« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

46/07/07

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائتان واثنا عشر): البيان الأول للمحقق الأصفهاني

الموضوع: الدرس (مائتان واثنا عشر): البيان الأول للمحقق الأصفهاني

 

البيان الأول للمحقق الأصفهاني: عدم معقولية جعل الأمر بالجامع. [1]

[ما قد قلناه حتى الآن]

كان الكلام في الاحتمال السابع للمحقق الأصفهاني في توجيه إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي.

قلنا إن مسألة الإجزاء تحتاج إلى تحقيق وذكرنا سبعة احتمالات، واتضح من هذه الاحتمالات السبعة أن هناك ملازمة بين الإجزاء والتصويب.

فبناءً على القولين الأول والثاني يوجد إجزاء ويوجد تصويب، وبناءً على القول الثالث والرابع والخامس والسادس لا يوجد إجزاء ولا يوجد تصويب.

يبقى الكلام في الاحتمال السابع للمحقق الأصفهاني، وسيتضح أنه غير معقول في نفسه، فتكون النتيجة عدم الإجزاء وعدم التصويب، لأن الاحتمال الأول هو التصويب الأشعري، والاحتمال الثاني هو التصويب المعتزلي، ولا نلتزم بهما.

فتكون النتيجة عدم إجزاء الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي إذا قطعنا بخلاف الواقع.

[مفاد الإحتمال السابع]

الاحتمال السابع للمحقق الأصفهاني كان مفاده هكذا: إن قيام الأمارة يحدث مصلحة في مقابل مصلحة الواقع، وهذه المصلحة تكون في المؤدى، ولنضرب مثالًا على ذلك وسنستفيد منه في البيانين الأول والثاني.

[مثال]

لو افترضنا أنه في الواقع تجب صلاة الظهر وليس الجمعة، وقامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة ظاهراً، فهنا يقول المحقق الأصفهاني: إن قيام الأمارة يحدث مصلحة في مؤدى الأمارة وهو وجوب صلاة الجمعة، ووجوب صلاة الجمعة ليس في طول صلاة الظهر واقعاً بل في مقابل صلاة الظهر واقعاً.

إذن، صلاة الجمعة ظاهراً لها ملاك في مقابل صلاة الظهر واقعاً التي فيها أيضاً ملاك، فسواء فات ملاك الظهر أو لم يفوت، فإن المصلحة الموجودة في مؤدى الأمارة وهي صلاة الجمعة تجبر ما يفوت من الواقع، فالملاك الموجود في صلاة الجمعة ظاهراً يجبر ما فات من صلاة الظهر واقعاً، وليس بينهما طولية حتى تقول: إذا انكشف الخلاف انتفى وجوب صلاة الجمعة ظاهراً.

[التفاوت بين الإحتمال الرابع والسابع]

فالاحتمال الرابع كان يرى أن الأدلة والحجج والأمارات تدل على وجود مصالح في مؤدياتها، لكن يظهر منه أن هناك طولية بين الأحكام الظاهرية والأحكام الواقعية، لكن على الاحتمال السابع توجد عرضية، يعني يوجد مقابل في صلاة الجمعة ظاهراً تقابل صلاة الظهر واقعاً، وملاك صلاة الجمعة يجبر ما فات من ملاك صلاة الظهر.

[إشكال هذا البيان]

هذا البيان ابتلي بهذا الإشكال، وهو تحول الوجوب التعيني لصلاة الظهر واقعاً إلى وجوب تخييري بين صلاة الظهر وصلاة الجمعة إذا قامت الأمارة على خلاف الواقع، لأن الأمارة قد تكون على وفق الواقع وتقول صلاة الظهر واجبة، فهنا يبقى وجوب واحد تعيني.

فإن أُشكل لو قامت الأمارة على الخلاف، فحينئذ يتبدل الوجوب التعيني لصلاة الظهر إلى وجوب تخييري بين صلاة الظهر واقعاً وصلاة الجمعة إذا قامت الأمارة عليها. وأيضاً يلزم تبدل الإرادة التعينية إلى إرادة تخييرية.

والخلاصة: هناك وجوب قد تعلق بخصوص صلاة الظهر وتبدل وتحول إلى الوجوب بالجامع بين صلاة الظهر وصلاة الجمعة.

