46/06/15
الدرس (مائة وتسعة وتسعون): مناقشة الفرض الثاني للمحقق العراقي (ره)
الموضوع: الدرس (مائة وتسعة وتسعون): مناقشة الفرض الثاني للمحقق العراقي (ره)
قلنا: إذا فقد الدليل الاجتهادي على الإجزاء، فما هو مقتضى الأصل العملي؟
قال صاحب الكفاية: مقتضى الأصل العملي هو جريان البراءة الشرعية، وناقشه المحقق العراقي رحمه الله، وافترض فرضين، وعلى كلا الفرضين خلص إلى جريان أصالة الإجتهاد وعدم جريان أصالة البراءة. [1]
وقد ناقشنا الفرض الأول وذكرنا فيه ثلاثة مباني، وعلى المبنى الأول والثاني تجري البراءة الشرعية، وعلى المبنى الثالث كل على مبنى، فعلى مبنى الشهيد الصدر تجري البراءة، وعلى مبنى المحقق العراقي وصاحب الكفاية تجري أصالة الاجتهاد.
اليوم: إن شاء الله نناقش الفرض الثاني للمحقق العراقي، وسيتضح أن هناك ثلاثة مباني أيضًا موجودة بناءً على الفرض الثاني، وبناءً على هذه المباني الثلاثة، لا يتم كلام المحقق العراقي، وهو أن الشك في التكليف نشأ من الشك في القدرة.
الفرض الثاني:
قال الشيخ ضياء الدين العراقي: أنه لو نشأ احتمال الإجزاء من احتمال كون باقي الملاك غير قابل للتدارك مع العلم ببقاء مقدار من الملاك بدرجة الإلزام.
فقال الشيخ العراقي: أن الشك في التكليف في هذا المورد من الشك في القدرة، وعند الشك في القدرة تجري أصالة الاشتغال، لا أصالة البراءة.
إذن، الفرض الثاني مفاده:
إن من جاء بالعمل الاضطراري كالصلاة من جلوس، قد جاء بجزء من ملاك الصلاة، لكن بقي مقدار من الملاك وهذا المقدار ملزم وغير قابل للتدارك، فالإتيان بالفعل الاضطراري كالصلاة الجلوسية لا يتدارك به الجزء الباقي من الملاك الملزم الموجود في الصلاة القيامية.
وهذه هي الصورة الرابعة من الصور الأربعة المتقدمة، وفيها ثلاثة مباني:
المبنى الأول: أن يلتزم في هذا الفرض وهو الإتيان بجزء الملاك وبقاء جزء من الملاك ملزم وغير قابل للتدارك، فيلتزم في هذا الفرض بتعلق الأمر بالجامع بين الفعل الاختياري والفعل الاضطراري، والترخيص في تطبيق الجامع على الفعل الاضطراري، على الرغم من أنه يوجب تفويت جزء من الملاك الملزم، فالمولى يأمر بالجامع ويقول: يجب عليك الصلاة التي تنطبق على الصلاة القيامية والصلاة الجلوسية، فالجامع وجوب الصلاة كما ينطبق على الصلاة القيامية، كذلك ينطبق على الصلاة الجلوسية، فيتحقق الإجزاء.
سؤال: كيف يتحقق الإجزاء مع أن الإتيان بالصلاة الاضطرارية كالصلاة من جلوس يفوت جزءًا من الملاك الملزم، وهو غير قابل للتدارك أيضاً؟
الجواب: نفترض وجود مصلحة في إطلاق العنان للمكلف بتطبيق الجامع على الصلاة القيامية والصلاة الجلوسية، وبمصلحة إطلاق العنان يتدارك مفسدة تفويت الملاك الملزم. فهنا، وإن فات جزء من الملاك الملزم وكان غير قابل للتدارك، لكن مفسدة فوات الملاك الملزم تتدارك بافتراض وجود مصلحة في تطبيق الجامع على الصلاة الاضطرارية والصلاة الاختيارية.
فيرجع هذا المبنى الأول إلى الفرض الأول الذي ذكرناه. ما هو الفرض الأول؟ أن تكون الصلاة الاضطرارية وافية بكل الملاك أو جل الملاك. فتأتي المباني الثلاثة التي ذكرناها في الفرض الأول. فعلى المبنى الأول والثاني تجري البراءة، وعلى المبنى الثالث يعتمد على مبنى الفقيه في دوران الأمر بين التعيين والتخيير. فهل تجري البراءة، كما يقول الشهيد الصدر، أو تجري أصالة الاشتغال؟
إذن، بناءً على افتراض وجود جامع، يكون حال المبنى الأول حال الفرض الأول وهو كون الإجزاء على أساس استيفاء الملاك، فإنه وإن لم يستوفى الملاك هنا، لكنه تم استيفاء ما به يتدارك مفسدة التفويت.
