب الوجوب يكون مثبتًا ولا يثبت الفوت.

[النتيجة النهائية للصورة الثانية]

إذا حكم الصورة الثانية هو حكم الصورة الأولى، يعني بناءً على أن القضاء بأمر جديد وأن موضوع وجوب القضاء أمر عدمي، وهو عدم الإتيان، يثبت وجوب القضاء.

وبناءً على أن القضاء بأمر جديد وأن موضوع وجوب القضاء هو أمر وجودي، وهو الفوت، لا يثبت وجوب القضاء، لأن الاستصحاب لا يثبت إلا الأمر العدمي، وهو عدم الإتيان بالصلاة.

وأما الأمر الوجودي وهو الفوت الذي هو موضوع وجوب القضاء، فهذا لازم عقلي لعدم الإتيان، فهو لازم عقلي للمستصحب، والاستصحاب لا يثبت لوازمه العقلية.

هذا تمام الكلام في الصورة الثانية.

الصورة الثالثة يأتي عليها الكلام.

 

logo