[ثلاثة بيانات للإصفهاني لإبطال الإشكال]

ومن هنا، انبرى المحقق الأصفهاني وذكر ثلاثة بيانات لإبطال هذا الإشكال، وهو تبدل الإرادة التعينية إلى إرادة تخييرية.

البيان الأول: عدم معقولية جعل الأمر بالجامع بين صلاة الظهر والجمعة، وعدم معقولية تبدل الأمر التعيني الواقعي بصلاة الظهر إلى الأمر التخييري بالجامع بقيام الأمارة، وذلك لأن الملاك القائم بمؤدى الأمارة إنما كان قائماً بمؤدى الأمارة وهي صلاة الجمعة، لا بعنوان أنها صلاة جمعة، وإلا فهي صلاة جمعة قبل قيام الأمارة عليه، وإنما صارت صلاة الجمعة واجدة للملاك بقيام الأمارة على خلاف الواقع، فالأمارة بما هي مخالفة للواقع دلت على وجود ملاك في صلاة الجمعة.

إذاً هذا الوجوب التخييري المدعى حدوثه لابد أن يكون منوطاً ومقيداً بقيام الأمارة على خلاف الواقع، فالوجوب التخييري لا يتعلق بالجامع إلا إذا قامت الأمارة على الخلاف، وإلا لو قامت الأمارة على الوفاق وقالت صلاة الظهر واجبة، وفي الواقع أيضاً صلاة الظهر واجبة، فحينئذٍ يبقى الوجوب التعيني لصلاة الظهر، لكن متى يتبدل الوجوب التعيني لصلاة الظهر؟ إذا قامت الأمارة على خلاف صلاة الظهر الواقعية وقالت تجب صلاة الجمعة.

إذن إن قامت الأمارة على خلاف الواقع تحقق الوجوب التخييري، وإن لم تقم الأمارة على خلاف الواقع، فتجب الظهر تعيناً، وحينئذٍ يصبح واضحاً استحالة جعل الأمر بالجامع.

والسر في ذلك: استحالة وصوله إلى المكلف وإحرازه له، لأن إحراز الوجوب المشروط لا يكون إلا بإحراز شرطه، الذي هو قيام الأمارة المخالفة للواقع، ومن الواضح أن المكلف إذا علم بمخالفة الأمارة للواقع فسوف ترتفع حجية الأمارة، وحينئذٍ سوف يجب عليه صلاة الظهر تعييناً لأنه خرج عن موضوع دليل الحجية لأنه لم يبق شاكًا فالأمارة حجيتها فرع الشك في الواقع، إذا قطع بالواقع انتفت حجية الأمارة.

وإن فرض أن المكلف لم يعلم بمخالفة الأمارة للواقع وكان شاكاً، إذاً فلم يحرز الشرط في الوجوب.

فعندنا شرط وعندنا مشروط، ما هو المشروط؟ وجوب الجامع. ما هو الشرط؟ قيام الأمارة على خلاف الواقع. إذا شك في قيام الأمارة على خلاف الواقع، يكون قد شك في الشرط، والأصل العدم، والمشروط عدم عند عدم شرطه.

إذن لا يتعلق الوجوب بالجامع، فالشرط في وجوب الجامع تخيير هو قيام الأمارة على خلاف الواقع.

إذن وجوب الجامع سنخ وجوب لا يعقل وصوله للمكلف ولا يعقل إحرازه، لأن شرط تعلق الوجوب بالجامع، شرط هذا الوجوب التخييري هو قيام الأمارة المخالفة للواقع، وهذا الشرط له صور ثلاث: إما يعلم الموافقة أو يعلم المخالفة أو لا يعلم.

فإذا هذا الشرط إن علم أنه مخالف للواقع، فقد خرج المكلف عن كونه شاك، وبهذا يخرج عن موضوع دليل الحجية، وبه تسقط الأمارة عن الحجية، وإن علم أنه موافق للواقع، فحينئذٍ يبقى الوجوب العيني، وإن لم يعلم أن الأمارة مخالفة أو موافقة للواقع، فحينئذٍ لم يُحرز الشرط، فإذا لم يصل الشرط إليه لم يصل المشروط إليه، إذن هو لم يعلم بتوجه الأمر بالجامع إليه.

هذا تمام الكلام في البيان الأول للمحقق الأصفهاني.

