« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

46/05/04

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائة وتسعة وثمانون): الحكم الرابع جواز تعجيز المكلف نفسه

الموضوع: الدرس (مائة وتسعة وثمانون): الحكم الرابع جواز تعجيز المكلف نفسه

 

الحكم الرابع: جواز تعجيز المكلف نفسه

فلو دخل وقت الصلاة، فهل يجوز للمكلف أن يريق الماء الذي لا يوجد غيره، فينتقل من الصلاة بالوضوء إلى الصلاة بالتيمم؟ أو إذا دخل الوقت يعجز نفسه عن القيام فينتقل من الصلاة عن قيام إلى الصلاة عن جلوس؟

[في] الحكم الرابع نسأل هذا السؤال:

وكلامنا في عالم الثبوت. ثبوتاً وإمكاناً: هل يجوز للمكلف أن يعجز نفسه بحيث يجزي الحكم الاضطراري عن الحكم الاختياري؟

[بحث الإجزاء من المباحث الصعبة]

هذه مباحث دقيقة، يقول المحقق العراقي رحمه الله من سيطر على ثلاثة مطالب أصولية، هانت عليه بقية المطالب الأصولية، وهي يحتاجها في نصف الفقه، وهي مبحث الإجزاء ومنجزية العلم الإجمالي والاستصحاب.

فبحث الإجزاء من المباحث الصعبة والمعقدة فإذا هضمها الطالب جيداً، وهضم بحث منجزية العلم الإجمالي والاستصحاب فيكون قد هضم وأهم وأصعب ثلاثة مباحث في علم الأصول، فيسهل عليه ما عداها من المطالب الأصولية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لها ثمرة عملية كبيرة يحتاجها في نصف المباحث الفقهية.

كلامنا في عالم الثبوت [وفيها أربع صور]

وقد ذكرنا في عالم الثبوت أربع صور، فيجب أن نجيب على هذا السؤال وفق الصور الأربع:

الصورة الأولى كان مفادها إن الإتيان بالوظيفة الاضطرارية تحقق كل الملاك.

الصورة الثانية كان مفادها إن الإتيان بالوظيفة الاضطرارية تحقق جل وغالب الملاك والغرض ويبقى شيء بسيط من الغرض ليس لزومياً.

فبناءً على الصورة الأولى والصورة الثانية: يجوز للمكلف أن يوقع نفسه في الاضطرار اختياراً، لكن لو فرض أن وفاء العمل بما يفي به من مصلحة ليس مشروطاً بأن لا يكون الاضطرار بسوء الاختيار.

أما لو كان الإتيان بالعمل الاضطراري لكي يجزي عن العمل الاختياري قد اشترط فيه أن يكون الاضطرار لا بسوء الاختيار.

فحينئذ لا يجزي الإتيان بالعمل الاضطراري عن سوء اختيار.

والسر في ذلك: أن الإتيان به يفوت كل الغرض، نظراً لعجزه عن العمل الاختياري وبطلان عمله الاضطراري لأنه قد اشترط في صحة العمل الاضطراري أن لا يكون عن سوء اختيار.

إذا خلاصة جواب الصورة الأولى والثانية: هل العمل الاضطراري قد اشترط في الإتيان به أن لا يكون عن سوء اختيار أو لا؟

إن اشترط أن لا يأتي بالعمل الاضطراري عن سوء اختيار، وقد جاء به عن سوء اختيار فحينئذ لا يتحقق الإجزاء. لأن العمل الاختياري كالصلاة من قيام هو عاجز عنها، والعمل الاضطراري كالصلاة من جلوس هو وإن كان قادر عليها لكن غير صحيحة لأنه لم يأت بشرطها، فيكون إذا عجز نفسه اختياراً قد فوت تمام الملاك والغرض بناءً على الصورة الأولى، وقد فوت غالب وجل الملك والغرض بناءً الصورة الثانية فلا يتم الإجزاء.

وأما الصورة الثالثة: وهي ما لو كان العمل الصح الاضطراري موجباً للوفاء بجزء من الملاك والغرض، وموجب أيضاً لفوات جزء مهم ولزومي من الغرض والملاك. وكان الجزء الذي يفوت من الغرض غير قابل للتدارك.

