46/06/23
الدرس (مائتان وثلاثة): مقتضى الأصل العملي جريان البراءة
الموضوع: الدرس (مائتان وثلاثة): مقتضى الأصل العملي جريان البراءة
المقام الثالث مقتضى الأصل العملي هو جريان البراءة
فلو لم يقم الدليل الاجتهادي على وجوب القضاء كما في المقام الأول، ولم يقم الدليل الاجتهادي على عدم وجوب القضاء وعدم استيفادته من دليل الحكم الاضطراري، فلم يثبت المقام الأول وهو وجوب القضاء، ولم يثبت المقام الثاني وهو دلالة الأمر الاضطراري على عدم الوجوب، فعند فقدان الدليل الاجتهادي تصل النوبة إلى الأصل العملي، فما هو مقتضى الأصل العملي؟
[الأصل العملي عند فقدان الدليل في الحكم الإضطراري]
ذهب صاحب الكفاية الشيخ محمد كاظم الآخوند الخرساني إلى أن مقتضى الأصل العملي هو البراءة، وذكر أن جريان البراءة عن القضاء يكون بطريق أولى من جريان البراءة عن الإعادة في الوقت[1] .
والتحقيق إن القضاء إما أن يكون بأمر جديد أو لا يكون بأمر جديد، بل يكون بنفس الأمر بالأداء، وعلى كلتا الصورتين تجري البراءة الشرعية، فلا يجب.
فلابد من تحقيق المسألة بناءً على الفرضين:
الفرض الأول: إن القضاء ليس بأمر جديد كما لو كان نفس الأمر الأول في الحقيقة يتضمن أمرين:
الأمر الأول هو الأمر بإيجاد الصلاة في الوقت، والأمر الثاني هو جامع الصلاة الأعم من الصلاة في الوقت وخارج الوقت.
والصحيح هو جريان البراءة من باب أن الصحيح في دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو جريان البراءة الشرعية عن التعيين، فإنما نحن فيه وهو وجوب القضاء بنفس الأمر بالإعادة أو بالصلاة في نفس من هذا القبيل.
بيان ذلك: لا شك ولا ريب أن هذا الشخص الذي استوعب عذره تماماً، مأمور بأمر تعييني بالصلاة الجلوسية داخل الوقت، إما بالأصالة أو من باب تعذر أحد الفردين وهو الصلاة القيامية، إذ الفرض أن القيامية متعذر في تمام وقت الصلاة، فهو مأمور بالصلاة الجلوسية. إما لوحدها، فيكون الأمر بها بالأصالة، أو هو مأمور بالجامع بين الصلاة القيامية والصلاة الجلوسية، لكن يتعذر عليه الإتيان بالصلاة القيامية، فيتعين عليه أحد فردي الجامع وهو خصوص الصلاة الجلوسية.
إذاً هو مأمور بالأمر الأول وهو خصوص الصلاة الجلوسية، وأيضاً مأمور بأمر آخر، الذي هو عبارة عن الجامع المردد بين الصلاة في الوقت والصلاة خارج الوقت.
وهذا الأمر بالجامع مردد بين أن يكون أمراً بخصوص الصلاة القيامية، فلا إجزاء، أو أن يكون أمراً تخييراً بالجامع بين الصلاة القيامية داخل الوقت أو خارج الوقت، وبين الصلاة الجلوسية فيثبت الإجزاء. فإذا جاء بالصلاة الجلوسية، فيتحقق الإجزاء، فإذا قلنا بالبراءة عن التعيين عند الدوران بين التعيين والتخيير، تجري البراءة هنا، فهو مخير بين الصلاة القيامية من دون تقييدها بوقت (فيجب القضاء) وبين الصلاة الجلوسية داخل الوقت أي عند الاضطراب.
في هذه الحالة: إما أن تجب عليه الصلاة القيامية معيناً، ويأتي بها بالقضاء خارج الوقت، لأن الفرض أنه غير مستطيع، وغير قادر على القيام، أو أن نلتزم بالجامع بين الصلاة القيامية والصلاة الجلوسية. والصلاة القيامية متعذرة في أثناء الوقت، فتتعين عليه الصلاة الجلوسية، فدار الأمر بين الأمر بالصلاة القيامية بنحو التعيين، وبين الأمر بالصلاة الجلوسية مخيراً بينها وبين الصلاة القيامية، فتجري البراءة الشرعية عن التعيين، فلا تجب الصلاة القيامية التي يأتي بها خارج الوقت، أي لا يجب القضاء.
