« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

46/05/02

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائة وثمانية وثمانون): الحكم الثالث جواز البدار تكليفاً

الموضوع: الدرس (مائة وثمانية وثمانون): الحكم الثالث جواز البدار تكليفاً

 

[الحكم الثالث: جواز البدار تكليفاً]

بيان ذلك [في ضمن اسئلة]:

أن العقل أو الشارع هل يرخص بالمسارعة بالإتيان بالأمر الاضطراري في أول الوقت؟ فهل يرخص بالإتيان بالصلاة من جلوس أو الصلاة مع التيمم في أول الوقت؟ أو لا يرخص في ذلك ويقول: يجب أن تنتظر إلى نهاية الوقت فلعله تحصل على الماء. ولعله يمكنك الصلاة من قيام، فهل يجوز البدار تكليفاً؟ أي هل يجوز لك أن تبادر وتأتي بالصلاة الاضطرارية من أول الوقت؟

الجواب يبتني على الصور الأربع التي ذكرناها:

فبناءً على الصورة الأولى والثانية يجوز البدار، بخلاف الصورة الثالثة فإنه لا يجوز البدار تكليفاً.

توضيح ذلك:

الصورة الأولى مفادها أن تكون الوظيفة الاضطرارية كالصلاة من جلوس، وافية بتمام ملاك الصلاة من قيام فلا نقص. فحينئذ إذا جاء بالصلاة من جلوس فإنه قد جاء بتمام الغرض، فلا إشكال في جواز الإتيان بالصلاة في أول الوقت.

وأما الصورة الثانية وهي أن تكون الوظيفة الاضطرارية كالصلاة من جلوس وافية بجل ملاك الواقع، بحيث لا يبقى من ملاك الواقع إلا بقية استحبابية يرضى المولى بتفويتها، فحينئذ لا شك ولا ريب أنه يجوز أن يبادر إلى الصلاة الاضطرارية في أول الوقت. فيأتي بالصلاة من جلوس فإنه قد جاء بجل ملاك والمولى يرضى بتفويت بقية الملاك.

وكذلك بالنسبة إلى الصورة الرابعة وهو أن تكون الوظيفة الاضطرارية كالصلاة من جلوس وافية بجزء من ملاك الواقع لكن يبقى جزء آخر مهم ولزومي، لكنه غير قابل للاستيفاء، فما دام الجزء الباقي غير قابل للاستيفاء فليؤتى بالوظيفة الاضطرارية التي تفي بجزء الملاك.

وبعبارة أخرى: إن الإتيان بالصلاة الاضطرارية في أول الوقت كالصلاة من جلوس لا تفوت الغرض، بل هذه الصلاة تحقق جزءاً من ملاك الواقع، والجزء الآخر غير قابل للاستيفاء مطلقاً سواء جاء بالصلاة في أول الوقت أو في آخر الوقت.

إذاً بناءً على الصورة الأولى والصورة الثانية والصورة الرابعة فإنه تجوز المبادرة تكليفاً. ولا يحرم عليه أن يبادر إلى بالصلاة كالصلاة من جلوس.

[الصورة الثالثة]

لكن الكلام كل الكلام في الصورة الثالثة: وهي أن تكون الوظيفة الاضطرارية وافية بجزء من ملاك الواقع، ويبقى جزء آخر مهم ولزومي يتعذر استيفاؤه حتى لو صلى بعد ذلك من قيام.

[في] الصورة الرابعة يمكن استيفاءه. الجزء الآخر يمكن استيفاؤه. فحينئذٍ (بناءً على الصورة الرابعة) إذا صلى من جلوس أمكنه بعد ذلك أن يأتي بالصلاة من قيام استيفاء لباقي الملاك فهنا لا يوجد إشكال جاء بالصلاة الاضطرارية في أول الوقت وهي الصلاة من جلوس وهذه الصلاة لم تفوت باقي الملاك نظراً لإمكان استيفاء باقي الملاك بالإتيان بالصلاة من قيام فيما بعد، فعلى الصورة الرابعة لا يوجد إشكال.

إنما الكلام بالنسبة إلى الصورة الثالث: وهي أن الصلاة من جلوس تفي ببعض الملاك ويبقى جزء من الملاك لزومي لا يمكن استيفاؤه فحينئذٍ إذا قيل إذا جاء بالصلاة من جلوس فإنه قد تسبب في تفويت الملاك.

[التفصيل في الصورة الثالثة]

فيكون التفصيل في الصورة الثالثة هكذا:

إما أن نشترط التعذر في تمام الوقت أو لا؟

فيكون التفصيل هكذا بالنسبة إلى الصورة الثالثة:

إن كان تعذر بعض الملاك حاصلاً حتى آخر الوقت: فحينئذ من الواضح أن الصلاة الجلوسية لا تجري نظراً لعدم الإتيان بالملاك، فهذه الصلاة من جلوس لا تجزي أي لا تصح.