وقد أجيب عنه بأن جهد المحقق الأصفهاني قد انصب على الوجوب، ويمكن أن يؤخذ قيد الأمارة المخالفة للواقع قيداً في الواجب لا في الوجوب، فيبقى الوجوب التخييري بين صلاة الظهر واقعاً وصلاة الجمعة، لكن في هذا الواجب، وهو أحد العدلين.

صلاة الجمعة فيه شروط:

الشرط الأول: العدد.

الشرط الثاني: الوقت.

الشرط الثالث: قيام أمارة تدل على وجوب صلاة الجمعة مخالفة للواقع، فلا محذور في تعلق الوجوب التخييري بالجامع.

إذن هذا الجواب نذكره بشكل إجمالي ثم نذكره بشكل تفصيلي.

الجواب المجمل: إنه بالإمكان فرض الأمر التخييري بالجامع مع أخذ قيد الأمارة المخالفة للواقع في أحد شقي الواجب التخييري، وهو خصوص صلاة الجمعة، ولا يؤخذ قيد الأمارة المخالفة في نفس الوجوب التخييري، فالوجوب التخييري من أول الأمر مطلق وثابت في حق كل مكلف دون أن يكون مقيداً بقيام أمارة مخالفة للواقع، ومن قامت عنده الأمارة يعلم بأنه يمتثل هذا الجامع ضمن أحد شقّيه على كل حال.

هذا تمام الكلام في الجواب الإجمالي.

الجواب التفصيلي: هو إن بيان المحقق الأصفهاني إنما يكون صحيحًا إذا فرض أننا أخذنا الشرط قيدًا في الوجوب، لأن وصول الوجوب موقوف على وصول شرطه، وشرطه لا يعقل أن يصل في المقام، فإذاً لا يعقل المشروط وهو الوجوب.

ولكن إذا أخذنا شرط قيام أمارة مخالفة للواقع قيدًا في الواجب لا في الوجوب، فإن الوجوب التخييري مطلق من أول الأمر وثابت على كافة المكلفين دون أن يكون مشروطًا بمن قامت عنده الأمارة على الخلاف، وإنما هو وجوب مطلق متعلق بالجامع بين صلاة الظهر التي هي المأمور به واقعًا وصلاة الجمعة المقيدة بأن تكون مفاد أمارة كاذبة ومخالفة للواقع.

وهذا القيد هو أن تكون صلاة الجمعة مفاد أمارة كاذبة، كبقية القيود في صلاة الجمعة مثل الخطبة والعدد وقيام أمارة مخالفة للواقع، فحينئذٍ يكون هذا الشرط قيدًا في أحد عدلي الواجب التخييري، وهو خصوص صلاة الجمعة، وليس في الأدلة الأخرى.

إذاً مثل هذا الوجوب يمكن وصوله إلى المكلف، وبهذا يمكن للمكلف الذي قامت عنده الأمارة أن يمتثل هذا الجامع عن طريق امتثال أحد شقّيه على كل حال.

غاية ما في الأمر إذا لم تقم عنده أمارة مخالفة، فحينئذٍ أحد فردي هذا الجامع لا يتحقق وهو الجمعة، ولكن الوجوب يبقى قائمًا في كل حال، ويصل بالنسبة إليه، ويصير عند فرد واحد من أفراد الجامع وهو خصوص صلاة الظهر، هذا إذا لم تقم أمارة مخالفة.

إذاً، البيان الأول للمحقق الأصفهاني قائم على تخيل، أن الشرط شرط للوجوب مع أنه بالإمكان أن نأخذ الشرط شرطًا للواجب، فالبيان الأول ليس بتام.

البيان الثاني: [لاستحالة انقلاب الإرادة المولوية في التعينية إلى التخييرية:] هو أن الجامع بين صلاة الظهر والجمعة لو فرضنا أن القيد قيد في الواجب، يعني سلمنا بالبيان الأول، وناقشنا، وأرجعنا القيد إلى الواجب لا إلى الوجوب، أي أن صلاة الجمعة التي قامت الأمارة على وجوبها خلافًا للواقع، وحينئذٍ هذا الجامع لا يتحقق ولا يتعقل إلا مع الوجوب التعيني لصلاة الظهر، لأنه من دون وجوب تعيني لصلاة الظهر، لا يبقى معنى لصلاة الجمعة التي قامت الأمارة فيها على خلاف الواقع، إذ لا واقع حينئذٍ في البين حتى تقوم الأمارة على خلافه، لأن هذا الجامع هو جامع بين فردين، وأحد هذين الفردين لا يتعقل إلا مع الوجوب التعيني والإرادة التعينية لصلاة الظهر إذ لو لم تكن الإرادة التعينية لصلاة الظهر محفوظة، فلا يتعقل قولنا صلاة الجمعة التي قامت فيها الأمارة على خلاف الواقع.