ولكن ليست البراءة في باب القضاء بأولى من البراءة في باب الأداء، أي ما لو ارتفع العذر في أثناء الوقت، كما ادعى صاحب الكفاية من أن البراءة أولى، بل الأمر على العكس، فإنه كان يلزم هناك في الإعادة، أي إذا ارتفع العذر في الأثناء، يلزم دوران الأمر بين التعيين والتخيير مع تيقن وجوب الجامع بحده الجامعي، فإن العذر يرتفع في الأثناء، ففي الأثناء يمكن أن يأتي بكلا العدلين، يستطيع أن يأتي بالصلاة من جلوس عند العذر، وبالقيام يوم القيامة عند ارتفاع العذر، فيأتي بالجامع بحده الجامعي، بينما في القضاء ليس الأمر هكذا، فإنه بلحاظ الأمر الأول، وهو الأمر بالصلاة من جلوس، لا علم لنا بوجوب الجامع بين الصلاة القيامية والصلاة الجلوس، لأنه في أثناء الوقت وفي تمام الوقت لا يستطيع أن يصلي من قيام.
هذا تمام الكلام في الفرض الأول، وهو ما إذا افترضنا أن الأمر بالقضاء هو بنفس الأمر بالأداء، فيوجد أمر واحد.
الفرض الثاني: أن يكون الأمر بالقضاء بأمر جديد غير الأمر بالأداء، وهنا أيضاً تجري البراءة الشرعية، فإذا بنينا على أن القضاء بالأمر الثاني دون الأمر الأول، الذي هو أمر بالصلاة في الوقت، بمعنى أنه بعد انتهاء الوقت يتحقق، يحصل عنوان الفوت وعنوان الفوت يكون موضوعاً لحدوث وجوب جديد، وهو وجوب القضاء.
لو بنينا على وجود أمر جديد، وشككنا في أنه يوجد أمر جديد أو لا، فهنا أيضاً تجري البراءة الشرعية، لكن لا يكون المقام من باب الدوران بين التعيين والتخيير، بل يكون شكاً بدوياً في أصل التفويت، لأنه يشك في أصل وجوب أمر ثاني يوجب ويقتضي وجوب القضاء، فهل يوجد أمر بالقضاء أو لا؟ يشك في ذلك؛ فتجري البراءة حتى عند من لا يرى جريان البراءة عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير.
وعلى هذا الفرض الثاني، إذا كان وجوب القضاء بأمر جديد، تجري البراءة هنا في باب القضاء بشكل أولى من جريانها في باب الأداء، فيكون كلام صاحب الكفاية تاماً في الفرض الثاني.
وهناك حيثيتان تقتضيان أولوية البراءة في القضاء على أولوية جريان البراءة في الإعادة والأداء.
الحيثية الأولى: إن الشك في المقام يكون شكا بدوياً في أصل التكليف، فهو شك بنحو البدوية على كل حال، بينما الحكم في الفرع أو في المسألة السابقة يكون على بعض المباني من باب دوران الأمر بين التعيين والتخيير، وقد ينكر البعض ذلك ويقول إن الدوران هو بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
إذاً، هناك خلاف في المبنى الذي يعمل به في باب الإعادة، هل الشك من باب دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين أو الشك من باب دوران الأمر بين التعيين والتخيير؟
فهناك في المسألة السابقة يوجد خلاف في المبنى، بينما في هذا الفرض الثاني لا يوجد خلاف في المبنى، لا يوجد شك بدوي ومورده جريان البراءة الشرعية، فهذا يجعل أولوية البراءة تجري في الفرض الثاني من المسألة السابقة.
