« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

46/07/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائتان وخمسة عشر): الفرق بين جريان الاستصحاب في أثناء الوقت وبعد خروجه

الموضوع: الدرس (مائتان وخمسة عشر): الفرق بين جريان الاستصحاب في أثناء الوقت وبعد خروجه

 

الفرق بين جريان الاستصحاب في أثناء الوقت وبعد خروج الوقت

كان الكلام في الصورة الأولى من الحالة الثالثة في بحث إجزاء الحكم الظاهري عن الواقع، وهي أن ينكشف الخلاف بالاستصحاب في شبهة موضوعية.

[المبنى الأول: موضوع القضاء هو ترك الصلاة وعدم الإتيان بها]

وصلنا إلى كلام صاحب الكفاية أعلى الله في الخلد مقامه[1] ، إذ قال: إن وجوب القضاء إذا كان بأمر جديد وليس بنفس أمر الأداء.

فحينئذٍ يوجد مبنى الأول أن يكون موضوع القضاء هو ترك الصلاة وعدم الإتيان بها، فحينئذٍ إذا جرى الاستصحاب بعد خروج الواقع فإنه يثبت عدم الإتيان بالصلاة، وبذلك يثبت موضوع وجوب القضاء، فيجب القضاء.

[المبنى الثاني: موضوع القضاء هو الفوت والخسارة]

المبنى الثاني: موضوع القضاء هو الفوت والخسارة، فإذا خرج الوقت وأجرى الاستصحاب، فإن الاستصحاب إنما يثبت عدم الإتيان بالصلاة، الذي هو أمر عدمي، ولا يثبت الفوت والخسارة، الذي هو أمر وجودي، والاستصحاب لا يثبت لوازمه، إذ إن الفوت والخسارة لازم عقلي لعدم الإتيان بالصلاة، فبناءً على المبنى الثاني، يقول صاحب الكفاية: لا يجب القضاء.

فإذا التزمنا بالمبنى الثاني، وهو أن موضوع وجوب القضاء هو الفوت، فحينئذٍ يكون الفوت لازمًا عقليًا للمستصحب، وهو عدم الإتيان بالصلاة، فلا يجب القضاء.

[الإشكال النقضي على صاحب الكفاية]

ونوقش صاحب الكفاية رحمه الله وأشكل عليه بإشكال نقضي، وهو أن المكلف لو توضأ وصلى في أثناء الوقت، وقبل انتهاء الوقت، التفت إلى أن قاعدة الفراغ لا تجري في الوضوء، وأجرى الاستصحاب إذ كان على يقين من أنه لم يُؤتِ بالوضوء الصحيح، وكان على يقين من أنه لم يُؤتِ بالصلاة بالوضوء المطلوب، ثم شكّ في الإتيان بها صحيحة بعد أن جاء بالصلاة مع الوضوء الذي أجرى فيه قاعدة التجاوز، وشكّ في الصحة نظرًا لأن قاعدة التجاوز لا تشمل الوضوء.

فحينئذٍ يجري الاستصحاب "لا تنقض اليقين بالشك" فيجب عليه أن يعيد الصلاة في الواقع، لكنه تساهل ولم يعيد الصلاة في الواقع حتى خرج الوقت. فحينئذٍ، هل يلتزم صاحب الكفاية بعدم وجوب القضاء؟

والمناط واحد في وجوب القضاء بالنسبة إلى جريان الاستصحاب خارج الوقت أو في الوقت، إذ إن القضاء أولًا بأمر جديد، وثانيًا، موضوعه أمر وجودي وهو الفوت، بينما المستصحب أمر عدمي، وهو عدم الإتيان بالصلاة، والفوت لازم عقلي للمستصحب.

وبالتالي هذا الاستصحاب لا يثبت وجوب القضاء لا داخل الوقت ولا خارج الوقت، مع أنه لا يلتزم فقيه من الفقهاء، ومنهم صاحب الكفاية بأن من التفت إلى جريان الاستصحاب في أثناء الوقت وتهاون ولم يعد الصلاة، يُقال إنه لا يجب عليه القضاء.

فإذا وجب القضاء لمن التفت لجريان الاستصحاب في أثناء الوقت، فحينئذ نقول: كيف يجب القضاء لمن التفت في أثناء الوقت، ولا يجب القضاء لمن التفت خارج الوقت، مع أن المناط واحد، وهو أن موضوع وجوب القضاء هو أمر وجودي، وهو الفوت؟

[جواب الإشكال]

ثم يدافع عن صاحب الكفاية بوجود فارقٍ بين جريان الاستصحاب في أثناء الوقت وبين جريان الاستصحاب خارج الوقت.

