« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

46/05/22

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائة وأربعة وتسعون): إشكالان للمحقق العراقي على التقريب الثاني

الموضوع: الدرس (مائة وأربعة وتسعون): إشكالان للمحقق العراقي على التقريب الثاني

 

كان مفاد التقريب الثاني لتقييد الأمر الاختياري بالأمر الاضطراري، وإجزاء العمل الاضطراري عن العمل الاختياري:

هو أن نستظهر من أدلة الأمر الاضطراري البدلية والقائم مقامية أي أن العمل الاضطراري كالصلاة (عن تيمم، ومن جلوس) تقوم مقام العمل اختيارياً (وهو الصلاة من قيام أو مع الوضوء).

وكلام المحقق العراقي رحمه الله يقرب من هذا التقريب الثاني وهو التمسك بالبدلية، لكنه أشكل بإشكالين مدفوعين.[1] [2]

الإشكال الأول

دعوى تعارض بين إطلاق دليل الاضطرار وإطلاق دليل الاختيار، فيوجد تعارض بين الإطلاقين، فيقال: يوجد تعارض بين إطلاق دليل الاضطرار القاضي بكون البدل الخالي من القيام بدلاً لتمام مراتب المبدل الواجد للقيام، وبين إطلاق دليل الواقع الظاهر بكون القيام دخيلًا في المصلحة بلحاظ بعض مراتبها.

فبعد فرض أن الصلاة الجلوسية وافية بتمام مراتب المصلحة، وأن القيام ليست دخيلة فيها، وبعد ظهور قيد القيام بأنه دخيل، ولو بلحاظ بعض مراتب المصلحة، فيكون ذلك طرفًا للمعارضة مع ظهور دليل الاضطرار في أن العذرية وافية بتمام مراتب المبدل، لأنها وجود تنزيلي له.

خلاصة الإشكال:

يوجد إطلاقان متنافيان ومتعارضان، دليل الأمر الواقعي يرى أن القيام قيد في الصلاة، والصلاة المأتي بها بدون قيد القيام باطلة، ودليل الأمر يرى أن الصلاة من جلوس بدل للصلاة من قيام، وتقوم مقامها، فلا إعادة، فيحصل التعارض بين الإطلاقين: فإطلاق الصلاة من جلوس يفيد الإجزاء، وإطلاق الصلاة من قيام يفيد عدم الإلزام.

الجواب:

قد تقدم أن أدلة الأمر الاضطراري ناظرة إلى أدلة الأمر الاختياري فليس كل دليل منهما بمعزل عن الآخر، فاستفدنا البدلية والقائم مقامية من نظر الدليل الاضطراري أنه يقوم مقام الأمر الاختياري، فبعد فرض لسان دليل أنه لسان جعل الوجود البدلي والتنزيلي، فالوظيفة الاضطرارية منزلة الوظيفة الاختيارية، وبدل لها، فحينئذ يقدم الدليل الاضطراري على الدليل الاختياري، فيكون دليل الاضطرار ناظرًا إلى دليل الاختيار وحاكمًا عليه، فلا تقع المعارضة بين الإطلاقين.

خلاصة الجواب: نظرًا لوجود تتحقق الحكومة، ولا يوجد ماذا؟ تعارض بين الإطلاقين، بل توجد حكومة الأدلة الاضطرارية على الأدلة الاختيارية.

الإشكال الثاني

لو تنزلنا وقلنا بظهور دليل الاضطرار وتقديمه على دليل الواقع والاختيار، فإنه أيضًا يقدم دليل الأمر الاختياري على الأمر الاضطراري ولا حكومة للاضطراري على الاختياري، بل الحاكم والمقدم هو الدليل الاختياري، وذلك لنكتتين أو بينانيين وكل منهما ليس بتام، فينتفي الإشكال الثاني للمحقق العراقي.

البيان الأول

إن استفادة الإجزاء والبدلية والقائم مقامية والتنزيل من الدليل الاضطراري إنما هو ببركة الإطلاق ومقدمات الحكمة، بخلاف القيام، فإن استفادة دخل القيام في بعض مراتب المصلحة إنما هو بالوضع وبالظهور الوضعي للقيد والمقيد في الهيئة التركيبية. كما لو قال: "صلى قائمًا"، فقد الصلاة بالقيام، ومتى ما تعارض ظهور وضعي مع ظهور إطلاقي، قدم الظهور الوضعي على الظهور الإطلاقي.