أما الحيثية الثانية للأولوية، فهي أنه كان هناك في باب الإعادة إشكال على جريان البراءة، على أساس حاكمية الاستصحاب التعليقي على البراءة، وإن ناقشنا في جريان الاستصحاب التعليقي هناك، ولكن نقول بشكل موجز ثم نفسر:
إن الاستصحاب التعليقي لو جرى فإنما يجري في الاستصحاب التعليقي في خصوص الأحكام، ولا يجري الاستصحاب التعليقي في الموضوعات، وفي هذا الفرض الثاني إنما يوجد الاستصحاب التعليقي في الموضوعات لو قيل به، وهذا لا يجري باتفاق الأصوليين، فجريان البراءة في الفرض الثاني أولى من المسألة السابقة، لأن المسألة السابقة وإن ناقشنا جريان الاستصحاب التعليقي، لكن ذاك استصحاب تعليقي في الأحكام يلتزم به، وأما في موطن بحثنا فهو استصحاب تعليقي في الموضوعات، وبالاتفاق لا يمكن جريانه.
بيان ذلك: الآن ذكرنا المختصر، الآن نذكر المفصل، كيف يكون الاستصحاب تعليقي في الموضوعات؟
يقال هكذا: إن المكلف لو تمكن من القيام قبل أن يصلي من جلوس، لوجبت عليه الصلاة القيامية، فنستصحب هذه القضية الشرطية، وهذا الاستصحاب قد يرد هناك بقطع النظر عن جوابنا عليه هنا، إلا أنه لا يرد هنا، وذلك لأننا نقول: أنه لو كان قد انتهى الوقت قبل أن يصلي من جلوس، لوجب عليه القضاء، وهذا الاستصحاب في المقام غير صحيح، حتى لو صح الاستصحاب التعليقي في المسألة السابقة.
والسر في ذلك:
إن وجوب القضاء موضوعه الفوت وليس عنوان انتهاء الوقت، فيرجع هذا الاستصحاب التعليقي إلى قولنا: إنه لو كان قد انتهى الوقت قبل أن يصلي من جلوس، إذاً لكان قد فاته الوقع، فنستصحب أنه الآن قد فاتته الوقتة، فيكون المستصحب قضية شرطية شرطها أنه لو انتهى الوقت قبل الصلاة الجلوسية، وجزاؤها هو تحقق الفوت، وهذا يكون من الاستصحاب التعليقي في الموضوعات، وهو لا يجري حتى لو قلنا بجريان الاستصحاب التعليقي في الأحكام.
إذاً، في المسألة السابقة كانت القضية التعليقية، المهم هو تلاحظ جزاء القضية الشرطية، هل الجزاء حكم أم موضوع؟ ففي الاستصحاب التعليقي في المسألة السابقة، كان الجزاء حكماً شرعياً، فكنا نقول هكذا: لو قد تمكن من القيام قبل الصلاة الجلوسية، لوجب عليه القيام، فهذا حكم شرعي، فالجزاء هو وجوب القيام، وهو حكم شرعي بنفسه، وهذا يسمى الاستصحاب التعليقي في الأحكام.
أما هنا، فالجزاء هو عبارة عن موضوع من الموضوعات وليس حكمًا من الأحكام، فهو يذكر موضوع الحكم الشرعي لا نفس الحكم الشرعي.
فتقول هكذا في الفرض الثاني: لو انتهى الوقت قبل أن يصلي من جلوس، لفاته الوقت، فالجزاء هنا هو الفوت، وفوات الوقت موضوع من الموضوعات، وليس حكماً من الأحكام، فتقول هكذا: لو انتهى الوقت قبل أن يصلي من جلوس، لفاته الوقت، ولو فاته الوقت لوجب عليه القضاء، فالجزاء هنا هو عن الفوات، فيكون الاستصحاب التعليقي هو استصحاب في الموضوعات.
وقد ذُكر في بحث الاستصحاب التعليقي أنه لو جرى، ولو قيل به، فإنما يقام به في خصوص ما إذا كان جزاء الجملة الشرطية حكماً من الأحكام، أي يكون المستصحب حكماً شرعياً وليس موضوعاً لحكم شرعي.
إذاً، حاكمية الاستصحاب التعليقي في الفرض الثاني من حاكمية الاستصحاب في المسألة السابقة، فيكون جريان البراءة هنا أولى من هناك، إذ لا معارض ولا مناطح هنا.
هذا تمام الكلام في المقام الثالث، وبه يتم الكلام في التطبيق الأول، وهو إجزاء فعل الاضطرار عن الفعل الاختياري.
التطبيق الثاني هو إجزاء الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي، يأتي عليه الكلام.