والسر في ذلك: أن الاستصحاب إذا جرى في الوقت فإنه يحدث وجوبًا ظاهريًا، وهذا الواجب الظاهري الذي قد ثبت بالاستصحاب في أثناء الوقت قد فات يقينًا حينما تهاون هذا المكلف ولم يصل.

وبالتالي إذا خرج الوقت، يجب عليه أن يقضي الصلاة وفاءً بالأمر الظاهري الذي لم يمتثله في أثناء الوقت، بخلاف جريان الاستصحاب خارج الوقت، فخارج الوقت لا يوجد لا حكم ظاهري ولا حكم واقعي.

أما الواجب الواقعي فلأن إثبات فوته باستصحاب عدم الإتيان هذا أصل مثبت، وهو لا يثبت، لأننا بعد خروج الوقت نستصحب عدم الإتيان بالصلاة، وموضوع وجوب قضاء الصلاة هو فوت الصلاة، فإن قلنا إن الأمر بالقضاء واقعي فالاستصحاب لا يثبته، وإن قلنا إن الأمر بالقضاء بعد خروج الوقت واجب ظاهري، فنقول: لا يوجد وجوب ظاهري حتى يفوت، بخلاف من استصحب في أثناء الوقت، فإنه يتولد حكم ظاهري، وبتهاونه يفوت.

هذا ما يمكن أن يقال للتخلص من الإشكال النقضي الذي يوجه إلى صاحب الكفاية.

[الفارق بين اجراء الإستصحاب في الوقت و خارج الوقت]

ولتعميق المسألة أكثر، لابد من بيان الفارق بين الاستصحاب الذي يجري في حق المكلف في أثناء الوقت، وتسامح، ولم يأتِ بالصلاة إلى أن خرج الوقت، وبينما إذا لم يكن الاستصحاب جارياً في حق المكلف إلا بعد خروج الوقت.

والفرق الذي ذكرناه بين الاستصحابين تتوقف تماميته على دعوة استظهارية من دليل وجوب القضاء.

[الأوامر على نحوين]

وقبل بيانها نقدم مقدمة الأوامر على نحوين:

النحو الأول أوامر ابتدائية كالأمر بالصلاة والصوم والحج، فهي أوامر ابتدائية تحمل على أنها أوامر واقعية.

النحو الثاني الأوامر التداركية مثل الأمر بالقضاء.

فالأمر بالقضاء ليس كالأوامر الابتدائية، وإنما تمام قوامه نكتة التدارك، يعني أن يفي المتدارك بملاك المتدارك، فيكون المتدارك من سنخ المتدارك.

فتكون هذه الأوامر التداركية أوامر نوعية غير متعينة الهوية، فهي من قبيل "لا يسقط الميسور بالمعسور"، أي إن الميسور من جنس المعسور، فهذا المعسور قد يكون واجبًا، فالميسور واجب، وقد يكون مستحبًا، فالميسور أيضًا مستحب.

وهكذا قوله عليه السلام: " يقضي ما فاته كما فاته "[2] فهو أمر نوعي بالقضاء، لكن هذا الأمر النوعي غير متعين الهوية وغير محدد اللون والاتجاه، فهذا الذي فات قد يكون أمرًا واجبًا وقد يكون أمرًا مستحبًا.

إذن، دليل وجوب القضاء يعني الآن تمت هذه المقدمة.

[تفصيل دليل وجوب القضاء]

الآن نشرح في التفصيل أن دليل وجوب القضاء، وهو: " يقضي ما فاته كما فاته ".

إذا استظهرنا منه أنه إنشاء للأمر بالقضاء، لكن هذا الأمر ليس أمرًا ابتدائيًا كالأوامر الواقعية مثل الصلاة والصوم، بل من النحو الثاني، وهو الأوامر التداركية، فالأمر بالقضاء أمر نوعي غير متعين الهوية وغير محدد اللون، وإنما يتحدد لونه واتجاهه وهويته بتحديد هوية ما فات.

فإن كان ما فات واجبًا فيجب القضاء، وإن كان مستحبًا فيستحب القضاء، وإن كان ما فات واجبًا واقعيًا فيجب القضاء واقعيًا، وإن كان ما فات واجبًا ظاهريًا فيجب القضاء ظاهريًا.

وهذا معنى كون الأمر بالقضاء نوعيًا غير محدد اللون، يعني غير متعين الهوية من وجوب أو استحباب أو واقعية أو ظاهرية.

هذا من مثيل وقبيل "الميسور لا يسقط بالمعسور"، فحينئذٍ يكون الميسور من سنخ المعسور، فإن كان المعسور واجبًا فالميسور مثله، وإن كان المعسور مستحبًا فالميسور أيضًا مثله، وهكذا..