إذن متى ما كان هناك واقع وهو وجوب تعيني لصلاة الظهر، يعقل أن تقوم أمارة على خلافه وتقول: صلاة الجمعة واجبة، وأما إذا لم يوجد واقع ولم يوجد وجوب تعيني لصلاة الظهر، فلا واقع حينئذٍ، فلا توجد أمارة تخالف الواقع، لأنه لا واقع.

إذن هذا الجامع فرع وجوب تعيني واقعي، فهذا الجامع سنخ جامع لا يتعقل إلا مع الحفاظ على الوجوب التعيني لصلاة الظهر، فكيف يكون منفكًا عن هذا الوجوب التعيني؟، وكيف ينقلب هذا الوجوب التعيني إلى وجوب تخييري، إذ بمجرد زوال هذا الوجوب التعيني، يزول تعقل هذا الجامع.

وبعبارة أخرى: إن الجامع بين صلاة الظهر واقعًا وبين صلاة الجمعة التي هي مؤدى الأمارة المخالفة لوجوب صلاة الظهر واقعًا، هذا الجامع ليس له وجود، وليس له تقرر، وليس له ثبات لولا وجود مسبق لصلاة الظهر تعيينًا في الواقع، إذ لو كان الأمر الواقعي تخييريًا لما أمكن تعلق الأمارة بما يخالف الواقع.

خلاصة البيان الثاني وزبدته: لا يعقل تصور الجامع؛ لأنه فارع وجود إرادة تعينية بصلاة الظهر، والجواب: هو بالتفرقة بين عالم المفهوم وعالم الوجود. والأحكام تابعة للمفاهيم والعناوين وليست تابعة للوجودات، ومفهوم الجامع التخييري بين صلاة الظهر واقعًا وصلاة الجمعة إذا قامت الأمارة على خلاف الواقع، هذا المفهوم يتعقله الذهن كصورة ذهنية، فيعقل تعلق الحكم وهو الوجوب به، فالأحكام تابعة للعناوين والمفاهيم الذهنية، ففرق بين وجود الجامع وبين مفهوم الجامع، وكلام المحقق الأصفهاني ناظر إلى وجود الجامع، وما نبحثه وهو تعلق الوجوب بالجامع ناظر إلى مفهوم الجامع.

هذا زبدة المناقشة إذن الفرق بين المفهوم والمصداق.

التفصيل:

والجواب أن الجامع بما هو مفهوم من المفاهيم، يمكن تعقله وتصوره حتى قبل وجود الوجوب التعيني لصلاة الظهر، وإنما لا يوجد في الخارج في ضمن أحد فرديه إلا بعد الوجوب التعيني.

توضيح ذلك:

إن الجامع بين الظهر والجمعة القائمة الأمارة فيها على خلاف الواقع، هذا الجامع كمفهوم من المفاهيم نتعقله، فلا حاجة إلى وجوب تعيني، وهذا التعقل الذي هو شرط في جعل الوجوب التخييري على الجامع هو موجود قبل الوجوب التخييري، يعني كمفهوم.

نعم، هذا الجامع أحد فرديه، وهو صلاة الجمعة المقيد بالأمارة المخالفة للواقع، هذا الفرد لا يعقل وجوده خارجًا إلا مع الوجوب التعيني لصلاة الظهر.

وفرقٌ بين أن يكون هذا الجامع مما لا يتعقل ولا يتصور مفهومًا قبل الوجوب التعيني، وبين أن لا يعقل وجودًا وتحقيقًا في ضمن أحد الفردين قبل الوجود التعيني، وما هو واقع في المقام هو أن هذا الجامع مما لا يعقل وجودًا وخارجًا في ضمن أحد الفردين وهو مؤدى الأمارة إلا مع وجوب تعيني في الواقع، لا أنه لا يعقل تقررًا وتصورًا إلا مع وجوب تعيني، فهذا البيان الثاني لا يرجع إلى محصة.

هذا تمام الكلام في البيان الثاني، واتضح أنه ليس بتام.

البيان الثالث يأتي عليه الكلام.


logo