فحينئذ لا يجوز للمكلف بناء على الصورة الثالثة أن يوقع نفسه في الاضطرار اختياراً. سواء فرض أن الإتيان بالعمل الاضطراري كان مشروطاً بأن لا يكون الاضطرار بسوء الاختيار أو لا لم نشترط ذلك. فبناء على الاشتراط وعلى الإطلاق لا يصح ولا يجوز للمكلف أن يوقع نفسه في الاضطرار.

والسر في ذلك:

أن العمل الاضطراري كالصلاة من تيمم أو من جلوس:

[الصورة الأولى] إن كان مشروطاً بأن لا يوقع نفسه في الاضطرار اختياراً، حينئذ يكون قد خالف الشرط، فلا يكون العمل الاضطراري صحيحاً، فلا يجزه العمل الاضطراري عن العمل الاختياري.

[الصورة الثانية] وأما بناء على عدم الاشتراط يعني الإتيان بالعمل الاضطراري غير مشروط بأن لا يعجز نفسه اختياراً، فحينئذٍ إذا جاء بالعمل الاضطراري يكون قد جاء بجزء الملاك، لكنه فوت جزء الملاك الآخر والجزء الآخر لزومي ولا يمكن تداركه والحال أنه في أثناء الوقت لا يستطيع الإتيان بالعمل الاختياري كالصلاة من قيام، فيكون حينئذ إذا عجز نفسه اختياراً قد تعمد تفويت الجزء الآخر من الملاك وهو أمر لزومي فلا تصح هذه الصلاة الاضطرارية.

وأما الصورة الرابعة: وهو أن المكلف إذا جاء بالعمل الاضطراري كالصلاة من جلوس أو غيرها، يكون قد جاء بجزء الملاك وفوت الجزء الآخر من الملاك، والجزء الآخر كان لزومياً ومهما لكن يمكن تداركه.

فحكم الصورة الرابعة كحكم الثالثة بلا فرق.

فيقال: لا يجوز للمكلف أن يوقع نفسه في الاضطرار بسوء الاختيار، سواء فرض أن الجواز الوضعي للعمل الاضطراري كان مشروطاً بكون الاضطرار لا بسوء الاختيار أو لم يفرض ذلك، وقيل بأن العمل الاضطراري مطلق وغير مشروط عدم تحقيق الاضطرار بسوء اختيار.

[الفرض الأول] فإنه على الفرض الأول وهو الاشتراط يكون المكلف قد فوت على نفسه تمام الملاك لعجزه إلى آخر الوقت حسب الفرض هو عاجز إلى آخر الوقت، فهو يعجز عن الإتيان بالعمل الاختياري وهي الصلاة من قيام في المثال.

وبطلان عمله الاضطراري لفقده شرطه إذ أن الإتيان بالعمل الاضطراري على الفرض الأول مشروط أن لا يكون بسوء، وقد جاء به بسوء اختياره، فيكون هذا العمل باطلاً، لا يستطيع الإتيان بالعمل اختياري كالصلاة من قيام ولا يستطيع الإتيان بالعمل الاضطراري فهو غير صحيح وغير مجزئ لفقد شرطه هذا بناء على الاشتراط هذا الفرض الأول.

الفرض الثاني لو افترضنا عدم الاشتراط العمل الاضطراري لا يشترط فيه أن يكون الاضطرار بسوء الاختيار أو بحسن الاختيار. هنا أيضاً هذا المكلف يكون قد فوت على المولى قسماً مهماً من الغرض.

فصحيح حينما جاء بالصلاة الاضطرارية كالصلاة من جلوس أو تيمم يكون قد جاء بجزء مهم من الغرض، لكن يبقى الجزء الآخر لم يأتي به وهذا الجزء الآخر مهم ولزومي، وقد افترضنا في الصورة الرابعة أنه يمكن تداركه ولكن افترضنا استمرار العجز إلى آخره الواقع. وبالتالي لا يمكن تدارك الجزء اللزومي المهم داخل الوقت بل يمكن تداركه خارج الوقت، وبالتالي لا يجزي العمل الاضطراري.

