« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

46/06/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائتان): الاعتراض الثاني على جريان البراءة

الموضوع: الدرس (مائتان): الاعتراض الثاني على جريان البراءة

 

قلنا: لو افترضنا عدم قيام دليل اجتهادي على جزئية الفعل الاضطراري عن الفعل الاختياري، فحينئذ تصل النوبة إلى الأصول العملية.

وقد ذهب صاحب الكفاية رحمه الله إلى جريان البراءة الشرعية، إذ أن وجوب إعادة الصلاة تكليفي، والشك في الإعادة شك في التكليف، وهو موضوع إجراء البراءة الشرعية. [1]

وقد اعترض المحقق العراقي على ذلك بأن هذا مجرى لأصالة الاشتغال، وقد أجبنا عنه حينما تطرقنا إلى الاعتراض الأول وجوابه.

اليوم: الاعتراض الثاني إن البراءة ممنوعة، فهي معارضة بجريان الاستصحاب التعليقي، والاستصحاب مقدم وحاكم على البراءة، وصاحب الكفاية رحمه الله يرى حجية الاستصحاب التعليقي، فما هو الاستصحاب التعليقي؟

[مثالان لتوضيح معنى الاستصحاب التعليقي]

ولنضرب مثالين لتوضيح معنى الاستصحاب التعليقي، ثم بعد ذلك نشرع في بيان الاعتراض الثاني.

المثال الأول: العصير العنبي إذا غلى ولم يذهب ثلثه حرمة، فهنا عندنا حكم تنجيزي وحكم تعليقي. الحكم التنجيزي جواز تملك العنب والعصير العنبي، والحكم التعليقي أن العصير العنبي إذا غلى ولم يذهب ثلثه حرمة، يعني لو غلى لحرم، فإذا تحول العنب إلى زبيب وقد غلى ووصل إلى درجة الغليان ولم يذهب ثلث العصير الزبيبي، فهل يحرم شربه أم لا؟

فهنا يوجد حكم تنجيزي يجري فيه الاستصحاب، وهو قابلية التملك، فكما أن العنب يُملك، كذلك أيضاً الزبيب يُملك بلا شك، لكن وقع الكلام في الحكم التعليقي، فلو شككنا في حرمة شرب العصير الزبيبي، هل يمكن أن نستصحب حرمة شرب العصير العنبي الثابتة سابقاً قبل تحول العنب إلى زبيب ونثبت حرمة شرب العصير الزبيبي؟

هنا خلاف بين الفقهاء، بعضهم يقول لا يجري الاستصحاب التعليقي، وبعضهم يرى جريان الاستصحاب التعليقي.

المثال الثاني: الذهب والفضة المسكوكان بسكة المعاملة إذا بلغا النصاب وجبت الزكاة فيهما، فهنا يوجد حكم تنجيزي وهو جواز اقتناء الذهب والفضة المسكوكين، ويوجد حكم تعليقي وهو إذا بلغ النصاب وجبت الزكاة.

سؤال: فلو تحول الذهب والفضة المسكوكين بسكة المعاملة إلى ذهب خالص وفضة خالصة، فأذيب وخرج عن سكة المعاملة، وشككنا في بقاء الحكم، فهل يبقى أم لا؟

الجواب: أما الحكم الأول وهو التنجيزي، وهو جواز الاقتناء والتملك، فهذا يبقى في الحالة السابقة والحالة الماحية، ولكن هل يبقى الحكم التعليقي، أي: أن هذا الذهب الذي ذاب والفضة لم يسبك بسكة المعاملة إذا بلغ ثمنه قيمة النصاب، هل تجب فيه الزكاة أم لا؟

إذا لاحظنا قضية الاستصحاب التعليقي، أن الحكم يُعلّق على شرطٍ، وهذا الشرط غير متحقق، ثم يطرء طارء يغير الطبيعة ويتحقق الشرط، فهنا كان عندنا قضية من دون تحقق الشرط: عندنا عنب وما غلى، وعندنا ذهب وفضة مسكوكين بسكة المعاملة وما وصلوا إلى النصاب، فالشرط لم يتحقق.

ثم بعد ذلك طرء طارء، وهو تحول العنب إلى زبيب وتحول الدنانير والدراهم المسكوكة إلى ذهب وفضة خالصين، لكن تحقق الشرط، فالزبيب قد غلى والذهب قد بلغ النصاب، فهل يبقى الحكم إذا تحقق الشرط أم لا؟ يعني هل يبقى حكم حرمة شرب العصير العنبي، وهل يبقى حكم وجوب الزكاة عند تحقق النصاب أم لا؟

ما هو موطن بحثنا؟ موطن بحثنا رفع الاضطرار في أثناء الوقت، يعني في بداية فرض الظهر كان يصلي من جلوس في أثناء الوقت ارتفع، فلو صلى من جلوس ثم ارتفع العذر في الأثناء، هل يجب عليه الإعادة أم لا؟

قال صاحب الكفاية: لا يجب، تجري البراءة الشرعية لأنه شك في وجوب الإعادة، وهذا شك في التكليف، فيكون مجرى للبراءة الشرعية.

