46/07/06
الدرس (مائتان وأحد عشر): الاحتمال السادس المصلحة السلوكية
الموضوع: الدرس (مائتان وأحد عشر): الاحتمال السادس المصلحة السلوكية
الاحتمال السادس: هو المصلحة السلوكية
وهذا نحو من أنحاء السببية. وقد جاء في كلمات المحقق النائيني رحمه الله في مقام دفع شبهة ابن قبة.[1]
[مفاد شبهة ابن قبة]
ومفاد شبهة ابن قبة أن العمل بالحكم الظاهري يجب أن يؤدي إلى تفويت مصلحة الحكم الواقعي، فالعمل بالحكم الظاهري يعد إلقاءً في المفسدة ودفعًا لمصلحة الحكم الواقعي.
[فعل المكلف يتدارك المصلحة الواقعية]
ومن هنا قال المحقق النائيني إن هذه المفسدة - أي عدم الإتيان بمصلحة الحكم الواقعي - فهذه المصلحة الواقعية الفائتة متداركة، وموطن التدارك هو فعل المكلف. فعمل المكلف بالفعل الظاهري يتدارك به ما فاته من الحكم الواقعي.
إذن، المصلحة في نفس فعل المكلف وليست في نفس جعل الحكم الظاهري.
[التفاوت بين الإحتمال الخامس والسادس]
إذن، فرق المصلحة السلوكية، وهي الاحتمال السادس، عن الاحتمال الخامس هو أن المصلحة في الاحتمال الخامس كانت قائمة في نفس جعل المولى للحكم الظاهري، بينما المصلحة في الاحتمال السادس قائمة في فعل المكلف وعمله بعنوانه الثانوي، الذي هو سلوك طريق الأمارة واتباعها بالمقدار الذي يفوت الواقع، فأي سلوك واتباع بالمقدار الذي يفوت معه الواقع، تحصل معه مصلحة تداركية يستوفى بها ذلك الواقع الفائت.
[لا يبقى إشكال ابن قبة]
وبهذا لا يبقى إشكال ابن قبة، لأن إشكاله كان يقول بأن جعل الحجية لخبر الثقة يعني تفويت مصلحة الواقع، كما لو أخبر العادل بوجوب الظهر وكان الواجب في الواقع هو صلاة الجمعة وليس صلاة الظهر، فحينئذ، إذا جاء بصلاة الظهر، يكون قد فوت ملاك مصلحة صلاة الجمعة.
وحينئذ يقال لابن قبة إنه بقدر ما فات الواجب الواقعي وهو صلاة الجمعة، بسلوك الأمارة، وهو الإتيان بصلاة الظهر، فهذا السلوك وهذا الإتيان بصلاة الظهر، يتدارك به مصلحة صلاة الجمعة، فيستوفى ملاك صلاة الجمعة، والخسارة التي فاتت بها صلاة الجمعة.
الخلاصة: إن المصلحة الملحوظة في الاحتمال الخامس في نفس جعل الحكم الظاهري وفي نفس جعل صلاة الظهر، فأي مصلحة يتدارك بها قبح التفويت على المولى، مع أن هذا التفويت حاصل.
غايته أنه تفويت لا قبح فيه نظرًا لوجود عذر من قبل المولى، هذا في الاحتمال الخامس.
بينما في الاحتمال السادس هنا، يفترض وجود مصلحة في صلاة الظهر بحيث لا يبقى معها تفويت لمصلحة صلاة الجمعة، فهي مصلحة متداركة، ومفسدة ترك صلاة الجمعة الواجبة واقعيًا قد انتفت بالإتيان بصلاة الظهر ظاهرًا.
إذن، بناءً على هذا الاحتمال، لا إشكال في عدم الإجزاء إذا انكشف الخلاف، ولا إشكال في عدم الإجزاء.
