« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

46/04/26

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائة وسبعة وثمانون): بحث الإجزاء

الموضوع: الدرس (مائة وسبعة وثمانون): بحث الإجزاء

 

يوجد في بحث الإجزاء بحثان:

أحدهما كبروي

والآخر صغروي

والبحث الكبروي يمكن طرحه في صيغتين:

الصيغة الأولى هل الإتيان بما يفي بالغرض يخرج التكليف عن الذمة والعهدة أو لا؟

الصيغة الثانية هل الإتيان بمتعلق الأمر يجزي ويخرج التكليف عن الذمة والعهدة أو لا؟

والفرق بين الصيغتين:

أن الصيغة الأولى مصبها المحصل والمحقق للغرض، والصيغة الثانية مصبها الفعل الذي يكون مصداقاً لمتعلق الأمر، والبحث في كل من هاتين من الصيغتين عقليٌ.

والصحيح هو الحكم بالإجزاء والخروج عن العهدة وبراءة ذمة المكلف في كلتا الصيغتين.

أما الصيغة الأولى وهي الإتيان بما يحقق غرض المولى، فيحكم فيها بالإجزاء لأن حق المولى على العبد ليس إلا استيفاء غرض المولى، وبعد أن استوفى العبد حق المولى لا يستقل العقل ولا يحكم بحق على العبد. لأن الحق على العبد نشأ من إدراك العقل لحق المولوية على العبد. وقد استوفى العبد حق المولوية حينما أتى بما يحقق غرض المولى.

إذاً لم يبق في ذمة العبد شيء أو تكليف لأنه قد افرغ ذمته حينما حقق غرض المولى. فالإتيان بالفعل الوافي بالغرض يوجب فراغ الذمة والعهدة من التكليف المتوجه إلى العبد هذا بناء على الصيغة الأولى.

وأما بناء على الصيغة الثانية وهي الإتيان بمتعلق الأمر ففي أيضاً يحكم بالإجزاء لأن الإتيان بمتعلق الأمر يساوي سقوط ذلك الأمر. وقدبرهن على أن المكلف إذا جاء بمتعلق الأمر فإن الأمر يسقط. إذ أن الامتثال يوجب سقوط الأمر وفعليته. فإذا أتى المكلف بمتعلق الأمر سقط الأمر، سواء بقي الغرض أو لم يبقى.

مثلاً: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾[1] ، فقام وصلى، فإذا صلى سقط الأمر بالصلاة، وإن بقي الغرض حيث أن هذا المصلي وهو يصلي يغازل النسوان، وبعد أن يصلي يكذب، فالغرض ما تحقق وهو الانتهاء عن الفحشاء والمنكر. ولكن لأنه جاء بمتعلق الأمر وهو الصلاة فإن الأمر بالصلاة يسقط بالامتثال حينما يأتي المكلف بمتعلق الأمر. ومع سقوط الأمر لا عهدة في البين. وهذا هو معنى الإجزاء أن أي أن إلا بمتعلق الأمر يوجب الإجزاء وسقوط الأمر عن الفعلية.

وهذا الكلام واضح لا ريب فيه بالنسبة إلى البحث الكبروي.

[الكلام في البحث الصغروي]

إنما الكلام كل الكلام في البحث الصغروي، وقد عقد بحث الإجزاء في علم الأصول لبيان صغريات الإجزاء.

وخلاصته: هل أن الإتيان بالمأمور به الاضطراري أو الظاهري يوجب سقوط الأمر أو لا؟

فمثلاً:

هل الإتيان بالتيمم يوجب سقوط بالوضوء؟

وهل الإتيان بالصلاة من جلوس يوجب سقوط الأمر بالصلاة من قيام؟

فهل الأمر الاضطراري كالصلاة من أو عن تيمم يوجب سقوط الأمر الاختياري كالصلاة من قيام أو عن وضوء؟

وهكذا هل يجزئ الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي؟

فهذا المكلف يوم الجمعة إما أن يصلي صلاة الجمعة أو يصلي صلاة الظهر جماعة، فلو افترضنا أنه يقلد من لا يرى مشروعية صلاة الجمعة في عصر الغيبة، وصلى صلاة الظهر جماعة ولم يصلها جمعة، وكان في الواقع الواجب عند الله هو صلاة الجمعة لا صلاة الظهر، فهل الإتيان بالمأمور به ظاهراً؟ وهو صلاة الظهر يجزي عن المأمور به واقعاً وهو صلاة الجمعة مثلاً؟

