46/05/23
الدرس (مائة وخمسة وتسعون): التقريب الثالث للإجزاء ما أفاده المحقق العراقي
الموضوع: الدرس (مائة وخمسة وتسعون): التقريب الثالث للإجزاء ما أفاده المحقق العراقي
التقريب الثالث للإجزاء مع ذهب إليه المحقق العراقي رضوان الله عليه، وهو استفادة الإجزاء من الأمر التعيني للأمر الاضطراري[1] [2] .
تقريب ذلك:
استفادة الإجزاء من دليل الأمر التعيني الاضطراري، لأن مقتضى دليل "صلِّ جالسًا" أن الأمر بالصلاة من جلوس أمر تعيني وليس أمرًا تخييريًا، فالأمر التعيني هو مقتضى إطلاق صيغة الأمر "صلِّ"، أي تجيب الصلاة تعينًا، والأمر التعيني للصلاة الجلوسية لا يتناسب إلا مع فرضية واحدة من ثلاث فرضيات ثبوتية.
إذن، عندنا أمر إثباتي، وعندنا ثلاثة أمور ثبوتية.
الأمر الإثباتي هو استنباط الأمر التعيني من عالم الإثبات والخطاب والدلالة، إذ إن الأمر الاضطراري "صلِّ" مطلق، وهذا الإطلاق يحمل على التعين لا التخيير، هذا إثباتًا.
[الأمر الثبوتي] وهذا الأمر التعيني الإثباتي يتلائم ويناسب الفرضية الثالثة من ثلاث فرضيات ثبوتية، أي في عالم الثبوت والإمكان يمكن تصوير ثلاث فرضيات:
[يمكن تصوير ثلاث فرضيات في علام الثبوت:]
الفرضية الأولى: أن يكون هناك ملاك واحد لا ملاكين، وهذا الملاك الواحد كما يستوفى بتمامه بالصلاة القيامية، كذلك يستوفى بتمامه بالصلاة الجلوسية، ومقتضى هذه الفرضية، وهي أن الصلاة الاختيارية والإضطرارية تفي بتمام الملاك هو الإجزاء، والإجزاء هنا بملاك الاستفاء لا التفويت.
فتارة يكون بملاك التفويت، أي أنه لو جاء بالصلاة الجلوسية فإنه قد فوت ملاك الصلاة القيامية، فيكون ملاك إجزاء الصلاة الجلوسية هو تفويت ملاك الصلاة القيامية.
وأحيانًا يكون الملاك هو الاستفاء، أي أن الصلاة الجلوسية الإضطرارية تستوفي جميع الملاك والغرض المولوي المطلوب، فإذا تحقق الغرض سقط الأمر الاختياري بالصلاة القيامية.
إذن، مقتضى الفرضية الأولى الإجزاء، إذ أن الصلاة الإضطرارية الجلوسية تستوفي ملاك الصلاة الاختيارية القيامية.
لكن الفرضية الأولى لا تناسب الأمر التعيني بالصلاة الجلوسية، لأن هذه الفرضية تناسب وجود أمر تعلق بالجامع بين الصلاتين، فيكون الأمر تخييريًا لا تعينيًا. فالصلاة الجلوسية تفي بالملاك وكذلك الصلاة القيامية تفي بالملاك، فيتعلق الأمر بالجامع، فيقول المولى: "صلِّ من قيام، فإن لم تستطع فصلي من جلوس".
فإذن، يصير الجامع تعلق بالصلاة من جلوس عند العذر، والصلاة من قيام إن لم يوجد عذر اضطراري، فتجب الصلاة من جلوس تخيّرًا بينها وبين الصلاة القيامية.
فالفرضية الأولى ثبوتاً تتناسب مع الأمر التعيني في الإجزاء، أي تلتقي معه في النتيجة إجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الاختياري، لكن لا تتناسب معه في الأمر التعيني، إذ الفرضية الأولى تفيد الأمر التخييري ثبوتًا، ونحن قد استفدنا الأمر التعيني الاضطراري إثباتًا.
إذن الفرضية الأولى لا تتناسب ولا تنسجم مع الأمر الاضطراري التعيني الإثباتي.