لكن لا يحرم الإتيان بها فهي وإن كانت صلاة غير صحيحة لأنها غير وافية بالملاك إذ أن الإتيان بالصلاة من جلوس يحقق بعض الملاك وافترضنا أن بقية الملاك لزومي ولا يمكن استيفاؤه. فإذا هذه الصلاة لا تصح وضعاً لأنه لا يمكن بها تحقيق تمام الملاك.

لكن يصح الإتيان بها تكليفاً يعني يجوز أن تأتي بها حتى لو لم تكن وافية بالملاك.

هذا إذا قلنا إن الملاك يتعذر في تمام الوقت.

وإن كان تعذر بعض الملاك حاصلاً في أول الوقت: مع احتمال التمكن من الملاك فيما بعد كوسط الوقت أو آخر الوقت.

فحينئذ يكون الإتيان بالصلاة من جلوس في أول الوقت يؤدي إلى تفويت غرض المولى في وسط الوقت أو آخر الوقت. فلا يجوز الإتيان بهذه الصلاة لأن فيها تفويت لغرض المولى.

[الخلاصة]

إذا الصورة الثالثة فيها تفصيل هل تعذر الملاك في تمام الوقت أو في أول الوقت فقط؟

[تارة:] إن كان الملاك في أول الوقت فقط فحينئذ لا يجوز المبادرة إلى هذه الصلاة، بل يجب الانتظار إلى حين تحقق الملاك وسط الوقت أو آخر الوقت. فالمبادرة إلى الصلاة من جلوس في فرض أن التعذر قد يختص بأول الوقت لا تمام الوقت لا يجوز.

[وتارة:] بخلاف ما إذا افترضناه أن تعذر الملاك يكون في تمام الوقت، فحينئذ صحيح أن الإتيان بالصلاة في أول الوقت لا يحقق تمام الملاك لأن الجزء الآخر من الملاك لزومي وغير قابل للاستيفاء طول الوقت، فهذه الصلاة غير صحيحة وضعاً، لكن يجوز الإتيان بها تكليفاً، لماذا؟ لأنها لا تؤدي إلى تفويت الملاك.

وبهذا يظهر: أن جواز البدار الوضعي في الصورة الثالثة يعاكس جواز البدار التكليفي في نفس الصورة الثالثة.

بمعنى أنه إن ثبت في هذه الصورة أن الصلاة الجلوسية مفوتة لبعض الملاك مطلقاً حتى لو أتي بها في أول الوقت، إذا يجوز البدار وضعاً ولا يجوز تكليفاً.

وإن كانت مفوتة لبعض الملاك على تقدير وفرض عدم الإتيان بها في أول إذا لا يجوز البدار وضعاً في أول الوقت، لكن يجوز تكليفاً.

إذا في الصورة الثالثة اختلفت الصحة الوضعية عن الصحة التكليفية يعني الجواز الوضعي معاكس للجواز التكليفي.

فحينئذ قد يقال: إن عدم الجواز التكليفي يستلزم عدم الجواز الوضعي، فإذا كانت الصلاة الجلوسية وافية لبعض الملاك ومفوتة للبعض الآخر مطلقاً حتى في أول الوقت فلا يجوز البدار لا وضعاً ولا تكليفاً.

والسر في ذلك:

أن النهي عن العبادة يقتضي الفساد، فإذا ثبت عدم الجواز تكليفاً، فإنه يثبت البطلان وضعاً، فهل هذه الملازمة تامة أو لا؟ فهل بمجرد ثبوت عدم الجواز التكليفي يثبت البطلان الوضعي أو لا؟

تحقيق الكلام:

[ملاك التفويت]

النتيجة تكون تابعة للملاك.

فما هو ملاك التفويت؟ لأننا نفترض في الحالة الثالثة أن الإتيان بالصلاة الاضطرارية كالصلاة من جلوس يحقق بعض الغرض ويفوت البعض الآخر للغرض.

[سؤال:] ما هو ملاك فوات بعض الملاك اللزوم الذي لا يقبل الاستيفاء؟

[الجواب:] يوجد ملاكان نتكلم بناءً على ملاكين وعلى أساسهما تختلف النتيجة.

الملاك الأول ملاك المضادة.

الملاك الثاني ملاك المانعية.

 

أما الملاك الأول: ملاك المضادة

فنقول: إن كان تفويت الجزء المهم من غرض المولى بملاك المضادة بينه وبين الفعل الجلوس بحيث كانا ضدين فلا موجبة لتعلق النهي بهذا الفعل. لأن الأمر بأحد الضدين الوجوديين لا يقتضي النهي عن ضده الآخر حتى يقتضي البطلان.

مثال ذلك: الصلاة الاضطراري تحقق جزء الملاك وهي الصلاة من جلوس، والصلاة الاختيارية كالصلاة من قيام تحقق جزء الملاك أو تمام الملاك.

فقد يقال: يوجد تضاد بين الصلاة من قيام والصلاة من جلوس، فإذا جاء من جلوس فحينئذ لا يستطيع أن يحقق تمام الغرض الذي يحققه الإتيان بالصلاة من قيام.