ويمكن العكس أنه صلى الجمعة ظاهراً وكان في الواقع عند الله الواجب في عصر الغيبة هو صلاة الظهر وليس صلاة الجمعة، فإذا أتى بصلاة الجمعة ظاهراً هل يسقط من ذمته التكليف بصلاة الظهر؟

وبعبارة أخرى: هل الإتيان بالمأمور به الاضطرار أو الظاهري يشكل مصداقاً لإحدى الصيغتين المذكورتين بلحاظ الأمر الواقعي أو لا؟

هل الإتيان بالصلاة عن تيمم أو من جلوس أو صلاة الجمعة يحقق الغرض من الأمر الواقع وهو صلاة الظهر؟

أو هل الإتيان بهذه الصلوات يوجب سقوط الأمر عن الفعلية لأنه قد جاء بمتعلق الأمر؟

[الجواب:]

فإذا قيل: بأن الإتيان بالمأمور به الاضطراري أو المأمور به الظاهري يشكل مصداق للفعل الوافي بغرض الواقع كما في الصيغة الأولى، أو يكون مصداقاً لمتعلق الأمر الواقعي كما في الصيغة الثانية، فيدخل تحت إحدى الصيغتين الكبرويتين ويحكم به بالإجزاء، وأما إذا قيل أنه ليس مصداقاً لإحدى الصيغتين فلا يحكم به بالإجزاء؟

ومصداقية الفعل لإحدى الصيغتين لها فرضان:

الفرض الأول أن يفرض استظهار هذه المصداقية من شخص دليل خاص وليس بدليل عام، كمن يستفيد من رواية خاصة أن الصلاة من جلوس تجزي عن الصلاة عن الصلاة من قيام، فتكون الصلاة الاضطرارية من جلوس مصداق لإحدى الصيغتين أي تحقق غرض الصلاة من قيام أو تشكل مصداقاً لمتعلق الأمر.

ولا شك إن الاستفادة من الدليل الخاص هي استفادة فقهية لأنها تقع في طريق استنباط حكم خاص، وليس نظر الأصولي إلى مثل هذه الاستفادة الخاصة إذا أن الأصولي يبحث عن العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ولا يبحث عن العناصر الخاصة في عملية الاستنباط.

الفرض الثاني الاستفادة العامة، وذلك عن طريق النظر إلى ألسنة الدليل الكلية للأحكام الظاهرية والاضطرارية وأدلتها.

فيقال: إننا لو راجعنا أدلة الأحكام الاضطرارية بشكل عام وأدلة الأحكام الظاهري بشكل عام فهل يستكشف من أدلتها أن كل حكم ظاهري يحقق غرض الحكم الواقعي؟ كما في الصيغة الأولى.

وهل يستفاد منها أن الإتيان بمتعلق الحكم الظاهري يعني الإتيان بمتعلق الحكم الواقعي؟ كما في الصيغة الثانية.

[البحث اصولي]

هكذا يكون البحث أصولياً إذ أنه يبحث في العناصر المشتركة لعملية الاستنباط، إذا كلامنا في الفرض الثاني وهو النظر إلى أدلة الأحكام الظاهرية والاضطرارية، لنرى هل أنها تثبت أن الدليل الظاهري يقوم مقام الدليل الواقعي؟ وهل إن الدليل الاضطراري يقوم مقام الحكم الاختياري؟

بإحدى الصيغتين الصيغة الأولى محقق الغرض، والصيغة الثانية الإتيان بالمتعلق الموجب لسقوط الأمر.

 

إذا الكلام يقع في مقامين:

المقام الأول في الإجزاء في الأوامر الاضطراريه.

المقام الثاني في الإجزاء في الأوامر الظاهرية.

