« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

46/05/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائة وستة وتسعون): إشكال الشهيد الصدر على المحقق العراقي

الموضوع: الدرس (مائة وستة وتسعون): إشكال الشهيد الصدر على المحقق العراقي

 

إشكال الشهيد الصدر على المحقق العراقي في مبناه الذي هو التقريب الثالث:

تطرقنا إلى التقريب الثالث للمحقق العراقي رحمه الله.

ومفاده أن الأمر بالصلاة الجلوسية أمر تعييني لا تخييري، وقد استفدنا التعيين من إطلاق صيغة الأمر، وتعيين إطلاق صيغة الأمر لا يناسب إلا الفرضية الثالثة من فرضيات ثلاث في عالم الثبوت.

ومفاد الفرضية الثالثة:

أن يكون هناك ملاكان:

أحدهما قائم بالجامع بين الصلاة القيامية والصلاة الجلوسية

والثاني قائم بخصوص الصلاة القيامية.

واستيفاء الأمر الأول بالصلاة الجلوسية يجب تعذر استيفاء ملاك الأمر الثاني للصلاة القيامية.

وهذه الفرضية تستبطن الإجزاء لا بلحاظ استيفاء الملاك، بل بلحاظ أن ملاك الصلاة الجلوسية يفوت ملاك الصلاة القيامية.

ومن الواضح أن العقل يحكم بقبح ما هو مفوت لغرض المولى ما لم يرد ما يخالفه من قبل الشارع.

فلو فرض أن الشارع المقدس أمر بالجامع بين الصلاة القيامية والصلاة الجلوسية وسكت، فسكت عن الفرد الجلوسي، في هذه الحالة، يحكم العقل بقبح تطبيق الجامع بين الصلاتين على خصوص الصلاة الجلوسية، نظراً لأن الصلاة الجلوسية تفوت ملاك الصلاة القيامية، ما لم يرد من الشارع ما يخالف حكم العقل.

فحينئذٍ: إذا ألزم الشارع بالصلاة الجلوسية، فأصل الأمر وأصل الملاك فيه تخيير بين الصلاة القيامية والصلاة الجلوسية، لكن الشارع ألزم المكلف بأن يطبق الجامع التخييري على خصوص حصة وفرد الفعل الاضطراري، وهو الصلاة الجلوسية، فحينئذٍ يصبح الأمر بالصلاة الجلوسية تعيينياً ولا يصبح مخالفاً لحكم العقل لأن الشارع أمر بذلك، بخلاف ما لو لم يأمر تعييناً بالصلاة الجلوسية فإن المكلف مطلق العنان بالنسبة إلى الصلاة الجلوسية وبالنسبة إلى الصلاة القيامية، إذ أن الأمر قد تعلق بالجامع بين الصلاتين الجلوسية والقيامية.

لكن المكلف لا يكون مطلق العنان بالنسبة إلى خصوص الصلاة الجلوسية، لأنها تفوت ملاك الصلاة القيامية، والإتيان بما يفوت الملاك قبيح عقلاً ما لم يرد إذن من الشارع، والإذن هو تعيين الشارع للصلاة الجلوسية.

إذن، هذه الفرضية الثالثة، وهي وجود ملاكين: ملاك للصلاة خصوص الصلاة القيامية، وملاك يتعلق بالجامع بين الجلوسية والقيام، ثم تعيين الحصة الخاصة وهي خصوص الحصة الجلوسية.

هذا ينسجم مع إطلاق صيغة الأمر الاضطراري كما لو قال المولى: "صلِّ جالساً"، فيستفاد من إطلاق صيغة الأمر الاضطراري أن الأمر بالفعل الاضطراري هو أمر تعييني.

[مناقشة الشهيد الصدر على كلام المحقق العراقي]

فالفرضية الثالثة ثبوتاً تنسجم مع ظاهر إطلاق الأمر الاضطراري، أثبتان واضح إن شاء الله، تقرير كلام محقق العراقي، وناقشه الشهيد الصدر بحقٍ، وأورد عليه إيرادين:

الإيراد الأول: أننا لا ننكر في المقام أصل قبح التفويت.

وبرهان ذلك:

أن المدار كل المدار على نفس الأمر لا على الغرض، فلو كان هناك أمر واقع بالصلاة القيامية.

فهنا يوجد احتمالان:

الاحتمال الأول: أن الأمر بالصلاة القيامية مقيد بأن لا تقع قبلها صلاة جلوسية.

الاحتمال الثاني: أن الأمر بالصلاة القيامية مطلق، سواء أتى بالصلاة الجلوسية أو لم يأت بها فتجب الصلاة القيامية بشكل مطلق.

