46/05/17
الدرس (مائة وثلاثة وتسعون): الأسلوب الثاني في إثبات تقييد الأمر الاختياري بالاضطراري
الموضوع: الدرس (مائة وثلاثة وتسعون): الأسلوب الثاني في إثبات تقييد الأمر الاختياري بالاضطراري
الأسلوب الثاني في إثبات تقييد الأمر الاختياري بالاضطراري هو التمسك بظاهر الأدلة فيستظهر من ظاهر أدلة الأمر الاضطراري إجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الاختياري.
ففي الأسلوب الثاني لا نلتزم بالملازمة العقلية بين الأمر الاضطراري والإجزاء كما في الأسلوب الأول، بل نلتزم ونتمسك بظاهر الأدلة الدالة على الإجزاء.
وتوجد عدة تقريبات للأسلوب الثاني:
التقريب الأول: التمسك بالإطلاق المقامي.
بيان ذلك:
إذا عرفنا أن المولى كان بصدد بيان كل وظيفة فعلية للمكلف، فالمولى في مقام بيان جميع وظائف المكلف.
فحينئذ نقول: لو لم يكن الفعل الاضطراري مجزياً عن الفعل الاختياري لوجب على المولى أن يبين ويقول: إن الوظيفة الفعلية للمكلف بعد زوال العذر هي الإعادة، وحيث إن المولى لم يبين فحينئذ نعرف بالإطلاق المقامي إجزاء الفعل الاضطراري عن الفعل الاختياري.
فلو صلى المكلف من جلوس، وقال المولى: الصلاة من جلوس مشروعة، ولم يبين أن الصلاة من جلوس إذا ارتفع العذر لا تجزئ عن الصلاة من قيام فهذا خلف كونه في مقام بيان جميع وظائف المكلف.
فإذا استظهرنا أن المولى في مقام بيان جميع وظائف المكلف ولم يذكر الإعادة فحينئذ نفهم أن الفعل الاضطراري (كالصلاة من جلوس) يجزئ عن الفعل الاختياري (كالصلاة من قيام) حتى لو زال العذر في أثناء الوقت.
وهذا التقريب (وهو الإطلاق المقامي) يتوقف على وجود قرينة خاصة تدل على كون المولى في مقام بيان كل وظيفة فعلية للمكلف، وإلا فمقتضى الطبع الأولي للإنسان ومقتضى الطبع الأولي لكلام الإنسان وبيانه أنه في مقام بيان خصوص الوظيفة الاضطرارية، دون أن يستظهر من المتكلم أنه في مقام بيان جميع الوظائف وكل الوظائف الفعلية.
ولو سلمنا بوجود الإطلاق المقامي، وقلنا إن المولى والمتكلم في مقام بيان جميع الوظائف الفعلية، فإن هذا الإطلاق المقامي معارضٌ بإطلاق دليل الحكم الاختياري، فدليل الحكم الاختياري مطلقٌ ويشمل من أتى بالفعل الاضطراري في أول الوقت ثم ارتفع عذره وهذا يقتضي عدم الإجزاء.
إذا يوجد تعارض بين الإطلاق مقامي المثبت للأمر الاضطراري وبين أمر الاختياري فالإطلاق المقامي يثبت الإجزاء، وإطلاق الفعل غير الاختياري يثبت عدم الإجزاء.
فحينئذ إما أن يتساقطا ونرجع إلى الأصل الذي يقتضي عدم الإعادة فيثبت الإجزاء أو يتقدم أحد الدليلين على الآخر، فيقدم الدليل الأقوى ويكون قرينة على الدليل الآخر.
فإذا حصل التعارض بين الإطلاق المقامي في الأمر الاضطراري وبين الإطلاق اللفظي للفعل الاختياري: لا يبعد أن يقدم الإطلاق المقامي لأنه أقوى ولو بلحاظ ضيق دائرة الإطلاق المقامي وسعة دائرة الإطلاق المتعارف.
لكن هذا التقديم إنما يفيد إذا كان الإطلاق المقامي فرع التصريح في دليل الأمر الاضطراري يعني صرح عند بيان الأمر الاضطراري أن المولى في مقام بيان جميع الوظائف الفعلية للمكلف.
فحينئذ العمل الفعل الاضطراري يشمل من جاء بالفعل الاضطراري كالصلاة من جلوس ثم ارتفع عذره.
لكن هذا لا يفيد لو كان الإطلاق المقامي في طول إطلاق وفرع إطلاق العمل الاضطراري لمن عمل ثم ارتفع عذره في الأثناء فإن هذا الإطلاق ليس إطلاقاً مقامياً يصير إطلاق لفظي.