إذن بناءً على المبنى الأول يتحقق الإجزاء ولا تجري أصالة الاشتغال، ولا يكون المورد من موارد الشك في القدرة كما يقول المحقق العراقي.
المبنى الثاني: مبنى المحقق العراقي رحمه الله، فإنه كان يفرض أنه بالإمكان أن يأمر المولى بالتعييني بالصلاة الجلوسية الاضطرارية لرفع حكم العقل بقبح التفويت. وقد مر بحثه، أن العقل يحكم بقبح التفويت إلا إذا دل دليل شرعي وأجاز هذا التفويت.
وهذا معنى أن المولى لا يريد التحفظ حقيقة على الصلاة القيامية فيما إذا أتى العبد بالصلاة الاضطرارية، إذ لا يعقل أن يأمر المولى بالصلاة الجلوسية تعيينًا، ومع ذلك يريد التحفظ على الصلاة القيامية، فيكون عدم الإتيان بالصلاة الجلوسية قيدًا في وجوب الصلاة القيامية.
إذن وجوب الصلاة القيامية معلوم على كل حال، ففي فرض عدم الإتيان بالصلاة الجلوسية، تجب الصلاة القيامية، لكن وجوب الصلاة القيامية في فرض الإتيان بالصلاة الجلوسية غير معلوم، إذ لعل الملاك الفائت غير قابل للاستيفاء، فتجري البراءة عنه، ولا مجال لحديث الشك في القدرة، لأن الشك في القدرة إنما يكون مجرى لأصالة الاشتغال إذا كان الشك في القدرة على ما علم بدخوله في العهدة.
يقولون: الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، يعني: أنت تعلم وتقطع باشتغال ذمتك بالتكليف، فلابد أن تقطع بفراغ ذمتك من التكليف، ففرق بين الأمر المولوي وبين الغرض المولوي، والمهم هو سقوط الأمر المولوي بالامتثال، وإن كان لم يحصل الغرض المولوي، فيما إذا لم يأمر المولى بلزوم تحصيل غرضه.
مثال ذلك: الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر هذا هو الغرض من الصلاة، فإذا قال المولى: إذا صليت الصلاة بالكيفية الخاصة من ركوع وسجود وقيام من أجزاء وشرائط فرغت ذمتك، ولم يذكر قيد الانتهاء عن الفحشاء والمنكر، وصلى المكلف صلاة تامة الأجزاء والشرائط لكن لم يأتي بالغرض كما لو كان يصلي وينظر للأجنبية، ففي هذه الحالة تفرغ ذمته ولا يجب عليه إعادة الصلاة، وإن لم يحقق الغرض المولوي لأن المولى لم يتصدى إلى بيان لزوم تحصيل غرضه، فلا يكون الغرض داخلاً في عهدة المكلف، فما يدخل في عهدة المكلف إنما هو الواجب فقط، وهو الصلاة القيامية، ولا شك في قدرته عليه، وإنما المشكوك في قدرته عليه هو الغرض، والغرض لا يدخل في العهد إلا بالمقدار الذي يتصدى المولى لتحصيله، فالتفويت القطعي جائز، فكيف بالتفويت الاحتمالي.
إذن بناءً على المبنى الثاني لا يكون المورد من موارد جريان أصالة الاشتغال، ومن موارد الشك في القدرة كما يقول المحقق العراقي، بل بناءً على المبنى الثاني تجري البراءة.
المبنى الثالث: أن يقال إنه بناءً على فوت الملاك الملزم بالصلاة الجلوسية، لا يعقل الأمر، لا بالجامع ولا بخصوص الصلاة الجلوسية، لأن كل واحد منهما يوجب تفويت الملاك.
والسر في ذلك:
أن الفرض الثاني مفاده أنه لو جاء بالصلاة الجلوسية فإنه يفوت الملاك الملزم الموجود في الصلاة القيامية، ولا يمكن تدارك هذا الملاك الفائت. فحينئذ، لا يعقل توجه أمر بخصوص صلاة الجلوسية، لأنها تفوت الملاك الملزم، ولا يعقل أيضًا الأمر بالجامع، لأن الجامع كما ينطبق على الصلاة القيامية، ينطبق أيضًا على الصلاة الجلوسية التي تفوت الملاك الملزم، والذي لا يمكن جبره ولا يمكن تداركه.
فإذاً، لا يمكن توجه أمر لا بالجامع ولا بخصوص الصلاة الاضطرارية، هذا معناه أن المولى لا يرضى بالتفويت. إذن، يأخذ المولى عدم الإتيان بالصلاة الجلوسية قيدًا في الواجب الاختياري، فيقول هكذا: أمرك بالصلاة القيامية المقيد بأن لا تكون قبلها صلاة جلوسية.
بينما لو لم يكن الإتيان بالصلاة الجلوسية موجبًا لعدم إمكان تدارك باقي الملاك، فإن المولى يأمر بالصلاة القيامية بلا قيد، وما نحن فيه من هذا القبيل فيكون من باب دوران الأمر بين الأقل والأكثر.