هذا الاعتراض الثاني يقول: قبل جريان هذه البراءة توجد قضية متيقنة، وما هي هذه القضية المتيقنة؟ أنه لو كان هذا المكلف مريضاً ولا يستطيع أن يصلي من جلوس، لكن ارتفع عذره قبل أن يأتي بالصلاة الجلوسية، فحينئذٍ يجب عليه الإتيان بالصلاة القيامية ولا يجتزء بالصلاة الجلوسية.

فإذا ما هي القضية المتيقنة المسبقة؟

لو ارتفع عذره قبل الإتيان بالصلاة الاضطرارية والجلوسية.

هو الآن أذن أذان الظهار، وكان يرى نفسه معذوراً، صلى من جلوس، ثم ارتفع عذره. لاحظ تغيرت الحالة الآن استطاع أن يصلي من قيام. هنا، الآن، هل تبقى القضية السابقة؟ هو الآن ارتفع عذره. هل تبقى القضية السابقة أنه لو ارتفع عذره قبل الاضطرار فإنه يجب عليه الصلاة القيامية؟ لا تنقض اليقين بالشك، يستصحب الحالة السابقة، وبالتالي يحكم بعدم الإجزاء، ولا بد أن يعيد الصلاة.

إذن، الاعتراض الثاني على إجراء البراءة مفاده إن جريان البراءة هنا ممنوع، لأن الاستصحاب التعليقي حاكم على البراءة، وذلك بإجراء الاستصحاب بصيغة تعليقية بناءً على ما هو مختار صاحب الكفاية وجملة من المحققين من إمكان إجراء الاستصحاب التعليقي، وذلك بأن يقال: بأن المكلف المريض في أول الوقت والذي صلى من جلوس، ثم ارتفع مرضه بعد أن انتهى من الصلاة، هذا المريض لو ارتفع عذره قبل أن يأتي بالصلاة الجلوسية بساعة، لوجب عليه الصلاة القيامية بلا إشكال.

وهذه القضية الشرطية لو ارتفع عذره قبل الإتيان بالصلاة الجلوسية، وجب الصلاة من قيام، كان يعلم بها المكلف وقد كانت صادقة، إذن فيستصحبها وتثبت هذه القضية الشرطية بالاستصحاب، إذ أنه كان سابقاً، بحيث لو ارتفع العذر، لوجبت عليه الصلاة القيامية، والآن ارتفع عذره كما كان، عذره قد ارتفع قبل أن يأتي بالصلاة الجلوسية، فيجري الاستصحاب.

إذاً الآن ارتفع عذره بالوجدان، وَأَمَّا القضية السابقة فتثبت بالاستصحاب، فيتحقق شرط هذه القضية الشرطية، فيجب عليه أن يصلي من قيام، فتكون النتيجة عدم إجزاء الصلاة الجلوسية عن الصلاة القيامية، وهذا الاستصحاب إذا جرى يكون حاكمًا على أصالة البراءة نظرًا لتقدم دليل الاستصحاب على البراءة، إما أن الاستصحاب أمارة كما يقول السيد الخوئي، أو لأن الاستصحاب أصل عملي محرز كما يقول مشهور الأصوليين، فيقدم على الأصل العملي غير المحرز كالبراءة، واضح إن شاء الله.

هذا تمام الكلام في بيان الإشكال.

وفيه: أن هذا الإشكال يتم لو كنا نقطع ونعلم بثبوت هذه القضية مسبقًا على جميع الافتراضات والتقديرات، لكنها على بعض التقديرات تتم وعلى تقديرات أخرى لا تتم، فلا توجد قضية متيقنة مسبقة حتى نستصحبها، هذا خلاصة الجواب.

إذن نحن ننكر العلم والقطع بهذه القضية الشرطية من أول الأمر.

توضيح ذلك:

إن هذا المكلف لو ارتفع مرضه قبل الصلاة الجلوسية، لتوجه إليه خطاب بالصلاة القيامية بناءً على الصورة الرابعة، أي صورة عدم الإجزاء. ولكن بناءً على الصورة الأولى، أي صورة الإجزاء، وهو أن العمل الاضطراري يفي بتمام ملاك العمل الاختياري، فيكون حينئذٍ الخطاب الذي توجه إلى المكلف قبل مرضه وبعد مرضه واحد، وهو الأمر بالجامع، وليس الأمر بخصوص الصلاة القيامية.

فهذا المكلف بناءً على الصورة الأولى، وهي الإجزاء، مكلف بالجامع بين الصلاة الاختيارية حين الاختيار والصلاة الاضطرارية حين الاضطرار.

وهذا الخطاب بالجامع بين الصلاة الاختيارية والاضطرارية ثابت من أول الأمر؛ قبل ارتفاع المرض هذا الخطاب ثابت، ويستمر من قبل المرض إلى ما بعد المرض، فلا توجد قضية متيقنة تعليقية حتى نستصحبها.