خلاصة التقريب الأول:
التمسك بالإطلاق المقامي والإطلاق المقامي إنما به إذا كان فرع التصريح بأن العمل الاضطراري مجزٍ وأن المولى في مقام بيان جميع الوظائف الفعلية للمكلف.
وأما إذا كان الإطلاق المقامي فرع إطلاق الأمر الاضطراري وليس فرع التصريح فحينئذ يتعارض إطلاقان صار إطلاق لفظي للأمر الاضطراري وإطلاق لفظي للأمر الاختياري فيتعارضان ويتساقطان ولا موجب لتقديم أحدهم على الآخر.
سؤال: لماذا تقع المعارضة بين إطلاق الفعل اختياري كالصلاة من قيام وإطلاق الفعل اضطراري كالصلاة من جلوس؟
الجواب: لأن كل منهما ليس بناظر إلى الآخر بل كل واحد منهما يلحظ موضوعه فقط، فالأمر بالصلاة القيامية تلحظ وجوب الصلاة من قيام من دون نظر إلى حالة الاضطرار للصلاة من جلوس، ودليل الصلاة من جلوس يلحظ حالة الاضطرار من دون نظر إلى حالة عدم الاضطرار فيحصل التعارض بينهما فيما لو صلى من جلوس وزال عنه العذر وتمكن من الصلاة من قيام، هنا يحصل التعارض.
فدليل الصلاة من قيام يقول: يجب أن يصلي من قيام ولا تجزي الصلاة من جلوس، ودليل الصلاة من جلوس لا يقول يجزي لكن إذا ضممنا له أن المولى الذي أمر بالصلاة من جلوس كان في مقام بيان جميع الوظائف، ولو كان من الوظائف وجوب الإعادة من قيام بعد ارتفاع العذر لبين، وحيث لم يبين فهذا يدل على إجزاء الصلاة من جلوس عن الصلاة من قيام.
خلاصة النكتة:
وقع التعارض بسبب أن كل دليل وكل واحد من الدليلين لم ينظر إلى الآخر، فيتعارضان في نقطة الاشتراك.
التقريب الثاني: يتوقف على أن يستفاد من لسان دليل الحكم الاضطراري البدلية والتنزيل منزلة الوظيفة الاختيارية، فمتى ما استفيد ذلك إما من اللسان اللفظي للدليل كما في مثل التراب أحد الطهورين، فقد ورد في صحيحة محمد بن مسلم قال: «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أجنب فتيمم بالصعيد وصلى ثم وجد الماء، قال: لا يعيد إن رب الماء رب الصعيد فقد فعل أحد الطهورين»[1] .
الأمر الأول: أن يستفاد من اللسان اللفظي استفادة البدلية والتنزيل من اللسان اللفظي.
الأمر الثاني: استفادة البدلية والتنزيل من باب اقتناص عنوان البدلية من مجموع القرائن المقامية واللفظية، أي أنه لا يوجد تصريح بالبدلية أو التنزيل، ولكننا نقتنصه من مجموع القرائن، مثل ماذا؟
اقتناص عنوان العذرية وليس من العذرة عند المرأة وإنما من باب العذر. فإذا فهمنا من أدلة الصلاة مع التيمم أو الصلاة من جلوس أنها شرعت نظراً لوجود عذر. وأن هذا العذر جعل الصلاة بالتيمم بدلاً عن الصلاة بالوضوء، وجعل الصلاة من جلوس منزلة منزلة الصلاة من قيام. فهنا لم يصرح لسان الدليل اللفظي بالبديلة أو التنزيل، لكننا تصيدنا هذا التنزيل واقتنصناه من تجميع القرائن المقامية واللفظية وأن المولى في مقام بيان الوظيفة عند العذر.
[مفاد التقريب الثاني]
عموماً التقريب الثاني مفاده استفادة البدلية القائم مقامية أي تنزيل الوظيفة الاضطرارية منزلة الوظيفة الاختيارية، فيكون مقتضى إطلاق البدلية هو البدلية على الإطلاق أي البدلية من جميع الجهات والمراتب وبذلك يتحقق الإجزاء.
فنتمسك بإطلاق البدلية والقائم مقامية فنقول: الوضوء مع التيمم يقوم مقام الوضوء مع الوضوء مطلقاً يعني إذا أتى به عند انتفاء الماء يقوم مقامه ويبقى يقوم مقامه حتى لو انتفى العذر وحصل على الماء.
وهذا التقريب تام في كل مورد انتزع من دليل الحكم الاضطراري البدلية والتنزيل منزلة العمل الاختياري سواء استفدنا هذه البدلية من اللفظ أو من التصيد أو العنوان، فاستفادة البدلية لفظاً أو مقاماً يكفي في هذا التقريب ويكفي للإجزاء.