إذا استفيدت البدلية والإجزاء من الدليل الاضطراري ببركة الإطلاق ومقدمات الحكمة، واستفادت قيدية القيام في الأمر الاختياري ببركة الوضع اللغوي، فيقدم الصلاة من قيام الذي هو ببركة الوضع اللغوي، على الصلاة من جلوس التي هي ببركة الإطلاق ومقدمات الحكمة.

وهذا البيان ليس بتام، فلنرجع إلى خطاب "صلى قائمًا"، فإن فيه حيثيتين: حيثية دخل القيام في الصلاة، فخطاب "صلى قائمًا" شامل كان مريضًا في أول الوقت فصلى من جلوس، ثم عوفي، وشامل أيضًا لغيره، وهو من يستطيع القيام مباشرة.

إذا خطاب "صلى قائمًا" له دلالتان:

الدلالة الأولى: دلالة على أصل دخل القيام في المطلوب، وهذا يستفاد من الوضع.

الدلالة الثانية: يدل على أن دخل القيام في المطلوب لا يختص بحال دون حال، فدخل القيام كما يكون في حق المختار، يكون أيضًا في حق المريض إذا عوفي في أثناء الوقت، وإطلاق دخل القيام لا يستفاد من الوضع، بل يستفاد من الإطلاق ومقدمات الحكمة.

الخلاصة:

في الدليل الاختياري مثل "صلّ قائمًا" توجد حيثيتان ودليلهما مختلف:

الحيثية الأولى: أصل دخل القيام في الصلاة، وهذا يستفاد ببركة الوضع.

الحيثية الثانية: إطلاق وجوب القيام لحالة الاختيار وغير ذلك، كمن اضطر للصلاة من جلوس ثم عوفي، وهذا الإطلاق لا يستفاد من الوضع، بل يستفاد من مقدمات الحكمة.

سؤال: ما هو طرف المعارضة؟ إذ ادعى المحقق العراقي وجود تعارض بين الدليل الاضطراري والدليل الاختياري، وقدم الدليل الاختياري لأن مدركة الوضع على الاضطرار لأن مدركة الإطلاق ومقدمات الحكمة.

الجواب: الذي عارض إطلاق الأمر الاضطراري هو إطلاق الأمر الاختياري، وإطلاق الأمر الاختياري إنما استفيد ببركة الإطلاق ومقدمات الحكمة، وليست طرف المعارضة اشتراط أصل قيد القيام في أصل الصلاة الذي هو مستفاد ببركة الوضع.

إذاً صار عندنا تعارض بين إطلاقين، وليس تعارض بين إطلاق في جهة الأمر الاضطراري وواضع في جهة الأمر الاختياري.

إذاً ما هو طرف المعارضة مع دليل الاضطرار ليس هو أصل دخل القيام في المصلحة، بل هو إطلاق دخل في دليل الأمر الاختياري، وهو ثابت بمقدمات الحكمة والإطلاق وليس بالوضع.

الشاهد على ذلك: لو قال "صلّ قائمًا إن كنت صحيحًا"، لا يلزم منه التجوز ورفع اليد عن الظهور الوضعي، بل يلزم منه التقييد، مما يدل على أنه هو ماذا؟ هو الإطلاق ومقدمات الحكمة، وليس التقييد.

إذا انصرفت المعارضة في دليل الواقع، هو ماذا؟ هو الإطلاق الحكمة، وذكرنا أن إطلاق الدليل الاضطراري ناظر إلى إطلاق الدليل الاختياري، ويثبت البدلية والقائم مقامية، فيثبت النظر وبالتالي يجزي الأمر الاضطراري عن الأمر الاختياري.

البيان الثاني

دعوى حاكمية الدليل على دليل الاضطرار، وذلك لأن دلالة الواقع على دخل قيد القيام في المصلحة على الإطلاق، وهذا معناه اقتضاء وجوب حفظ القدرة على القيام والمنع عن التعجيز، والاضطرار الذي هو موضوع الأمر الاضطراري؛ وبذلك يكون دليل الواقع رافعًا للاضطرار، فيكون حاكمًا على دليله.

 

تقرير البيان الثاني

لو تنزلنا وسلمنا برد البيان الأول، وقلنا إن دليل أمر الاضطرار بالإطلاق ودليل الأمر الاختياري أيضًا بالإطلاق، وليس بالوضع، فعلى الرغم من ذلك يقدم دليل الاختياري على الأمر الاضطراري، فلا يجزي الاضطراري عن الاختيار.