وعلى الاحتمال الأول، إذا كانت الصلاة القيامية مقيدة بعدم الإتيان بالصلاة الجلوسية، هناك إلزام بالقيد، لأن الإلزام بالمقيد هو إلزام بقيده، أي الإلزام بالصلاة القيامية المقيدة بعدم الجلوس. مقيد بذلك القيد أن لا يأتي بصلاة جلوسية.

[الإحتمال الإول يوجب التهافت]

وحينئذٍ يستحيل وجود أمر تعيني بالصلاة الجلوسية، إذ إنه يلزم منه التهافت، والإلزام بالتهافت غير معقول.

ما هو وجه التهافت؟

الإلزام بصلاة قيامية مقيد بأن لا تأتي قبلها بصلاة جلوسية، يتنافى ويتهافت مع الإلزام بالإتيان بصلاة جلوسية تعيينًا، إذ أنه لو جاء بالصلاة الجلوسية الواجبة تعيينًا، فهذا لا ينسجم مع تقييد الصلاة القيامية بعدم الإتيان بصلاة جلوسية قبلها.

إذن، الاحتمال الأول وهو تقييد الأمر القيامي بعدم الإتيان بالصلاة الجلوسية، هذا يلزم منه التهافت.

الاحتمال الثاني: وهو وجوب الصلاة القيامية مطلقاً. فحينئذٍ لا قبح بالاتيان بالصلاة الجلوسية.

نعم، قد يقال إن الإتيان بالصلاة الجلوسية مفوت لملاك الصلاة القيامية، وهذا لا يضر، لأن المهم هو تفويت خصوص أمر المولى وليس غرضه، والمولى أمر بمطلق القيامية، ومن المعلوم أن الغرض، أي غرض المولى، ما لم يتصدى نفس المولى للإلزام بتحصيل غرضه، فإنه لا يدخل في العهدة ولا يدخل في الذمة، والذي يدخل في الذمة هو خصوص أمر المولى، خصوص تكليف المولى، وليس غرض المولى.

والمفروض في المقام أن المولى قد أهمل غرضه، فأمر بمطلق القيامية، فلا يدخل الغرض في عهدة المكلف. والمحقق العراقي يعترف بذلك، أي أنما يدخل في عهدة وذمة المكلف: هل هو غرض المولى أو أمر المولى؟

الجواب: أمر المولى، مثال ذلك: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾[1]

إذن، ما هو الغرض من الأمر بالصلاة؟

الانتهاء عن الفحشاء والمنكر.

[سؤال:] فلو جاءنا أمر بالإتيان بالصلاة المؤلفة من ركوع وسجود وأجزاء وشرائط، ولم يُذكر في شرائط الصلاة أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وجاء المكلف بالصلاة ولم تنهه عن الفحشاء والمنكر، مثلاً: صلى وذاك البعيد وزنى، فهل يجب عليه أن يعيد صلاته؟

 

الجواب: لا يجب عليه أن يعيد الصلاة لأنه امتثل الأمر، والذي دخل في ذمته هو خصوص الأمر، وليس الملاك، وليس غرض المولى.

إذن، فيما نحن فيه لا قبح عقلي بهذه الصلاة الجلوسية، حتى لو فوتت ملاك الصلاة القيامية، حتى يضطر المولى إلى أن يرفع موضوع هذا القبح العقلي ويلزم بالصلاة الجلوسية بنحو تعييني.

الإيراد الثاني: لو تنزلنا وسلمنا أن الإتيان بالصلاة الجلوسية قبيح عقلاً باعتباره تفويتاً للغرض، لو لا تدخل الشارع، أي أن المدار كل المدار على الملاك والغرض.

ولكن نقول: موضوع حكم العقل بتفويت الملاك كما يرتفع بالإلزام من قبل الشارع، بحيث يلزم بخصوص الصلاة الجلوسية تعيينًا كما ادعى المحقق العراقي.

كذلك، حكم العقل يرتفع بالترخيص والتجويز من قبل المولى، وإذا أمكن للشارع أن يأمر بالجامع بين الصلاتين القيامية والجلوسية ويرخص بالصلاة الجلوسية ليرفع قبح التفويت، فإما أن يأمر بجامعٍ يستبطن الترخيص في تمام أفراده من صلاة قيامية وجلوسية، أو يأمر بالجامع ويرخص مستقلاً بالصلاة الجلوسية.