[الواجب الظاهري]

فحينئذٍ إذا استظهرنا من دليل وجوب القضاء أنه من قبيل قاعدة الميسور وأنه إنشاء لأمر نوعي غير متعين الهوية والاتجاه واللون، فحينئذٍ لا بأس بهذه التفريق المتقدّمة في جريان الاستصحاب في أثناء الوقت، فيثبت به وجدانا فوت الواجب الظاهري، فيجب قضاؤه وجوبًا ظاهريًا، لأن لون القضاء وهويته تتحدد بلون ما فات، والذي فات هو الواجب الظاهري، فالذي يقضى هو الواجب الظاهري.

وإن فرض أن الاستصحاب لم يجري في أثناء الواقع حتى مضى الواقع وانتهى، وأجرى الاستصحاب بعد خروج الواقع، فهنا لا يوجد فوت لا للواجب الواقعي ولا للواجب الظاهري.

[الواجب الواقعي]

أما الواجب الواقعي فلا فوت فيه، لأن الاستصحاب يثبت عدم الإتيان، وموضوع الواجب الواقعي أمر وجودي، وهو الفوت والخسارة، فالاستصحاب بالنسبة إلى الأمر الواقعي يكون استصحابًا مثبتًا، فالاستصحاب يثبت عدم الإتيان ولا يثبت الفوت، فهو إذا لم يُحرز الاستصحاب الواقعي، وأيضًا لم يُحرز الفوت الظاهري، إذ لم يفته شيء ظاهرًا في الوقت، فلا يجب عليه القضاء بعد الواقع، فحينئذٍ تجري في حقه البراءة الشرعية.

[الدفاع عن صاحب الكفاية]

هذا التفريق دفاعًا عن صاحب الكفاية وهو أنه لو شك في الأثناء يجب القضاء، ولو شك بعد خروج الوقت لا يجب القضاء، مبني على هذه النقطة الاستظهارية، وهي أن القضاء من النحو الثاني وجوب القضاء من نحو الأوامر التداركية. فهو أمر نوعي يتحدد لونه واتجاهه وهويته بلحاظ ذلك الواجب، فيصير إذا جرى الاستصحاب في أثناء الواقع، ينشأ حكم ظاهري. فإذا تهاون ولم يصل، بقي هذا الحكم الظاهري في حقه في أثناء الواقع، فإذا خرج الوقت، وجب عليه قضاء ذلك الحكم الظاهري، فيجب القضاء إذا جرى الاستصحاب في أثناء الوقت، ولا يجب القضاء إذا جرى الاستصحاب بعد الوقت، لأنه بعد الوقت لا يوجد حكم ظاهري، وموضوع وجوب القضاء الواقعي هو الفوت، وهذا لا يثبته استصحاب عدم الإتيان بالصلاة.

[هل الأمر بالقضاء أمر نوعي أو واقعي؟]

فالدفاع عن صاحب الكفاية يتم إذا قلنا بأن الأمر بالقضاء أمر نوعي غير متعين الهوية والاتجاه والنوع. لكن لو لم نقبل هذا الاستظهار وقلنا إن وجوب القضاء حاله حال الأوامر الواقعية مثل وجوب الصلاة ووجوب الصيام ووجوب الحج، فنقول: " يقضي ما فاته كما فاته "[3] هو حكم متعين الهوية والاتجاه واللون، أي هو حكم واقعي كما هو الحال في سائر أدلة الأحكام الواقعية، كما في دليل صل الجمعة، وصل الظهر، وصم شهر رمضان.

بناءً على ذلك يكون وجوب القضاء وجوبًا واقعيًا.

وبناءً على أن وجوب القضاء وجوب واقعي، نقول إن كان موضوع هذا الوجوب الواقعي هو فوت الواقع فلا يمكن إحرازه، وإن كان الموضوع هو الأعم من الواجب الواقعي أو الواجب الظاهري، فلازمه أن من جرى في حقه الاستصحاب داخل الوقت ولم يؤتِ بالواجب حتى خرج الوقت، لازمه أنه يجب عليه القضاء في خارج الوقت كوجوب واقعي.

يعني حتى لو انكشف بعد الوقت أن صلاته التي صلى في الوقت، لأنه صلى بوضوء أجرى فيه قاعدة التجاوز، لو اتضح له أن هذه الصلاة كانت صحيحة في الواقع، فحينئذٍ نقول أيضًا يجب عليه القضاء، لأن الأمر بالقضاء أمر واقعي، وهذا لا يلتزم به قيه.