[المصلحة السلوكية يتدارك بها مقدار ما يفوت من الواقع]
فالميرزا النائيني لا يقول إن المصلحة السلوكية تغير الواقع عما هو عليه، فهو لا يقول إن المصلحة السلوكية دائمًا مصيبة، وأن الأمارة دائمًا مصيبة، ونحن عرفنا أن الشيعة الإمامية معروفون بالتخطئة، يعني الأمارات والأصول قد تخطئ الواقع. فإذن، لا يلزم من كلام الميرزا النائيني التصويب.
كما لا يلزم منه الإجزاء، لأنه لا يقول إن المصلحة السلوكية حكم واقعي بل يبقى الواقع على ما هو عليه. فالمصلحة السلوكية يتدارك بها مقدار ما يفوت من الواقع، ومن الواضح أن الأمارة لم تفوت على المكلف صلاة الظهر، نعم، هي فوتت على المكلف فضيلة أول الوقت، لأنها أشغلته عن صلاة الجمعة الواجبة واقعًا بصلاة الظهر، ففاته فضيلة أول الوقت، ولكن ما دام الوقت باقيًا، فيمكنه أن يأتي بصلاة الظهر إذا انتهى وقت صلاة الجمعة.
إذن الأمارة فوتت على المكلف فضيلة أول الوقت، لأنها أشغلته عن صلاة الجمعة، لكن أصل مصلحة الصلاة الأدائية لم تفوت ما دام الوقت باقيًا، فالأمارة لم تفوته عليه، فارتف التعبد في أثناء الوقت، وحينئذ، لا يبقى موجب لبرهان ابن قبة في قبح تفويت مصلحة الواقع.
وحينئذ نقول يجب عليه أن يعيد صلاة الظهر، لأن الإتيان هنا ماذا؟ هنا لم يأتي بصلاة الجمعة الواجب واقعيًا، وفاته فضيلة صلاة أول الوقت، ويجب عليه ماذا؟ الإعادة، إذ أن مقتضى دليل وجوب الإعادة هو الاطلاق، فيجب عليه الإعادة ولا نلتزم بالإجزاء هذا إذا انكشف الخلاف.
لكن إذا لم ينكشف الخلاف واستمر الجهل بالحكم الواقعي طوال الوقت، واستمرت حجية الأمارة إلى أن انتهى الوقت، فلا بد من فرض أن الأمارة تتدارك تمام الخسارة الحاصلة من تفويت ملاك الحكم الواقعي.
[هل يجب القضاء أم لا؟]
إذا انكشف الخلاف في الأثناء وجبت الإعادة، إذا لم ينكشف وانتهى الوقت، فلا إعادة، فيأتي السؤال هنا: هل يجب القضاء أم لا؟
[إختلاف السيد الخوئي مع الشهيد الصدر]
ذهب السيد الخوئي رحمه الله إلى عدم وجوب القضاء، وذهب الشهيد الصدر رحمه الله إلى وجوب القضاء.
أما السيد الخوئي[2] ، فقد ذكر بأنه لا يجب عليه القضاء، بعد ذلك، لأن القضاء فرع الفوت والخسارة، فموضوع وجوب القضاء هو أمر وجودي، وهو الفوت، وليس أمرًا عدميًا، وهو عدم الإتيان بالصلاة، فالرواية تقول: " يقضي ما فاته كما فاته "[3] ، وهنا لم يحصل فوت، إذ لم تحصل خسارة، لأن المفروض أن خسارة فوت الصلاة الأدائية قد تداركتها الأمارة وجبرتها بالمصلحة السلوكية، وعليه فلا فوت، إذ لا خسارة. وإذا لم يتحقق الفوت، فلا يجب القضاء، لأن موضوع وجوب القضاء هو الفوت.