وهذا الترخيص يكفي لرفع موضوع حكم العقل بالقبح، ويتعين على الشارع أن يسلك مسلك الترخيص، وليس مسلك الإلزام بخصوص الصلاة الجلوسية الاضطرارية.

إذا رفع حكم العقل كما يحصل بالأمر التعيني بالصلاة الجلوسية، يحصل أيضاً بالترخيص في الصلاة الجلوسية.

وبالتالي قد يقال إننا نقدم رفع حكم العقل بالترخيص في الاضطراري على الإلزام بالاضطراري الذي ذهب إليه المحقق العراقي؛ وذلك لأننا لو التزمنا بما التزم به المحقق العراقي، وقلنا: إن المولى أمر بالصلاة الجلوسية تعيينًا، فإنه يلزم محذورين لا يمكن الالتزام بهما.

المحذور الأول: لو عصى المكلف ولم يأت بالصلاة الجلوسية ثم ارتفع العذر في أثناء الوقت، فهو حينئذٍ مأمورٌ بالقيام، لكنه عصى أيضاً ولم يأت بالصلاة القيامية، فيلزم على مبنى المحقق العراقي أن يعاقب المكلف بعقابين، نظراً لارتكابه معصيتين:

المعصية الأولى مخالفة الأمر التعيني بالصلاة الجلوسية،

المعصية الثانية مخالفة الأمر بالصلاة القيامية.

بينما المكلف السليم الذي هو غير مضطر للجلوس، لو صلى وهو مخاطب بالصلاة القيامية، لو خالف وعصى ولم يصلِّ الصلاة القيامية، فإنه يكون قد ارتكب معصية واحدة ويستحق عقاباً واحداً، فبناءً على رأي المحقق العراقي، سيكون المضطر أسوأ حالاً من المختار، وهو خلف التوسع على المضطر المنطر.

المحذور الثاني: إن المضطر لو لم يصل من جلوس في أول الوقت بانتظار أن يصل قياماً في آخر الوقت كما لو كان يرجو زوال العذر، وقد فعل، أي أنه لم يبادر بالصلاة الجلوسية ثم ارتفع العذر وصلى من قيام في أثناء الوقت.

فبناءً على مبنى المحقق العراقي، يلزم أن يكون عاصياً لأنه يرى أن الأمر بالصلاة الجلوسية تعييني، وهو لم يصل، فقد خالف الأمر التعيني بالصلاة الاضطرارية والجلوسية، فعلى الرغم من أنه صلى قائماً واستوفى بالملاك، لكنه أخل بملاك الأمر الأول وهو الصلاة الجلوسية التعينية.

إلا أن يلتزم المحقق العراقي بمخرج ويقول لدفع المحذور الثاني فيلتزم بتقييد الأمر التعيني بالصلاة الجلوسية بعدم القيام بالصلاة القيامية، فلو أتى بالصلاة القيامية، فحينئذٍ لا يكون في حقه أمر بالصلاة الجلوسية، ولكن هذا تصرف زائد في إطلاق الهيئة، إذ هيئة الأمر الاضطراري مطلقه وكذلك هيئة الأمر الاختياري مطلقه: "صلِ من جلوس، صلِ من قيام".

وكلام المحقق العراقي كان مبنياً على إطلاق الأمر الاضطراري كقوله: "صلِ جالساً"، فاستفاد من إطلاق الصلاة الجلوسية وجود أمر تعيني بالصلاة الجلوسية.

إذا اتضح أن مبنى المحقق العراقي أعلى الله في الخلد مقامه لا يمكن المساعدة عليه، فالتقريب الثالث للمحقق العراقي في إثبات إجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي والاختياري هو التمسك بظاهر إطلاق الأمر الاضطراري في خصوص الأمر التعييني.

فإذا استفيد الأمر التعييني، فحينئذٍ الأتيان بالصلاة الجلوسية تعيينًا يفوت ملاك الصلاة القيامية، وهذا يثبت الإجزاء.

لكن اتضح أن هذا المبنى ليس بتام ثبوتاً وإثباتاً، فلا نلتزم به.

إلى هنا، اتضح أن التقريب التام إلى هنا هو التقريب الثاني، التمسك بالبدلية والقائم مقامية، وأن الفعل الاضطراري بدل للفعل الاختياري ويقوم مقامه وينزل منزلته.

هذا تمام الكلام في التقريبات الثلاثة الأولى.

واتضح أن الصحيح منها خصوص التقريب الثاني دون التقريب الأول للميرزا النائيني والسيد الخوئي، والتقريب الثالث المحقق العراقي.

أما التقريب الرابع للمحقق الأصفهاني، يأتي عليه الكلام.

 


logo