الفرضية ثانية: أن يكون هناك ملاكان، لا ملاك واحد، الملاك الأول قائم بالجامع بين الصلاة، والملاك الثاني خاص بخصوص الصلاة الاختيارية القيامية، ويمكن استفاؤه حتى بعد الإتيان بالصلاة الاضطرارية نظرًا لأن الصلاة الاضطرارية إنما تفي بخصوص الملاك الأول وهو الجامع، بينما الصلاة القيامية تفي بملاك الأمر الثاني وهو خصوص الحصة الخاصة، أي الصلاة القيامية.
وهذه الفرضية الثانية تستبطن عدم الإجزاء: لأن الصلاة الاضطرارية تفي بخصوص ملاك الأمر الأول، وهو الأمر التخييري، وأما ملاك الأمر الثاني، وهو خصوص الصلاة القيامية، فلم يستوفَ، والمفروض إمكان استفائه، فلا بد من إعادة الصلاة من قيام، فتكون النتيجة عدم الإجزاء.
والفرضية الثانية لا تناسب فرضية الأمر التعيني للأمر الاضطراري والصلاة الجلوسية.
السر في ذلك:
أن ملاك الصلاة الاضطرارية قائم بالجامع بين الصلاة الاضطرارية عند العذر، والصلاة الاختيارية القيامية عند عدم وجود العذر، فيرجع الأمر إلى التخيير ولا يكون الأمر تعينيًا. إذ إن الأمر بالصلاة الاضطرارية نشأ من ملاك تخييري، فيكون الأمر بالاضطراري تخييري أيضًا.
الفرضية الثانية لا تنسجم مع الأمر التعيني للصلاة الجلوسية من حيثيتين:
الحيثية الأولى: الإجزاء وعدمه الإجزاء، ففي الأمر التعيني الاضطراري تجزي الصلاة الجلوسية عن الصلاة القيامية، وفي الفرضية الثانية لا تجزي، لأن الصلاة الجلوسية تفي بغرض ملاك الأمر الأول التخيري، ولا تفي بملاك الأمر الثاني المختص بالحصة الخاصة، وهي الصلاة القيامية.
الحيثية الثانية: هو أن الأمر الاضطراري بما أنه نشأ من ملاك تخييري ومن أمر تخييري في الفرضية الثانية، فحينئذ سيكون الأمر الاضطراري تخييريًا وليس تعينيًا، وهذا خلاف فرض أن الأمر الاضطراري تعييني.
إذن، الفرضية الأولى والفرضية الثانية لا تناسبان دعوى أن الأمر بالصلاة الجلوسية أمر تعييني، بل يناسبه الفرضية الثالثة.
الفرضية الثالثة: أن يكون هناك ملاكان: أحدهما قائم بالجامع، والثاني قائم بالصلاة القيامية، ولكن استيفاء الملاك الأول بالصلاة الجلوسية يوجب تعذر استيفاء الثاني، وهو الصلاة القيامية.
فالفرضية الثالثة تستبطن الإجزاء، لكن لا بلسان الاستيفاء كما في الفرضية الأولى، يعني الصلاة الاضطرارية تستوفي ملاك الصلاة الاختيارية، بل بملاك وبلحاظ تفويت الملاك الثاني. أي أن من جاء بالصلاة الجلوسية الاضطرارية فإنه قد حقق ملاك الصلاة الجلوسية وفوت ملاك الصلاة القيامية فحينئذ تجزي الصلاة الجلوسية عن الصلاة القيامية.
ومن الواضح أن العقل حاكم بقبح ما هو مفوت لغرض المولى ما لم يريد من نفس المولى ومن نفس الشارع ما يخالفه ويثبت الجواز، فالأصل عدم جواز تفويت ملاك المولى إلا إذا أذن المولى بتفويت ملاكه.
فلو فرض أن الشارع المقدس أمر بالجامع وسكت عن الفرد الجلوسي، لحكم العقل بقبح تطبيق هذا الجامع على خصوص الصلاة الجلوسية، لأنها فرد مفوت لملاك الصلاة القيامية، إلا إذا ورد إذن وترخيص من الشارع في الصلاة الجلوسية وتفويت الصلاة القيامية.