[مناقشة الشهيد الصدر على السيد الخوئي]
وناقشه الشهيد الصدر بأن الذي فات إنما هو فضيلة أول الوقت وليس أصل الصلاة، فما تداركته مصلحة سلوك الأمارة إنما هو بمقدار ما فات بسبب سلوك الأمارة، وما فات بسبب سلوك الأمارة إنما هو مصلحة الوقت، وليس مصلحة ذات الصلاة التي يتحفظ عليها دليل وجوب القضاء.
فسواء قلنا إن القضاء بنفس الأمر الأول صلّ في الوقت أو أن القضاء ينشأ بأمر جديد.
فهنا مصلحتان:
المصلحة الأولى مصلحة في إيقاع نفس الصلاة،
المصلحة الثانية مصلحة في خصوص إيقاع الصلاة في هذا الوقت.
ودليل "صلّ في الوقت" يتحفظ على كل المصلحتين: أصل الصلاة وإيقاع الصلاة في وقت أدائها.
وأما دليل وجوب القضاء، سواء وجب القضاء بنفس الأمر الأول " يقضي ما فاته كما فاته "[4] أو وجب القضاء بأمر جديد وأمر ثانٍ مستأنف، فإن لسان الأمر بالقضاء على كل حال هو لسان تدارك ما بقى. أي استدرك ما تبقى.
فلسان دليل القضاء في مقام استفاء المصلحة القائمة في أصل الصلاة، وبجامع الصلاة الذي يجمع بين الصلاة الأدائية والصلاة القضائية.
ومعنى هذا إن الأمارة الدلالة على وجوب صلاة الجمعة، وبقيت معمولًا بها إلى آخر الوقت، فوتت على المكلف مصلحة فضيلة أول الوقت.
فلو افترضنا أنه في الواقع، في علم الله، تجب صلاة الظهر لا الجمعة وقامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة، وصلى صلاة الجمعة، وانتهى الوقت وغربت الشمس، ثم بان الخلاف وأن الواجب في الواقع هو صلاة الظهر وليس صلاة الجمعة، فحينئذٍ تكون صلاة الجمعة قد فوتت مصلحة أول الوقت، لكن أصل الإتيان بالصلاة مطلوب، وحيث قد خرج وقت الظهر، فإن أصل صلاة الظهر واجب في ذمته وقد بقي، فيشمله عموم دليل وجوب القضاء.
إذن، فاتت مصلحة أول الوقت لكن لم تفوت مصلحة ذات الصلاة، وحيث لم تفوت فإنه يمكن الحفاظ على مصلحتها بالإتيان بالصلاة خارج الوقت، وهذا معنى لزوم الإتيان بالصلاة خارج الوقت، وهذا معنى القضاء.
نعم، لو قلنا إن دليل وجوب القضاء ليس في مقام تدارك واستيفاء شيء من المصلحة الملحوظة في الأمر الأدائي، بل له مصلحة أخرى قائمة بنفس القضاء، ولو قلنا إن تمام مصلحة الصلاة الأدائية تنتهي بانتهاء وقت الصلاة الأدائية، وتستوفى مصلحة الصلاة الأدائية بالمصلحة السلوكية، فحينئذٍ لا بأس بالقول بعدم وجوب القضاء، لأن المصلحة بتمامها قد استوفيت في المقام عندما جاء بالصلاة الأدائية، ولم يبقَ شيء للتدارك بالقضاء.
لكن هذا خلاف الظاهر، فظاهر دليل وجوب القضاء هو تدارك شيء قد فات ومضى، لا أنه تأسيس لمصلحة جديدة وملاك جديد في نفس القضاء.
فبناءً على الاحتمال السادس، ينبغي القول بوجوب الإعادة ووجوب القضاء، لأن دليل وجوب القضاء لسانه لسان التدارك وطلب استيفاء بعض ما مضى.
إذن، على هذا الاحتمال السادس، لا تصويب ولا إجزاء، ففي هذه الحالة تجب الإعادة ويجب القضاء.