غاية الأمر أنه كان بإمكان المكلف تطبيق هذا الأمر قبل ارتفاع المرض على الصلاة الجلوسية، وكان يمكنه أن ينتظر ويطبق هذا الجامع بعد ارتفاع المرض على الصلاة القيامية، لكن بعد ارتفاع المرض وقد صار المكلف مختارًا، فحينئذٍ ينحصر هذا الجامع في خصوص الصلاة القيامية، ولا يمكنه أن يطبقه على الصلاة الجلوسية والاضطرارية لأنه صار قادرًا على القيام.

وهذا أمر وهو الأمر بالجامع يختلف عن تعلق التكليف بخصوص الصلاة القيامية، كما افترض في الاعتراض الثاني، إذن بابه باب انحصار الجامع في بعض الأفراد، وهو الفرد القيامي بعد ارتفاع العذر، ولا يضر هذا الانحصار بكون الأمر على الجامع قبل طروء الاختيار وبعده، وهذا لا يعني أن الأمر يتوجه إلى خصوص الصلاة الاختيارية والقيامية كما فرض في أصل الاعتراض الثاني.

بناءً على توجه أمر بالجامع، ماذا نستصحب؟

فهل نستصحب حدوث أمر شرعي بالصلاة القيامية على تقدير ارتفاع الاضطرار، أم إننا نستصحب انحصار تطبيق الجامع على خصوص الصلاة القيامية والفرد الاختياري على فرض ارتفاع العذر؟

يوجد احتمالان:

أما الاحتمال الأول: إجراء الاستصحاب، فنستصحب حدوث أمر شرعي بخصوص الصلاة القيامية.

وفيه أنه لا يوجد يقين سابق بالصلاة، لا يوجد يقين سابق به بالخصوص، إذ على فرض الإجزاء، خصوصًا بملاك الاستيفاء، وأن الصلاة الجلوسية تستوفي تمام ملاك الصلاة القيامية، حينئذٍ لا يكون الواجب من أول الأمر هو الصلاة القيامية، بل الواجب من أول الأمر هو الجامع بين الفردين: الصلاة القيامية والجلوسية المقيدتين بحالتين مختلفتين.

الاحتمال الثاني: إن أريد من الاستصحاب استصحاب انحصار الجامع فيه خصوص الصلاة القيامية على فرض ارتفاع الاضطرار، وذلك بتطبيق الجامع على خصوص الفرد الاختياري دون الفرد الاضطراري.

وفيه أن الانحصار تطبيق الجامع على خصوص الصلاة القيامية دون الجلوسية هذا أمر عقلي وليس حكمًا شرعيًا، فليس له أثر مولوي لكي يجري الاستصحاب بلحاظه، بل هو أمر ولازم عقلي من باب تعذر أحد أفراد الجامع، فالصلاة الجلوسية متعذرة، فلا يطبق الجامع عليها بل يطبق الجامع على خصوص الصلاة القيامية، وبالتالي لا معنى لإجراء الاستصحاب.

إذن، الاعتراض الثاني ليس بتام إذ أن جريان الاستصحاب التعليقي فرع ثبوت القضية التعليقية على كل تقدير، وهذه القضية التعليقية تثبت على فرض عدم الإجزاء، وهي الصورة الرابعة، لكنها لا تثبت على فرض الإجزاء كما في الصورة الأولى.

إذن، لا يوجد استصحاب تعليقي، فتجري البراءة الشرعية من دون معارض. فإذا لم يقم دليل اجتهادي على الإجزاء واضطررنا أن نرجع إلى الأصول العملية، فحينئذٍ تجري البراءة الشرعية، ولا تجب إعادة الصلاة الاضطرارية بأن يأتي بالصلاة من قيام فيما إذا ارتفع العذر في الأثناء.

النتيجة النهائية: الآن انتهينا من المسألة الأولى. ما هي المسألة الأولى؟ إذا جاء بالأمر الاضطراري كالصلاة من الجلوس ثم ارتفع العذر في الأثناء، فهل تجب الإعادة من قيام أو لا؟

قلنا بمقتضى الدليل الاجتهادي نحكم بالإجزاء، واستظهرنا التقريب الثالث وهو القائم مقامية والبدلية فيظهر من الأدلة الشرعية أن الصلاة الجلوسية بدل عن الصلاة القيامية وتقوم مقامها وتنزل منزلتها، هذا بالنسبة للدليل الاجتهادي.

ولو أنكَر هذا الدليل الاجتهادي وقال: لا يوجد إطلاق للدليل الاضطرار يوجب الإجزاء، فحينئذٍ تنتقل النوبة إلى الأصول العملية، ونحكم أيضًا بالإجزاء؛ لأن المورد فيه شك في التكليف، نشك في وجوب الإعادة، فحينئذٍ تجري البراءة الشرعية.

هذا تمام الكلام في المسألة الأولى.

المسألة الثانية: لو ارتفع العذر بعد خروج الوقت، يأتي عليه الكلام.


logo