فإذا نهي عن الضد أي نهي عن الصلاة من جلوس، ففي هذه الحالة يثبت الضد الآخر وهو الصلاة من قيام.

وفيه: إن الأمر بأحد الضدين الوجوديين كالصلاة من قيام، لا يقتضي النهي عن ضده الآخر كالصلاة من جلوس حتى يقتضي البطلان.

غاية ما يقتضي هذا النهي أن الأمر يرشد إلى أنه متى ما اشتغلت بأحد الضدين فاتك الضد الآخر، الذي هو واجب والذي هو يحقق غرض المولى، فيكون المنع منعاً عقلياً لا شرعياً فلا يقتضي البطلان.

يعني صار هنا مثل ما يذكر في بحث التزاحم من ضيق الخناق بالنسبة إلى قدرة المكلف، المكلف إما أن يصلي وإما أن يزيل لا يمكن أنه في نفس الوقت يصلي ويزيل، هذا بالنسبة قلنا أن الملاك هو الضد.

الملاك الثاني: ملاك المانعية

أن يكون التفويت بملاك المانعية، باعتبار أن الفعل من جلوس مانع عن حصول الجزء الأهم من الغرض، يعني يمنع من الصلاة من قيام يعني من غرض الصلاة من قيام، ومن الواضح أن عدم المانع من المقدمات، فيصبح عدم الفعل من جلوس من مقدمات الفعل من قيام.

[ثلاثة مباني في المانعية]

إذاً ملاك التفويت هو ملاك المانعية، وهنا توجد ثلاثة مباني:

على المبنى الأول والثاني لا توجد مشكلة لا توجد ملازمة بين فساد الوضعي والتكليفي، لكن المشكلة بناء على المبنى الثالث، والمباني الثلاثة كما يلي:

المبنى الأول أن نبني على إنكار المبغوضية والمحبوبية المقدمية.

فمن قال إن المولى إذا أحب شيئاً أحب مقدمته، وإذا أبغض شيئاً أبغض مقدمته، فإن بنينا على إنكار المقدمية بالنسبة إلى المبغوضية والمحبوبية فهنا لا يوجد أي إشكال. صار عدم الصلاة من جلوس مقدمة إلى الصلاة من قيام. الصلاة من قيام محبوبة من قال أن عدم الصلاة من جلوس الذي هو مقدمة للمحبوب تكون أيضاً محبوبة.

وهكذا نقول: ترك الصلاة من قيام مبغوض، ومقدمته الصلاة من جلوس، فالصلاة من جلوس مانع من الصلاة من قيام ومقدمة المبغوض مبغوض. فتثبت المبغوضية للصلاة من جلوس.

والجواب: نحن على المبنى الأول ننكر المبغوضية والمحبوب المقدمية، يعني البغض والحب لا يترشح من ذي المقدمة إلى المقدمة.

المبنى الثاني أن نبني على ثبوت المبغوضية والمحبوبية المقدمية، لكن نلتزم بأن المبغوضية المقدمية الغيرية لا تصلح للنهي الغيري. وحينئذ لا يثبت البطلان.

يعني نلتزم بالشق الأول مقدمة المبغوض مبغوض ومقدمة المحبوب محبوب لكننا نلتزم بأن المبغوضية المقدمية الغيرية تصلح للنهي الغيري.

المبنى الثالث هو الذي فيه الإشكال أولاً نلتزم المحبوبية والمبغوضية الغيرية. وثانيا نلتزم بأن المبغوضية المقدمية الغيرية تصلح للنهي الغيري.

فهنا ينحصر الإشكال فنقول: إذا كان تفويت الفعل الجلوسي للجزء المهم من الغرض بملاك المانعية، وقلنا إن مقدمة الواجب واجبة وقلنا إن المبغوضية الغيرية تستدعي البطلان، فحينئذ يكون هذا الفعل وهو الصلاة من جلوس يعني عدم الصلاة من جلوس مقدمة للواجب يعني مقدمة للصلاة من قيام فيكون محبوباً غيرياً، تصير الصلاة من قيام محبوبة بالذات وعدم الصلاة من جلوس محبوب للغير.

إذ أن الصلاة من جلوس نقيض الصلاة من قيام، فيكون الفعل من جلوس مبغوضاً غيرياً، وقد فرضنا أن البغض الغيري يستدعي البطلان كالبغض النفسي، فحينئذٍ يأتي الإشكال.

[جواب الشيهد الصدر]

وقد أجاب الشهيد الصدر رحمه الله[1] على هذا الإشكال بـ بيانيين، وردهما. وانتهى إلى أن هذه المشكلة تبقى موجودة ولا تدفع بـ البيانيين، إلا إذا التزمنا بإنكار هذا المبنى الثالث فننكر الأصول الموضوعية للإشكال بأن ننكر أن المانعية والمبغوضية الغيرية واقتضاء النهي الغيري للبطلان. نقول: هذا غير مسلم، ولا أقل من إنكار اقتضاء النهي الغيري للبطلان.

تتمة الكلام تأتي.


logo