46/06/22
الدرس (مائتان واثنان): هل دليل الحكم الاضطراري يقيد دليل وجوب القضاء؟
الموضوع: الدرس (مائتان واثنان): هل دليل الحكم الاضطراري يقيد دليل وجوب القضاء؟
تطرقنا في المقام الأول إلى اقتضاء الدليل الاجتهادي لوجوب القضاء. واتضح أنه لا دليل على وجوب القضاء.
ولكن لو افترضنا أن الدليل دل على وجوب القضاء، فحينئذٍ يقع الكلام في أنه: هل يوجد في دليل الأمر الاضطراري ما يكون حاكماً أو مقيداً لإطلاق دليل وجوب القضاء بحيث يحكم بعدم وجوب القضاء وبالإجزاء تقديماً للدليل الثاني وهو دليل الأمر الاضطراري على الدليل الأول وهو دليل وجوب القضاء؟
[الفرض في المسألة]
وفرض المسألة إذ نحن نتكلم في المسألة الثانية، ما لو استمر العذر واستوعب تمام الوقت، فلو صلى المكلف الصلاة من جلوس واستوعب العذر تمام الوقت، وبعد انقضاء الوقت ارتفع العذر، فلو التزمنا بأن الدليل يقتضي وجوب القضاء، أي يقضي الصلاة من قيام، فهل دليل الأمر الاضطراري بالصلاة من الجلوس يقتضي عدم القضاء، فهل يكون مقدماً وحاكماً على دليل وجوب القضاء أو لا؟
فرضان في المسألة:
الفرض الأول: أن نفترض أن دليل الأمر الاضطراري له لسان يقتضي جواز البدار في أول الوقت، هذا أولاً.
الفرض الثاني: نفترض أننا استفدنا الإجزاء من دليل الأمر الاضطراري، أي أن الصلاة من جلوس تجزئ عن الصلاة من قيام.
فإذا افترضنا هذين الفرضين:
أولاً: جواز المبادرة إلى الصلاة من جلوس،
وثانياً: أن الصلاة من جلوس تجزئ عن الصلاة من قيام، فحينئذٍ لا تجب عليه الإعادة.
فلو ارتفع العذر في أثناء الوقت، لا تجب عليه الإعادة، ومن باب أولى لو ارتفع العذر بعد تمام الوقت، لا يجب عليه القضاء.
إذن، بناءً على الفرض الأول، وهو:
أولاً: جواز المبادرة إلى الفعل الاضطراري،
وثانياً: إجزاء الفعل الاضطراري عن الفعل الاختياري،
فحينئذٍ لا تجب الإعادة، وهذا واضح، ولا يجب القضاء، وهذا أوضح.
هذا تمام الكلام في الفرض الأول.
الفرض الثاني: إذا افترضنا أن دليل الأمر الاضطراري لم يكن بلسان يقتضي جواز البداء، وإنما كان بلسان من تعذر عليه القيام في تمام الوقت أو إنه مأمور بالصلاة من جلوس، فلا معنى للبدار، فحينئذٍ لا يمكن أن يستفاد عدم وجوب القضاء بلحاظ عدم وجوب الإعادة، إذ متى ما استفيد من الدليل عدم وجوب الإعادة، فلابد من صرف العناء إلى دليل وجوب القضاء
لنرى أنه في هذه الحالة هل يستفاد منه وجوب القضاء أو لا؟
وحينئذٍ لابد من الرجوع إلى الوجوه الخمسة التي تعرضنا إليها في وجوب الإعادة، لنرى أن الوجوه الخمسة في وجوب الإعادة أو عدم وجوبها، هل تجري أيضاً في وجوب القضاء أو عدم وجوبه أو لا؟.
بل حتى لو جرت الوجوه الخمسة في وجوب الإعادة، فهل أيضاً تجري في وجوب القضاء أو لا؟ فلابد من التعرض للوجوه الخمسة، وسيتضح إن شاء الله تعالى أن الوجه الثالث فقط هو الذي يدل على عدم وجوب القضاء كما يدل على عدم وجوب الإعادة، بينما الوجوه الأربع الأخرى: وهي الأول والثاني والرابع والخامس، لا تدل على عدم وجوب القضاء فيلزم وجوب القضاء حتى لو دل ذلك على عدم الإعادة، لكنها لا تدل على عدم وجوب القضاء.
