« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

46/06/14

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائة وثمانية وتسعون): مقتضى الأصل العملي عند عدم وجود دليل اجتهادي على الإجزاء

الموضوع: الدرس (مائة وثمانية وتسعون): مقتضى الأصل العملي عند عدم وجود دليل اجتهادي على الإجزاء

 

مقتضى الأصل العملي عند عدم وجود دليل اجتهادي على الإجزاء

لو افترضنا قيام دليل اجتهادي يقتضي الإجزاء، كما لو كان للأمر الاضطراري إطلاق نستفيد منه قيام الصلاة الجلوسية مثلاً مقام الصلاة القيامية، فاستفدنا البدلية والقائم مقامية من الدليل الاجتهادي وهو ما رجحناه، فحينئذٍ نلتزم بالإجزاء لأننا استفدنا من الأوامر الاضطرارية كون الاضطرار بدلاً عن الاختيار.

ولكن لو افترضنا عدم قيام دليل اجتهادي يدل على إجزاء الحكم الاضطراري عن الحكم الاختياري، فحينئذٍ تصل النوبة إلى الأصل العملي، فما هو مقتضى الأصل العملي في المسألة؟

[مقتضى الأصل هو البرائة على رأي صاحب الكفاية]

ذكر صاحب الكفاية رحمه الله أن مقتضى الأصل العملي هو البراءة عن وجوب الإعادة.[1]

فمن صلى من جلوس ثم ارتفع العذر، وشك هل يجب عليه أن يعيد الصلاة من قيام أو لا؟ فهذا شك في التكليف الزائد، وهو مقتضى لجريان البراءة الشرعية.

وما أفاده صاحب الكفاية تام لا غبار عليه، فتكون النتيجة هي الإجزاء والاكتفاء بامتثال الأمر الاضطراري، وإذا شك في وجوب الإعادة، أي الإتيان بالأمر الاختياري، فإن البراءة الشرعية تجري ولا تجب عليه الإعادة.

فما أفاده صاحب الكفاية تام، إذ إن موضوع البراءة وهو الشك في التكليف، أي أصل التكليف، متحقق، فلا تجب الإعادة.

لكن اعترض على صاحب الكفاية باعتراضين:

الاعتراض الأول: ما ذكره المحقق العراقي رحمه الله[2] [3] .

[مفاد إيراد المحقق العراقي]

فقد أورد المحقق الشيخ ضياء الدين العراقي على الآخوند الخراساني، صاحب الكفاية، إيراد.

ومفاده أن احتمال الإجزاء ينشأ من أحد احتمالين وفرضين:

الفرض الأول: إما أن ينشأ احتمال الإجزاء من احتمال وفاء العمل الاضطراري بكل ملاك العمل الاختياري أو بجله وغالبه، بحيث يكون ما عداه أقل من الملاك الإلزامي، أي لا يجب تدارك الباقي.

الفرض الثاني: أن ينشأ الإجزاء من احتمال كون الباقي غير قابل للتدارك بعد العلم ببقاء مقدار من الملاك بدرجة الإلزام.

فهذان فرضان واحتمالان، وللمحقق العراقي كلام في كل من الفرضين.

 

أما الفرض الأول: وهو ما لو نشأ احتمال الإجزاء من احتمال وفاء العمل الاضطراري كالصلاة من جلوس بكل الملاك أو جلّه أي يكفي بكل ملاك الصلاة القيامية أو بأغلب ملاكها، بأن يكون الملاك في الجامع بين الفعل الاختياري والاضطراري، فهناك أمر بوجوب الصلاة إما القيامية أو الجلوسية.

وحينئذٍ يقول المحقق العراقي: يكون مرجع الشك إلى الشك في التعيين والتخيير، إذ لو كان العمل الاضطراري وافياً بالملاك، لكنا حينئذٍ مخيرين بين العمل الاضطراري والعمل الاختياري، وإذا لم يكن العمل الاضطراري وافياً بالملاك، فحينئذٍ يتعين علينا العمل الاختياري، فيدور الأمر بين العمل الاختياري تعييناً كالصلاة القيامية، وبين التخيير بين العمل الاختياري كالصلاة القيامية والعمل الاضطراري كالصلاة الجلوسية، فيدور الأمر بين التعيين والتخيير، يعني بين الصلاة القيامية تعييناً أو الصلاة القيامية تخييراً بينها وبين الصلاة الجلوسية.