[لا يرد إشكال التعارض على تقريب الثاني]
ولا يرد إشكال التعارض الوارد على تقريب الأول، فلا يقال يوجد تعارض بين إطلاق دليل الاضطرار مع إطلاق دليل الاختياري فلا يوجد هنا تعارض.
والسر في ذلك:
هو النظر أي أن دليل الفعل الاختياري ناظرٌ وحاكمٌ على دليل الفعل الاختياري، فإذا فرض أن لسان دليل الحكم الاضطراري كان هو لسان البدلية والتنزيل منزلة العمل المحكوم بالحكم الاختياري فحينئذ كان لا محالة ناظراً إلى الوظيفة الواقعية الاختيارية، فيكون دليل الأمر الاضطراري حاكماً على دليل الحكم الواقعي الاختياري، فبملاك النظر لا تحصل معارضة، بل تحصل حكومة.
والتحقيق:
إن هذا المطلب وهو المعارضة أو عدم المعارضة:
تارة يلحظ بلحاظ الصياغة الأولى لكبرى الإجزاء وهي أن المدار في الإجزاء على حصول الغرض وتحقق الملاك.
وتارة يصاغ بلحاظ يناسب الكبرى الثانية من كبريي الإجزاء وهي ملاحظة الفعل والمتعلق، أي أن الفعل الاضطراري يجزي عن الفعل الاختياري.
أما الصياغة الأولى وهي كبرى حصول الغرض يستلزم الإجزاء، فيقال إن ظاهر دليل الوظيفة الاضطرارية البدلية عن الوظيفة الاختيارية في تمام المراتب والملاكات، وهذا هو الذي يكون بحاجة إلى نكتة خاصة في اللفظ كما في قوله عليه السلام: «التراب أحد الطهورين» أو بحاجة إلى اقتناص عنوان من مجموعة القرائن المقامية واللفظية وغير ذلك، هذا بلحاظ الكبرى الأولى لحاظ الغرض فلا بد من ملاحظة لفظ أو اقتناص نكتة توجب أن من الفعل الاضطراري يحقق غرض وملاك الفعل اختياري.
[وأما الصياغة الثانية]لكن بناءً على الكبرى الثانية من كبريي الإجزاء وهي النظر إلى نفس الفعل لا الغرض، فهذه الكبرى عبارة عن استلزام الإتيان بالمتعلق لا الإجزاء.
وذلك بأن تترك مسألة البدلية في الآثار والملاكات، بل يقال فقط إن دليل العمل الاضطراري يكون عادة ناظراً إلى الحكم الاختياري، وعلاج مشكلة الاضطرار التي منعت المكلف في حينه عن العمل الاختياري، وهذا النظر يعني نظر الفعل الاضطراري للفعل الاختياري يعطيه ظهوراً في البدلية.
ولا يقصد بالبدالية البدلية في الآثار والملاكات أو المراتب كما في المبنى الأول، بل على المبنى الثاني يكون المراد بالبدلية البدلية في التكليف، يعني كان تكليف الصلاة من قيام، وعند الاضطرار تبدل التكليف إلى الصلاة من جلوس.
فلو كان هذا الدليل له إطلاق لمن اضطر في أول الوقت وبرئ في آخره لكان ظاهراً في أن حكمه الاختياري كالصلاة من القيام قد تحول إلى الحكم التخييري بين العمل الاضطراري في أول الوقت وهو الصلاة من جلوس والعمل الاختياري في آخر الوقت.
أو أن الحكم من أول الأمر تخييرياً بين العمل الاختياري في حالة الاختيار والعمل الاضطراري في حال الاضطرار، فإذا كان الأمر كذلك فقد حصل الإجزاء بإتيان متعلق الأمر.
خلاصة التقريب الثاني: التمسك بالبدلية والتنزيل وتستفاد البدلية وتنزيل الفعل الاضطراري منزلة الفعل الاختياري إما من لسان الدليل اللفظي وإما باقتناص نكتة متصيده يفهم منها البدلية.
وهنا يأتي المبنيان:
[الأول:] إما أن يراد بالبدلية ما يحقق الغرض والملاك
[الثاني:] وإما أن يراد بالبدلية أن الفعل الاضطراري يقوم مقام الفعل اختياري.
فمفاد التقريب الثاني هو التمسك بالبدلية والقائم مقامية أي أن الصلاة من جلوس أو مع التيمم تقوم مقام الصلاة من قيام أو مع الوضوء.
والمحقق العراقي أعلى الله في الخلد مقامه ذكر تقريباً يعود إلى هذا التقريب الثاني التمسك بالبدلية والتنزيل لكن أعقبه بإشكالين، يأتي عليهما الكلام.