إذن، حل الإشكال أن يكون الأمر بالقضاء أمرًا نوعيًا غير محدد الصبغة، غير محدد اللون والاتجاه، وهذا الاستظهار ليس بتام، ولا ينبغي أن يستنكر على ذلك، ويقال: كيف شذ دليل وجوب القضاء عن أدلة الواجبات الأخرى؟ إذ أن أدلة الواجبات الأولية تحمل على كون الواجب واجبًا واقعيًا، فكيف يحمل الأمر بالقضاء على كونه أمرًا نوعيًا غير محدد الهوية وليس أمرًا واقعيًا ولا ظاهريًا إلا بحسب الموارد؟

والفرق واضح، وتمام النكتة هي التدارك القائم مقامية، فإن دليل "اقضِ ما فات كما فات" ليس أمرًا تأسيسيًا ابتدائيًا من قبيل "صل الظهر" أو "صل الجمعة"، بل الأمر بالقضاء أمر إبقائي تداركي، أي إبقاء ما فات ببعض مراتبه، فلسانه لسان القضاء، لسان إبقاء ما مضى ببعض مراتبه، فإذا هو تابع في اللون والهوية لما مضى، فهو يكتسب لونه من لون ما مضى.

وبعبارة أخرى: إن دليل وجوب القضاء حيث يستظهر كونه لتدارك ما فات على المكلف داخل الوقت، فلا ينبغي الاستنكار عليه كونه شذ عن أدلة الواجبات الابتدائية الصرفة، هذا هو النحو الأول: واجبات الابتدائية الصرفة.

فالواجبات الأولية أو الأوامر الابتدائية تحمل على أنها واجبات واقعية متعينة الاتجاه والهوية، بخلاف الأمر بالقضاء، فهو واجب نوعي غير متحدد الاتجاه، يعني لم يُحدد أنه واقعي أو ظاهري، أنه واجب أو مستحب.

من هنا يقال إنه لا يبعد استظهار كون وجوب القضاء تابعًا للشيء المتدارك، فحاله حال قاعدة الميسور، فإذا كان المتدارك واجبًا واقعيًا، فهو واجب واقعي، وإن كان المتدارك واجبًا ظاهريًا، فهو واجب ظاهري يرتفع بانكشاف صحة الفريضة الواقعية.

وبناءً على أن وجوب القضاء أمر نوعي غير محدد الهوية، يمكن التفرقة بين من انكشف له الخلاف في داخل الوقت وقصر ولم يأتي بالواجب حتى خرج الوقت، فيجب عليه القضاء، والسر في ذلك: أنه فاته الواجب الظاهري الذي تنجّز في ذمته وفي عهدته في داخل الوقت ما دام أنه لم ينكشف له صحة العمل الواقعي، ونفرق بينه وبين من انكشف له الخلاف في خارج الوقت، إذ لا يوجد في حقه حكم ظاهري ولا واقعي، لأن وجوب القضاء واقعًا موضوعه الفوات، وليس موضوعه عدم الإتيان بالصلاة، الذي هو مستصحب.

الخلاصة: بناءً على التسليم بأن الأمر بالقضاء هو من النحو الثاني التداركي، أي إنه أمر نوعي غير محدد الهوية، يعني غير محدد من ناحية الظاهر أو الواقع، غير محدد من ناحية الوجوب أو الاستحباب، وقوامه الإتيان ببعض مراتب المتدارك.

بناءً على هذا، تصح التفرقة بين جريان الاستصحاب في أثناء الوقت، فيجب القضاء نظرًا لتولّد حكم ظاهري من جريان الاستصحاب، وبين جريان الاستصحاب خارج الوقت، فلا يجب القضاء، لأنه خارج الوقت لا يوجد حكم ظاهري يفوت، ولا يوجد أيضًا حكم واقعي، لأن الاستصحاب يثبت عدم الإتيان ولا يثبت الفوت والخسارة، وموضوع وجوب القضاء واقعيًا هو الفوت والخسارة، وليس عدم الإتيان بالصلاة.

الزبدة والخلاصة:

بناءً على أن القضاء أمر نوعي غير متحدد الاتجاه وغير متعين الهوية، يمكن التفرقة بين إذا كان الاستصحاب قد جرى داخل الوقت فيجب القضاء، وبين جريان الاستصحاب بعد خروج الوقت، فلا يجب القضاء.

هذا كله إذا كان انكشاف الخلاف بأصل موضوعي، كانكشافه باستصحاب عدم الإتيان في موارد الشك في الامتثال وعدمه.

إلى هنا

أتممنا الصورة الأولى: جريان الاستصحاب في أصل موضوعي.

الصورة الثانية: إذا انكشف الخلاف بجريان الاستصحاب في الحكم يأتي عليها الكلام.

 


logo