فوجوب الأقل معلوم وهو أصل الصلاة القيامية، والقيد مشكوك، ما هو القيد؟ تقيدها بعدم الإتيان بالصلاة الجلوسية، فتجري البراءة عن القيد ويتنجز عليه المطلق، يعني تجب عليه الصلاة القيامية مطلقاً، سواء سبقتها الصلاة الجلوسية أو لم تسبقها الصلاة الجلوسية، كما هو الحال في سائر موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر، فنتمسك بالأقل وتجرى البراءة عن وجوب الأكثر.
فهنا يوجد احتمالان:
الاحتمال الأول: أن الصلاة القيامية مطلقة وغير مقيدة.
الاحتمال الثاني: أن الصلاة القيامية مقيدة بعدم الإتيان بالصلاة الجلوسية قبلها.
إذن، الصلاة القيامية معلومة قدر متيقن وجوب الصلاة القيامية، والمشكوك فيه هو القيد الزائد، فالأقل هو وجوب الصلاة القيامية، والأكثر هو تقييد الصلاة القيامية بعدم الإتيان بصلاة جلوسية قبلها، فتجري البراءة عن هذا القيد الزائد، فتكون النتيجة وجوب الصلاة القيامية مطلقاً.
فتكون النتيجة:
سؤال: الإجزاء أو عدم الإجزاء؟
الجواب: تكون النتيجة عدم الإجزاء، يعني لو جاء بصلاة جلوسية قبل الصلاة القيامية فإنه لا يوجد ماذا؟ فإنه حينئذٍ لا يتحقق الإجزاء.
هنا، في النتيجة، يلتقي المبنى الثالث مع مبنى المحقق العراقي في عدم الإجزاء، لكن يختلفان فيما أوجب الإجزاء، المحقق العراقي يقول: إن الذي أوجب الإجزاء هو الشك في قدرة المكلف فتجري أصالة الاشتغال، بينما هذا المبنى الثالث يقول: إن الذي أوجب الإجزاء هو دوران الأمر بين الأقل والأكثر، فجرت البراءة عن الأكثر، فنلتزم بوجوب الأقل، وهو وجوب الصلاة القيامية مطلقاً.
طبعاً هذا لو كان ملتفتاً من أول الأمر، أما لو تخيل أنه سوف يبقى معذوراً إلى آخر الوقت، يعني هو ما يستطيع أن يقوم، فصلى من جلوس إلى آخر الوقت ما يستطيع أن يقوم، في الأثناء قيل له: هذا جهاز إذا وضعته على بدن، تستطيع أن تقوم وتصلي من القيام، فارتفع العذر في الأثناء بعد أن صلى سابقاً صلاة جلوسية وكان قد توقع أن العذر يستمر إلى آخر الوقت.
فتأتى بالصلاة الجلوسية، ثم ارتفع عذره قبل انتهاء الوقت. فحينئذٍ يشك في وجوب الصلاة القيامية عليه بعد ارتفاعه. فهنا يصبح مورد ماذا؟ الشك في وجوب زائد، لأنه عند عذره كان التكليف الفعلي أن يصلي صلاة جلوسية، وقد جاء بتكليفه، وبعد ارتفاع العذر، يشك فعلاً في توجه تكليف زائد عليه، وهو الصلاة القيامية. فتجري البراءة الشرعية، لأن مورد جريان البراءة هو الشك في التكليف. إذ على تقدير كون الواجب هو المقيد، فيكون قد خرج عن محل ابتلائه وسقط بالعجز فمن حين تنبهه والتفاته يشك في الوجوب المطلق للصلاة القيامية، وينفي الوجوب المطلق للصلاة القيامية بجريان أصالة البراءة الشرعية.
ولا مجال لحديث الشك في القدرة الذي ذكره المحقق العراقي، إذ أن جريان أصالة الاشتغال في موارد الشك في القدرة محله وموضوعه ما لو تعين الواجب، يعني علم وقطع بدخول الواجب في ذمته، وشك في القدرة عليه وعدمها، وليس موره ما إذا تردد الواجب بينما يقدر عليه وما لا يقدر عليه.
هذا تمام الكلام في جواب الفرض الثاني للمحقق العراقي.
واتضح أن الفرض الأول والفرض الثاني للمحقق العراقي كل من الفرضين فيهما ثلاثة مباني، وأن كلامه ليس بتام، فإذا إشكاله على صاحب الكفاية ليس بتام، فالاعتراض الأول على جريان البراءة وأن الأصل العملي عند عدم دليل اجتهادي على الإجزاء هو البراءة، هذا تام وصحيح كما أفاده صاحب الكفاية، ولا يتم الاعتراض الأول الذي ذكره المحقق العراقي.
الاعتراض الثاني يأتي عليه الكلام.