والوجه الثالث وهو التمسك بعنوان البدلية والقائم مقامية هو الذي استظهرناه، فلا تجب الإعادة ولا يجب القضاء.
ولنشرع في بيان هذه الوجوه الخمسة:
الوجه الأول: ما ذكره المحقق النائيني رحمه الله من التمسك بدعوى الملازمة العقلية بين جعل الأمر الاضطراري بلسان جواز البدار وبين الإجزاء، وعليه فلا معنى لوجوب الإعادة.[1]
فإذا لم تجب الإعادة، هل يمكن التمسك بدعوى الملازمة بين عدم وجوب الإعادة وعدم وجوب القضاء، بحيث يقال بأن جعل الأمر الاضطراري بلسان جواز البدار بالنسبة لمن تعذر عليه القيام في تمام الوقت يستلزم عقلاً عدم وجوب القضاء؟
برهان ذلك: إن القيام لو كان داخلاً في ملاك الصلاة الأدائية على الإطلاق، للزم منه عدم الأمر الاضطراري، أي عدم الأمر بالصلاة الجلوسية، والمفروض عكس ذلك، وهو أن المولى أمر بالصلاة الجلوسية، أي أمر بالفعل الاضطراري. إذن، فاحتمال كون القيام دخيلاً في ملاك الصلاة الأدائية على الإطلاق ساقطٌ للتناقض بين الأمر الاضطراري وعدم الإجزاء، ولا يبقى الاحتمال كون القيام دخيلاً في خصوص الصلاة الأدائية لا مطلقاً، بل في خصوص الصلاة التي يتمكن من القيام فيها، وهذا يتناسب مع الأمر الاضطراري، لذلك يأمره المولى بالصلاة الجلوسية.
وبناءً على ذلك فإن الأمر الاضطراري يستوفي ملاك الأمر الاختياري، يعني أن الصلاة الجلوسية تستوفي ملاك الصلاة القيامية، فإذا استوفت الملاك، فلماذا يجب القضاء؟ ما دام وجوب القضاء فرض تفويت الملاك، والمفروض أن الملاك لم يفوت حتى يقضي.
بناءً على ذلك، الأمر الاضطراري والإجزاء متلازمان كما أن الأمر الاضطراري ووجوب القضاء أو عدم الإجزاء متنافران، فإذا ثبت الأمر الاضطراري، ثبت الإجزاء وانتفى منافره، وهو وجوب القضاء.
خلاصة وزبدة الوجه الأول: الصلاة الاختيارية، أي القيامية، من قيام. هذا القيام، هل هو ملاك مطلق أو لا؟ إذا كان القيام مطلوب بشكل مطلق، فهذا يعني أنه لا معنى للأمر بالصلاة الجلوسية، أما إذا كان هذا ملاك القيام ليس بشكل مطلق، فإن القيام ملاك للصلاة القيامية، فحينئذٍ الأمر بالصلاة الجلوسية يعني أنه يستوفي ملاك الصلاة القيامية، فإذا أمر المولى بالصلاة الجلوسية، فهذا يعني الإجزاء وعدم وجوب القضاء.
ويُجاب بأنه يوجد احتمال ثالث.
إلى هنا، ذكرنا احتماله، وهو: إن القيام أما مطلوب بشكل مطلق أو لا، ليس بشكل مطلق مطلوب في خصوص الصلاة القيامية.
[يوجد احتمال ثالث]
هذان احتمالان، ويوجد احتمال ثالث، وهو أن يكون القيام دخيلاً في بعض مراتب الصلاة الأدائية على الإطلاق في حق المريض والصحيح، وإن لم يكن دخيلاً في بعض مراتبها الأخرى، كصلاة المريض.
إذاً، لاحظ الصورة الثالثة: القيام دخيل في بعض مراتب الملاك دون المراتب الأخرى، وهذه المراتب الأخرى يُطلب فيها الصلاة الجلوسية.
إذا بعض مراتب الملاك تتطلب الصلاة القيامية، وبعض مراتب الملاك تتطلب الصلاة الجلوسية، فحينئذٍ يأمر المولى بالصلاة الجلوسية حفاظاً على ملاك الصلاة الأدائية بلحاظ تلك المراتب الأخرى التي لا يكون القيام دخيلاً فيها أي في ملاكها، ولكنه يأمر أيضاً بالقضاء استدراكاً لتلك المرتبة من الملاك التي قد أخذ القيام فيها.