أعيد وأكرر: العمل الاضطراري بناء على الصورة الرابعة:

[الفرض الأول] إما مشروط بأن لا يكون بسوء الاختيار أو غير مشروط، إذا مشروط فالمشروط عدم عند عدم شرطه إذا جاء بالعمل الاضطراري بسوء اختياره فهذا عمل فاقد لشرطه فلا يكون صحيحاً ولا مشروعاً.

الفرض الثاني أن هذا العمل الاضطراري لا يشترط فيه أن لا يكون بسوء الاختيار المهم الاضطرار بحسن اختياره أو بسوء اختياره هنا أيضاً لا يجزي العمل الاضطراري ولا يصح أن يوقع نفسه في الاضطرار.

والسر في ذلك: أنه لو أوقع نفسه في الاضطرار والصلاة من جلوس بسوء اختياره فحينئذٍ يكون قد جاء بجزء من الملاك والغرض، ويكون قد فوت الجزء الآخر وهو الجزء اللزومي، والمهم من الملاك بسوء اختياره.

وقد افترضنا استمرار العذر إلى نهاية الوقت فيكون قد فوت جزء الملاك اللزومي وهذا لا يجزي ولا يصح فلا يصح أن يعجز نفسه.

صارت النتيجة النهائية:

جواب السؤال في الحكم الرابع لو سألك سائل: هل يجوز للمكلف أن يعجز نفسه أو لا؟

الجواب:

بناءً على الصورة الأولى والثانية إن قلنا بالاشتراط لا يجوز وإن قلنا بعدم الاشتراط يجوز.

وأما بناء على الصورة الثالث والرابعة فلا يجوز للمكلف أن يعجز نفسه سواء قلنا بالاشتراط أو بعدم الاشتراط.

هذا تمام الكلام في البحث الثبوتي، وقد ظهر أنه بلحاظ مرحلة الثبوت يتعين إجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر اختيار في خصوص الصور الثلاث الأول بخلاف الصورة الرابعة فإنه لا يتحقق فيها الإجزاء.

هذا تمام الكلام وتمام النتيجة في المرحلة الأولى مرحلة الثبوت أي عالم الإمكان يمكن تصور أربع صور، الثلاثة الأولى منها تحقق الإجزاء والرابعة لا تحقق الإجزاء.

 

المرحلة الثانية

البحث الإثباتي

أي بلحاظ مرحلة ظاهر الدليل أي لو رجع إلى الآيات الكريمة والروايات الشريفة ففي مرحلة الإثبات هل نستفيد إجزاء العمل الاضطراري عن العمل الاختياري وفقاً لظاهر الأدلة أو لا؟

يقع الكلام في مسألتين:

المسألة الأولى إذا ارتفع العذر في أثناء الوقت فهل تجب الإعادة أو لا؟

المسألة الثانية إذا ارتفع العذر بعد الوقت فهل يجب القضاء أم لا؟

 

ولنشرع في المسألة الأولى: ارتفاع العذر في أثناء الوقت

وهنا يوجد فرضان:

الفرض الأول أن نفرض أنه قد أخذ في موضوع دليل الأمر الاضطراري شرط وهو استمرار العذر إلى آخر الوقت، فلا تصح الصلاة من جلوس أو من تيمم إلا إذا عدم الماء ولم يمكنه القيام إلى أن يخرج الوقت.

هذا الفرض وهو استمرار العذر طول الوقت بقاء العذر طول الوقت هذا في الحقيقة خارج عن موضوع بحثنا وكلامنا. فبعد ارتفاع العذر ينكشف أنه لم يكن هناك أمر اضطراري حتى يجزي أو لا يجزي. غاية الأمر أن يفرض أنه كان قد ثبت له ظاهراً انطباق الأمر الاضطراري عليه.

إما بناءً على الاستصحاب الاستقبالي أو بفرض قيام بينة على أن الاضطرار سيستمر، فيدخل البحث في إجزاء الأمر الظاهري وعدم إجزائه، والذي سيأتي بحثه ولعل النتيجة تكون عدم الإجزاء.

خلاصة الفرض الأول:

نضرب مثال حتى تصير المسألة سهلة.