السر في ذلك:

التمسك بالدليل الاختياري، فإذا قال المولى: "صلّ من قيام" وجب على المكلف حفظ القدرة على القيام مطلقًا، ولا يجوز له تعجيز نفسه بأن يصلي من جلوس أو يتلف الماء لكي يصلي من تيمم.

فدليل الأمر الاختياري رافعٌ لموضوع الحكم الاضطراري، إذ أن ملاك الاضطرار هو العجز، ودليل الأمر الاختياري يمنع التعجيز، فيكون دليل الحكم الاختياري حاكمًا ومقدمًا على الأمر الاضطراري.

وهذا الكلام غريب عجيب، فقد قال سيدنا الأستاذ السيد كاظم الحائري حفظه الله في مباحث الأصول من هذا الموضع: «أن هذا الكلام لو نسبه أحد إلى المحقق العراقي، لشككنا في النسبة، لكن كتبه نفس قلم المحقق العراقي في مقالات الأصول، وهذا غريب عجيب».

المناقشة في بحث الحكومة يقولون: لسان الحكومة أحيانًا بلحاظ نفي الموضوع، وأحيانًا بلحاظ نفي الحكم، وبحثنا هنا بلحاظ نفي موضوع، فيقول المولى: "هكذا الربا حرام" هذا دليل الحكم الأولى، ثم يأتي الدليل الحاكم، ويقول: "لا ربا بين الوالد وولده" يعني لا يتحقق موضوع الربا بين الوالد وولده، فالحكومة بلسان الموضوع، بلسان نفي الموضوع، تنفي أصل الموضوع، فإذا أنت في أصل الموضوع، انتفى أصل الجعل المتعلق بذلك الموضوع، لا أنه في الحكومة الموضوع ينظر إلى الحكم، ويقول: "يا أيها الولد والأب، لا توقعا الربا لا يجوز لكما إيقاع الربا".

جيدًا إذا خالفوا هذه الحرمة وأوقعوا الربا، ما الحكم في إذن؟ هنا المحقق العراقي هكذا يقول: "لا تعجز نفسك"، إذا خالف وعجز نفسه، هل صلاته؟ يعني هل هناك خالف الحكم التكليفي؟ يُحرم عليك أن تعجز نفسك، هو خالف، وعجز نفسه، خالف وأراق الماء، واكتسب إثم بمخالفة الحكم التكليفي.

الآن، الأثر الوضعي يثبت أو ما يثبت: يعني هل الصلاة من جلوس تجزي عن الصلاة من قيام أو لا؟ هل الصلاة بالتيمم تجزي عن الصلاة مع الوضوء أو لا؟ هذا ما يشملها: "لا تعجز نفسك"، لا تعجز نفسك لا ينفي البدلية، وإنما يثبت حرمة التعجيز فقط، ولا ينفي مشروعية قيام الصلاة من جلوس عن الصلاة من قيام.

فالميزان في الحاكمية بلسان نفي الموضوع، هو أن يكون أحد الدليلين رافعًا لموضوع الدليل الآخر في عالم الجعل، وليس ناهياً عن إيقاعه خارجيًا.

مثلًا: دليل "لا ربا بين الوالد وولده" حاكم على دليل حرمة الربا لأنه ينفي عنوان الربا في عالم الجعل والتشريع عن هذه المعاملة بين الوالد والولد، ففرق بين أن يكون أحد الدليلين نافياً لموضوع الآخر نفيًا تشريعيًا في عالم الجعل، فإذا انتفى الموضوع انتفى المحمول الجمع تبعًا لانتفاء موضوعه، وبين أن يكون الجعل ناهياً عن الموضوع، فلو وجد هذا الموضوع، ولو عصي، فلا حاكمية.

وفي المقام، لو سلمت هذه الدلالة في دليل الأمر الواقعي التي إدعاها المحقق العراقي، وهو أنه خطاب "صلّ قائمًا" ينهى عن التعجيز، ما يدل عليه حرمة إيقاع الإنسان نفسه في الاضطراب، لكن لو خالف وأوقع نفسه في الاضطراب، فلا حكومة حينئذٍ، فلا ربط له بالحكومة.

إذاً، الإشكال الأول والثاني للمحقق العراقي ليسا واردين على التقريب الثاني، فالتقريب الثاني تام، فملاك إجزاء الفعل الاضطراري عن الفعل الاختياري هو البدلية والقائم مقامية والتنزيل، أي أن الشارع المقدس نزل الصلاة من جلوس منزلة الصلاة من قيام، وجعلها بدلاً لها، فيتحقق الإجزاء، والله أعلم.

التقريب الثالث للمحقق العراقي يأتي عليه الكلام.


logo