تصير النتيجة: لابد من الجمع بين الصلاة الجلوسية أداءً والصلاة القيامية قضاءً، فهذا احتمال ثالث، فدعوى الملازمة بين الأمر الاضطراري والإجزاء، وبين عدم الوجوب، إنما تصح على نحو الموجبة الجزئية لا على نحو الموجبة الكلية، خلافاً للميرزا النائيني.
إذن، نتيجة الوجه الأول: وجوب القضاء حتى لو التزم الميرزا النائيني بعدم وجوب الإعادة، على أن هذا المبنى غير تام لدينا وقد ناقشنا ذلك.
الوجه الثاني: أن يتمسك بالإطلاق المقامي لدليل الأمر بالفعل الاضطراري بحجة أن مقتضى الإطلاق المقامي لدليل الأمر الاضطراري هو أن المولى في مقام بيان تمام الوظيفة ولم يذكر الإعادة، فحينئذٍ لا تجب الإعادة، فعدم وجوب القضاء يكون بطريق أولى.
وفيه: هذا لو تم في باب الإعادة فإنه لا يتم في باب القضاء، باب الإعادة يعني ارتفاع العذر أثناء الوقت، وباب القضاء يعني ارتفاع العذر بعد تمام الوقت، فهذا لا يتم لماذا؟ لأن الملحوظ في هذا التقريب إنما هو الوظيفة الأولية للمكلف بلحاظ الوقت لا بلحاظ ما بعد تمام الوقت لكي يشمل القضاء.
نعم، لو استظهرنا أن المولى في مقام بيان تمام وظائف المكلف سواء في أثناء الوقت أو في خارج الوقت، فهو في مقام بيان وجوب الإعادة في الوقت ووجوب القضاء خارج الوقت ولم يبين، فحينئذٍ يمكن التمسك بالإطلاق المقامي لنفي وجوب الإعادة ولنفي وجوب القضاء.
وهذا لا شاهد عليه، أقصى ما يمكن الاستفادة من الإطلاق المقامي هو أن المولى في مقام بيان تمام وظيفة المكلف الفعلية، لا الشأنية، ووظيفته الفعلية الصلاة الأدائية، وليس الصلاة القضائية.
إذن، الوجه الثاني لا يستفاد منه عدم وجوب القضاء، فنتمسك بإطلاق وجوب القضاء.
إذن، الوجه الأول والثاني لا يدلاّن على نفي وجوب القضاء.
الوجه الثالث: من الوجوه الخمسة هو التمسك بعنوان البدلية والقائم مقامية والتنزيل، أي أن الصلاة من جلوس منزلة منزلة الصلاة من قيام وتقوم مقام الصلاة من قيام، أي أن المولى نزل الفعل الاضطراري كالصلاة من جلوس منزلة الصلاة من قيام، وهي الفعل الاختياري.
إذن، يكون الفعل الاضطراري واجداً لملاك الفعل الاختياري، فلا تجب الإعادة فضلاً عن القضاء، وهذا تام بحسب الأدلة إثباتاً، إذ نستظهرنا من أدلة الحكم الاضطراري البدلية والقائم مقامية والتنزيل.
الوجه الرابع: من الوجوه الخمسة ما ذكره المحقق العراقي.[2] من أن إثبات الإجزاء من ظهور الأمر في التعيين، حيث ادعى أن ظهور الأمر لا يناسب إلا مع الإجزاء بملاك التفويت.
هذا تقدم سابقاً أنه لا يحكم العاقل بعدم جواز تفويت ملاك المولى إلا إذا أمر المولى، فيستفاد من أمر المولى بتفويت الملاك أن هذا الأمر تعيني، فيستفاد من أمره بالصلاة الجلوسية أن هذا أمر تعيني وإن فوت ملاك الصلاة القيامية فهذا أمر تعيني، فيستفاد هناك من المحقق العراقي عدم وجوب الإعادة، فيقال إنه يستفاد أيضاً عدم وجوب القضاء.
ويجاب عليه بأن هذا التقريب الرابع لو تم في ارتفاع العذر أثناء الوقت، أي عدم وجوب الإعادة، فهنا في المقام لا يتم.
ومقامنا ارتفاع العذر بعد تمام الوقت، أي عدم وجوب القضاء.