[المبنى في دوران الأمر بين التعيين والتخيير]

ومبنى صاحب الكفاية وكذلك مبنى المحقق العراقي في دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو أصالة الاشتغال لا البراءة، فحينئذٍ لا تجري البراءة الشرعية عن التعيين، ونحكم بالتخيير كما عليه مبنى الشهيد الصدر ومشهور الأصوليين المعاصرين، بل مقتضى الأصل عند صاحب الكفاية والمحقق العراقي هو أصالة الاشتغال، يعني يأتي بالصلاة الجلوسية، وإذا ارتفع العذر يأتي بالصلاة القيامية، فلا يكون المورد من موارد جريان البراءة الشرعية بل من موارد جريان أصالة الاشتغال.

هذا بناءً على الفرض الأول إذا كان العمل الاضطراري يفي بكل أو جل ملاك العمل الاختياري.

وأما الفرض الثاني: وهو ما لو نشأ احتمال الإجزاء من احتمال كون باقي الملاك غير قابل للتدارك بعد العلم ببقاء مقدار من الملاك بدرجة الإلزام، فقد ذكر المحقق العراقي رحمه الله أن الشك في التكليف هنا من الشك في القدرة، وفي مثل الشك في القدرة تجري أصالة الاشتغال لا البراءة.

إذاً على كِلا الفرضيين تجري أصالة الاشتغال ولا تجري أصالة البراءة.

[ثلاثة مبان في كلا الفرضين]

لكن في كِلا الفرضيين توجد ثلاثة مبانٍ، وعلى بعض المباني تجري البراءة، وعلى بعض المباني تجري أصالة الاشتغال.

أما الفرض الأول: أي في تصوير حال الحكم الاضطراري على تقدير عدم الإجزاء، وفرض بقاء مقدار معتد به من الملاك لكنه قابل للتدارك، فهنا توجد مبانٍ ثلاثة، على المبنى الأول والثاني تجري البراءة، وعلى المبنى الثالث تجري أصالة الاشتغال، والمباني كما يلي:

[ثلاثة مباني في الفرض الأول]

المبنى الأول: مختار الشهيد الصدر رضوان الله عليه من تعلق الأمر الاضطراري بنحو تعدد الأمر.

فهناك أمران:

الأول أمر بالجامع بين الصلاة القيامية والصلاة الجلوسية.

والثاني أمر بخصوص الحصة الاختيارية، وهي الصلاة القيامية.

فإذا يصبح الأمر بالجامع مقطوعاً به، إذ لو كان الملاك كله في الجامع، فنحن مأمورون بالجامع، ولو كان قسم من الملاك لا يحصل بالجامع، ولا بد فيه من الإتيان بالحصة الاختيارية.

تحقق في المقام أمران:

أحدهما متعلق بالجامع،

والثاني متعلق بالحصة الاختيارية،

فليس المقام من دوران الأمر بين التعيين والتخيير، الذي ليس الأمر فيه بالجامع بحده الجامعي محرزاً، وإنما المقام من موارد القطع بالأمر بالجامع بحده الجامعي، فنحن نحرز الأمر الأول، وهو الأمر بالجامع بين الصلاة القيامية والصلاة الجلوسية، ونشك في أمر زائد، وهو الأمر الثاني المتعلق بخصوص الحصة الاختيارية، أي الصلاة القيامية، فهذا شك في التكليف الزائد، فتجري البراءة عن خصوص الصلاة الاختيارية.

يبقى الأمر الأول الصلاة بالجامع، الأمر بالجامع، وبالتالي إن جاء بالصلاة الجلوسية فقد امتثل الأمر، وتحقيق الإجزاء.

إذاً لا يرتبط المورد بمبحث الأصل في دوران الأمر بين التعيين والتخيير أصلاً.