إذا اشترطنا في صحة العمل الاضطراري كالصلاة بالتيمم أو من جلوس بقاء واستمرار العذر إلى نهاية الوقت، فصلى في أثناء الوقت، مثلاً قامت بينة أطباء اثنان عادلان، قالا له: أنت لن تستطيع القيام صل من جلوس، في أثناء الوقت استطاع أن يصلي من قيام، أو قالوا له: الماء لن يأتي فصلى من تيمم إلى آخر الوقت، فصلى من تيمم فوجد الماء في أثناء الوقت.

هنا انكشف أن الذي جاء به ليس مأموراً اضطرارياً لأن المأمور الاضطراري متى يشرع؟ إذا استمر الاضطرار والانطرار إلى نهاية الوقت، والحال أنه قد ارتفع فهو قد جاء بالصلاة من تيمم أو من جلوس بناء على ماذا؟ على الاستصحاب الاستقبالي يعني هو في السابق كان لا يستطيع استصحب عدم استطاعته إلى نهاية الوقت، أو اعتمد على بينة، هذا يكون خارج كيف يكون خارج؟

هذا مفاده هل إجزاء الأمر الظاهري هو الأمر ظاهراً حكمه أن يصلي من جلوس أو بالتيمم، انكشف الواقع خلاف ذلك، فهنا هل يجزئ الأمر الظاهري وهو الصلاة من جلوس أو تيمم عن الأمر الواقعي الصلاة من قيام أو من وضوء، هذا يصير بحث آخر صار بحث إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي وليس إجزاء الأمر الاضطراري عن الاختيار، هذا الفرض الأول إذا اشترطنا استمرار العذر طوال الوقت.

الفرض الثاني إن موضوع دليل الأمر الاضطراري إنما هو خصوص العذر حين العمل من دون اشتراط استمرار العذر إلى نهاية الوقت، أي متى ما حصل عندك عذر شرع لك أن تصلي من جلوس أو تصلي بالتيمم ولا يشترط استمرار العذر إلى نهاية الوقت، هنا تأتي مسألة إجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الاختياري، فلو صلى في بداية الوقت بالتيمم أو جلوس ثم قبل نهاية الوقت وجد الماء واستطاع القيام، فهل الصلاة الاضطرارية التي جاء بها في أول الوقت تجزي عن الصلاة الاختيار التي تمكن منها في وسط الوقت أو آخره؟

هنا يأتي هذا الكلام: هل دليل الأمر الاضطراري مطلق أو مقيد، دليل صلّ من قيام ودليل صلّ بالوضوء، هل هو مطلق؟ يعني سواء كنت مضطراً أو مختاراً، إذا مطلق تصير الصلاة الاضطرارية غير مجزية، إذا مقيد يعني صلّ من قيام إلا إذا اضطررت إلى الجلوس، صلّ مع الوضوء إلا إذا اضطررت فصلي مع التيمم.

فمن هنا يقع الكلام في إطلاق الأمر الاختياري هل هو مقيد بالأمر الاضطراري أو لا؟ وما هي طريقة وأسلوب تقييد الأمر الاختياري بالأمر الاضطراري؟

يوجد أسلوبان:

الأسلوب الأول لمدرسة المحقق النائيني وهي التمسك بالدلالة الالتزامية العقلية لدليل الأمر الاضطراري، فيقال الأمر الاضطراري كالصلاة من جلوس له دلالة عقلية التزامية توجب تقييد الدليل الاختياري، طبعاً الأسلوب الأول للميرزا النائيني وتلميذه السيد الخوئي.

الأسلوب الثاني التمسك بظاهر الأدلة فظاهر الأدلة الشرعية إثباتاً أن الأدلة الاضطرارية والأوامر الاضطرارية تقيد إطلاق الأوامر الاختيارية.

إذا يقع الكلام في موجب التقييد، فهل الذي يوجب التقييد؟ هو ظاهر الدليل كما في الأسلوب الثاني لسائر الفقهاء والأصوليين، أو موجب التقييد هو الدلالة الالتزامية المستخلصة من ظاهر الدليل الاضطراري.

هذان الأسلوبان لإثبات التقييد يأتي عليهما الكلام.

logo