والسر في ذلك: أنه لا يتم هنا لأن الأمر بالصلاة الجلوسية في موطن بحثنا، وهو انتفاء العذر بعد تمام الوقت، أمر تعيني. لأنه في أثناء الوقت لا يمكنه إلا الصلاة من جلوسه، فيتوجه إليه أمر واحد، لأن المفروض أن العذر قد استوعب تمام الوقت والمكلف غير متمكن من الصلاة القيامية في أثناء الوقت، فيتعين كون الأمر بالصلاة الجلوسية تعيينياً، دون أن يضر ذلك بوجوب القضاء أو عدم وجوبه.
بخلاف الأمر هناك في ارتفاع العذر في أثناء الوقت، فهناك لو قيل بوجوب الإعادة أو قيل بالإجزاء بملاك استيفاء تمام الملاك، يكون أمر تخييري. يعني هو مأمور بالصلاة الجلوسية، وهي أحد عدلي الواجب، ومأمور أيضاً بالصلاة القيامية، التي هي العدل الآخر للواجب، لأنه يعني يصلي من جلوس عند العذر، ويصلي من قيام بعد ارتفاع العذر، وكلاهما في أثناء الوقت، صارت الصلاة الجلوسية واجبة بالوجوب التخييري، لا الوجوب التعيني.
بخلاف ما نحن فيه، إذا استوعب العذر تمام الوقت، تصير الصلاة من جلوس أمرها تعيني ولا بأس بالالتزام بالوجوب التعيني للصلاة الجلوسية في الوقت، وهذا لا يعني عدم وجوب القضاء خارج الوقت، فهنا يعقل توجه الأمر بماذا؟ بالقضاء.
الوجه الخامس: والأخير وهو المتحصل من كلمات المحقق الأصفهاني في "نهاية الدراية"[3] .
وحاصله: أنه على تقدير الالتزام بوجوب الإعادة وعدم الإجزاء، إنما يكون لو كان دليل الأمر الاختياري أمراً بتحصيل الخصوصية كخصوصية القيام في الصلاة القيامية، لأن الخصوصية تعني الصلاة القيامية، والمفروض أنه لا يوجد أمر بالخصوصية، أي الصلاة القيامية، بل يوجد أمر بنفس الخصوصية، أي القيام.
فتكون النتيجة: إن الدليل إنما دل على وجوب الخصوصية، يعني الصلاة القيامية، ومدلول الدليل يكون هكذا: مدلول الدليل غير محتمل، وما هو محتمل ليس مدلولاً للدليل. ما المحتمل هو نفس الخصوصية القيام، هذا غير مدلول الدليل. ومدلول الدليل الصلاة القيامية، هذا غير محتمل.
والجواب: هذا لو تم في باب الإعادة فإنه لا يتم في باب القضاء.
لأن في باب القضاء، إذن أدلة "أقضي ما فات كما فات"[4] . فيلتزم بأن الواجب هو الاتيان بما فات حتى لو كان الفائت هو الخصوصية.
فإذا كان هذا اللسان "أقضي ما فات كما فات" لا ينحصر بخصوص الصلاة القيامية، يشمل الصلاة القيامية ويشمل أيضاً القيام. وهذا بخلاف المسألة السابقة.
إذن نحن نريد إثبات وجوب القضاء بدليل "أقضي ما فات كما فات"، وهذه تطبق على العموم، سواء انطبق على الخصوصية، يعني نفس القيام، أو على ذي الخصوصية، كالصلاة القيامية.
وبالتالي يجب القضاء حتى بناءً على الوجه الخامس للمحقق الأصفهاني إذ يشمل القضاء، وهذا إذ نتمسك بـ "أقضي ما فات كما فات".
اتضح أن هذه الوجوه الخامسة لإثبات الإجزاء، لو تمت في باب الإعادة فإنها لا تتم في باب القضاء، ولا يتم إلا الوجه الثالث، وهو التمسك بإطلاق البدلية والتنزيل.
هذا تمام الكلام في المقام الثاني.
المقام الثالث: إذا ما ثبت المقام الأول، إطلاق دليل وجوب القضاء، وما ثبت في المقام الثاني، وهو تقييد وجوب القضاء وحاكمية الدليل عليه.
المقام الثالث: التمسك بالأصل العملي، يأتي عليه الكلام.