الاحتمال السابع هو ما ذكره المحقق الشيخ محمد حسين الأصفهاني في نهاية الدراية[5] ، وكان بهدف تصوير فرضية يصور فيها الإجزاء من جهة دون وقوع في محذور التصويب من جهة أخرى.
وهذه الفرضية أن يقال بالسببية، بمعنى أن قيام الأمارة المخالفة للواقع يحدث ملاكًا فيما قامت عليه، يعني في مؤدى الأمارة، حيث يكون مؤدى الأمارة كصلاة الجمعة مثلًا وافيًا بالغرض الواقعي، وتكون على حد صلاة الظهر من حيث وفائها بالملاك الواقعي.
وبعبارة أخرى: إن قيام الأمارة يحدث مصلحة وملاكًا في مؤدى الأمارة يفي بمصلحة وملاك الواقع المطلوب، يعني ملاك صلاة الظهر ظاهرًا يفي بملاك صلاة الجمعة واقعًا، إذًا يحصل الإجزاء لأن صلاة الظهر ظاهرًا جاءت ووفَت بملاك صلاة الجمعة واقعًا. سواء فات على المكلف شيء أو لم يفوت، فهذه المصلحة الموجودة في مؤدى الأمارة في عرض مصلحة الواقع.
وهذا ليس من قبيل المصلحة السلوكية، ففي المصلحة السلوكية في الاحتمال الثالث، توجد طولية، المصلحة السلوكية ظاهرًا في طول وفرع المصلحة الموجودة في الواقع، فالمصلحة السلوكية تجبر ما فات من مصلحة الواقع، فإذا انكشف أن الواقع موجود، فإن هذه المصلحة السلوكية لا تؤدي إلى سد مسد الخبر ولا تسد مسد المصلحة الفائتة، بينما هنا توجد عرضية، يعني المصلحة الموجودة في صلاة الظهر ظاهرًا في عرض ومقابل المصلحة الموجودة في صلاة الجمعة واقعًا.
بناءً على هذه الفرضية، يحصل الإجزاء، الحكم الظاهري يجزي عن الحكم الواقعي نظرًا لحصول الأغراض وتحقيق الملاك، لأنه بالإتيان بمؤدى الأمارة والقيام بصلاة الظهر يستوفى الملاك الواقعي الموجود في صلاة الجمعة، سواء انكشف الخلاف في الأثناء أو بعده، فحينئذٍ لا تجب الإعادة ولا يجب القضاء.
[إشكال]
لكن هنا إشكال، وهو أنه إذا كان مؤدى الأمارة كصلاة الظهر حاملًا للملاك الواقعي، إذن يلزم بمجرد قيام الأمارة أن ينقلب الملاك الواقعي من ملاك تعييني في خصوص صلاة الجمعة إلى ملاك تخييري بين الحكم الواقعي وهو صلاة الجمعة وبين ما أدت إليه الأمارة كصلاة الظهر، بعد أن أصبح مؤدى الأمارة كالواجب من حيث وفائه بتمام الملاك الواقعي، كما يلزم من هذا الاحتمال السابع التبدل في الإرادة التعينية للمولى إلى إرادة تخيرية للجامع بين مؤدى الأمارة وهو صلاة الظهر والواجب الواقعي وهو صلاة الجمعة، وهذا تصويب.
يعني يصير دائمًا الأمارة مصيبة، ويتبدل الواقع التعييني إلى واقع تخييري، وتتبدل الإرادة الإلهية التعيينية إلى إرادة تخييرية.
[جواب المحقق الأصفهاني عن الإشكال]
ومن هنا حاول المحقق الأصفهاني تقديم عدة بيانات على استحالة انقلاب الإرادة التعينية للمولى إلى إرادة تخيرية، رغم صيرورة الملاك قائمًا بالجامع بين مؤدى الأمارة والواقع، فهنا عدة بيانات للمحقق الأصفهاني رحمه الله، وكذكر الشهيد الصدر ثلاثة بيانات منها.
البيان الأول يأتي عليه الكلام.