وحينئذ: لا أقل من إطلاق العنان للمكلف في الإتيان بالفرد الجلوسي الزإمياً، إذ لو أمر المولى بالجامع ولم يلزم بالفرد الجلوسي لما أفاد ذلك في إطلاق العنان نحو الصلاة الجلوسية، فلأجل إطلاق العنان، يرفع موضوع حكم العقل بقبح تفويت ملاك الصلاة الاختيارية والقياميات، يأمر المولى بخصوص الصلاة الجلوسية الاضطرارية، وهذا مسوغ للأمر التعيني، وإن لم يكن الملاك تعينيًا، فالملاك تخييري لكن هناك ما يسوغ ويعين الأمر التعيني، فإن الملاك الأول قائم بالجامع، والجامع فيه تخيير بين الصلاة القيامية والصلاة الجلوسية. لكن مع هذا، يوجد مسوغ للأمر التعيني بالصلاة الجلوسية، فيكون إطلاق الصيغة في دليل الأمر الاضطراري مقتضيًا للتعين وفقًا لهذه الفرضية الثالثة.
بالتالي، الفرضية الثالثة تنسجم مع دعوى أن الأمر التعيني، أن الأمر الاضطراري بالصلاة الجلوسية أمر تعيني وليس أمرًا تخييريًا.
[الفرضية الثالثة بشكل الموجز]
أعايدها بشكل موجز، لأننا سنناقش المحقق العراقي.
الفرضية الثالثة بشكل موجز تفترض وجود ملاكين:
الملاك الأول قائم بالجامع بين الصلاة الجلوسية والقيام، فهذا غرض تخييري وأمر تخييري.
الملاك الثاني قائم بالصلاة القيامية، فهذا أمر تعيني. وملاك تعيني.
هنا توجد قاعدة أن العقل يحكم بقبح ما يفوت غرض المولى، إلا إذا أذن المولى بالتفويت.
هنا لو اقتصر المكلف على الملاك الأول، ما هو الملاك الأول؟ التخييري، مخير بين الصلاة القيامية والصلاة الجلوسية، إذا أبقينا هذا التخيير، فحينئذ إن جاء بالصلاة القيامية، فهو لم يفوت الملاك الثاني الخاص بالصلاة القيامية، لكن إن جاء بالصلاة الجلوسية فإنه قد فوت الصلاة القيامية.
إذًا، صحيح أن الجامع ينطبق على الصلاة القيامية وعلى الصلاة الجلوسية، لكن لو اختار خصوص الصلاة الجلوسية، سيلزم منه تفويت ملاك الصلاة القيامية في الأمر الثاني الذي هو تعيني.
فحينئذ نقول: صحيح الأمر الأول تخييري بين الصلاة القيامية والصلاة الجلوسية، لكن لا يحق للمكلف أن يختار الصلاة الجلوسية، لأن الصلاة الجلوسية تؤدي إلى تفويت غرض المولى والملاك الموجود في الصلاة القيامية.
لكن لو أذن المولى، فحينئذ لا يحكم العقل بقبح المخالفة، فنلتزم أنه بالنسبة إلى الأمر الأول، وهو الأمر بالجامع بين الصلاة الجلوسية والصلاة القيامية، أن المولى أمر وأذن بتطبيق الجامع على خصوص الصلاة الجلوسية تعينًا.
فإذا عينها، فحينئذ إذا صلى من جلوس، لا عيب ولا قبح في تفويت ملاك الصلاة القيامية، لأن المولى هو الذي أمر بالصلاة الجلوسية تعينًاK فمن التعيين نستفيد إذن المولى بتفويت ملاك الصلاة القيامية.
تكون النتيجة هكذا:
الفرضية الثالثة ثبوتًا يستفاد منها وجود أمر تعييني بالصلاة الجلوسية الاضطرارية، وهذه الفرضية الثالثة ثبوتًا تتناسب مع دعوى المحقق العراقي إثباتًا، وهي أن الأمر بالصلاة الجلوسية إنما هو أمر اضطراري تعييني وليس أمرًا تخييريًا.
وهذا الأمر التعييني بالصلاة الجلوسية يفيد الإجزاء، نظرًا لأن استيفاء الملاك الأول يؤدي إلى تفويت ملاك الصلاة الثانية، فتكون النتيجة هي الإجزاء وفقًا للفرضية الثالثة.
هذا تمام الكلام في تقريب ما أفاده المحقق العراقي أعلى الله في الخلد مقامه، لكن الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر قد أورَد عليه إيرادين قويين، فلا يتم تقريب المحقق العراقي، فيكون التقريب الثالث ليس بتام.
إلى هنا اتضح أن التقريب الأول ليس بتام، التقريب الثاني تام.
التقريب الثالث فيه نقاش يأتي عليه الكلام