المبنى الثاني: دعوى تصوير الأمر الاضطراري بافتراض الأمر التخييري بين الأقل والأكثر، فالأقل هو الفعل الاختياري بعد زوال العذر، والأكثر هو الفعل الاضطراري قبل زوال العذر مع الفعل الاختياري بعد زوال العذر.

وبناءً على هذا المبنى، يكون الأمر دائراً بين شقين:

الشق الأول: فرض الإجزاء، وهو كون الأمر ابتداءً بالجامع بين الفعل الاضطراري والاختياري، فهو أمر تخييري بين المتباينين. فإذا جاء بالصلاة القيامية أو الصلاة الجلوسية، فقد جاء بالجامع وتحقق الامتثال.

الشق الثاني: فرض عدم الإجزاء، وهو كون الأمر تخييرياً بين الأقل والأكثر.

طبعاً هذا فرض يفترض أنه دوران بين متباينين. أما الفرض الثاني، فهو فرض عدم الإجزاء، وهو كون الأمر تخييري بين الأقل والأكثر، وهذا معنى أننا نقطع بوجود أمر تخييري، ونقطع بأن أحد عدلي هذا الواجب التخييري عبارة عن الصلاة القيامية مثلاً، ولا ندري إن كان العدل الآخر عبارة عن الصلاة الجلوسية أو عبارة عن مجموع الصلاة الجلوسية والقيامية، أي أننا نحرز وجوب الصلاة القيامية، لكن العدل الآخر هل هو خصوص الصلاة الجلوسية أو مجموع الصلاة الجلوسية والقيامية، هذا مشكوك فيه، فيدور الأمر بين الأقل والأكثر وتجري البراءة عن الزائد.

فإنه كما لو دار أمر أصل الواجب بين الأقل والأكثر، جرت البراءة عن الزائد، كذلك لو دار أمر أحد عدلي الواجب التخييري بين الأقل والأكثر، جرت البراءة عن الزائد، فلا يكون المقام حينئذٍ مرتبطاً بباب الأصل في دوران الأمر بين التعيين والتخيير، بل مرتبطاً بباب دوران الأمر بين الأقل والأكثر، فتجري البراءة عن الأكثر، ويكتفى بالأقل، فيتحقق الإجزاء، فالمورد من موارد جريان البراءة وليس أصالة الاشتغال.

إذاً، على المبنى الأول وعلى المبنى الثاني، تجري البراءة الشرعية، ولا تجري أصالة الاشتراك.

المبنى الثالث: ما ذهب إليه المحقق النائيني والسيد الخوئي من دعوى عدم تعقل الأمر الاضطراري في صورة زوال العذر في الأثناء مع افتراض عدم الإجزاء وبقاء مقدار معتد به من الملاك.

فهنا لا نتعقل توجه أمر.

حينئذٍ، هل يوجد دليل على الأمر الاضطراري أو لا؟

فإن قام دليل على الأمر الاضطراري، كان بنفسه دليلاً اجتهادياً على الإجزاء بنفس البرهان الذي ذكرته مدرسة المحقق النائيني من الالتزام بالمدلول العقلي الالتزامي.

ولكن إذا لم يوجد دليل اجتهادي يدل على الإجزاء، صار الأمر كما يقوله المحقق العراقي دائراً بين التعيين والتخيير، إذ لو كان كل الملاك أو جلّه موجوداً في الجامع بين العمل الاختياري والاضطراري، لكان لزم التخييير.

ولو لم يكن العمل الاضطراري مشتملاً على جل الملاك أو كل الملاك، كان العمل الاختياري واجباً تعيناً.

فجريان البراءة أو الاشتغال في المقام يتفرع على المبنى في مبحث دوران الأمر بين التعيين والتخيير، وكلٌ على بناه، الشهيد الصدر والسيد الخوئي والمشهورين من الأصوليين المعاصرين يرون جريان البراءة، وصاحب الكفاية والمحقق العراقي يرون جريان أصالة الاشتغال.

هذا تمام الكلام في مناقشة الفرض الأول.

الفرض الثاني يأتي عليه الكلام.ٍ


logo