 

[المرحلتان في مقام الأول]

والكلام يقع في المقام الأول أي إجزاء الأوامر الاضطراري عن الأوامر الاختيارية، يقع على مرحلتين:

المرحلة الأولى في مقام الثبوت، بمعنى ما هي الصور التي يمكن أن يقع عليها الواجب الاضطراري؟ وما هي فوارق هذه الصور؟ وآثارها وهي أربعة كما سيأتي.

المرحلة الثانية مقام الإثبات بمعنى أن أدلة الأحكام الظاهرية ظاهرة في أي صورة من الصور الأربع التي سنذكرها في مقام الثبوت والإمكان.

الكلام في المرحلة الأولى: عالم الثبوت

[سؤال:] يعني كيف يمكن أن نتصور الأوامر الاضطرارية؟

والجواب: توجد صور أربعة للأوامر الاضطرارية ثبوتاً، يعني يمكن تصوير أربع صور:

الصورة الأولى أن تكون الوظيفة الاضطرارية كالصلاة من جلوس وافية بتمام ملاك وغرض الصلاة من قيام بلا نقصٍ، وحينئذ قطعاً يتحقق الإجزاء.

الصورة الثانية أن تكون الوظيفة الاضطرارية وافية بأغلب وجل ملاك الواقع، بحيث لا يبقى من ملاك الواقع إلا بقية استحبابيه يرضى المولى بتفويتها، ومن الواضح أن هذه الصورة تقتضي الإجزاء لأنه وفى بأغلب الملاك وما بقي مستحب وليس بواجب ولازم.

الصورة الثالثة أن تكون الوظيفة الاضطرارية وافية بجزء من ملاك الواقع، ويبقى جزء آخر مهم ولزومي، لكن يتعذر استيفاؤه، حتى لو صلى بعد ذلك من قيام، فإنه لن يستطيع استيفاء باقي الملاك المهم.

ولا شك أن هذه الصورة الثالثة أيضاً تقتضي الإجزاء لأنه قد جاء بجزء من الغرض والملاك، والباقي يتعذر استيفاؤه، فحتى لو كان باقي الغرض والملاك مهماً ولزومياً، لكن المكلف يتعذر عليه أن يأتي به، فحينئذٍ يجزي ما جاء به.

فتكون النتيجة أن الصورة الثالثة تقتضي الإجزاء.

الصورة الرابعة أن الوظيفة الاضطرارية وافية بجزء من ملاك الواقع. ويبقى جزء آخر مهم ولزومي وقابل للاستيفاء، بحيث يمكن تحصيله بعد ذلك.

ومن الواضح أن الصورة الرابعة لا تقتضي الإجزاء لأنه صحيح قد جاء بجزء الملاك والغرض لكن الجزء الآخر الذي لم يأت به من الغرض قابل للاستيفاء ولم يأت به، فيحكم بعدم الإجزاء في الصورة الرابعة.

هذه صور أربع ثبوتاً.

خلاصة الصور الأربع:

إما أن يأتي بتمام الملاك كما في الصورة الأولى، أو بأغلب الملاك كما في الصورة الثانية، أو بجزء من الملاك مع عدم إمكان استيفاء الباقي كما في الصورة الثالثة، أو بجزء من الملاك مع إمكان استيفاء الباقي كما في الصورة الرابعة.

 

هذه الصور الأربع تدرس بلحاظ أربعة أحكام

نأخذ اليوم حكمين:

الحكم الأول: وهو الإجزاء وعدمه

ومن الواضح أن الحكم في الصور الثلاثة الأولى هو الإجزاء. والحكم في الصورة الرابعة هو عدم الإجزاء.

أما الصورة الأولى فلأن العقل قد استوفى تمام الملاك فيدخل تحت الصيغة الأولى في البحث الكبروي

وأما الصورة الثانية فكذلك الإجزاء إذ لم يبق من الملاك إلا بقية استحبابية

وأما الصورة الثالثة فكذلك الإجزاء لأن الملاك وإن لم يستوفى لكن لا يمكن تدارك الباقي فالإجزاء قهري، نعم،

الصورة الرابعة يحكم بعدم الإجزاء لأنه قد جاء بجزء الملاك والجزء الآخر يمكن استيفاؤه ولم يستوفه فيحكم بعدم الإجزاء.

هذا تمام الكلام في الحكم الأول للصور الأربع، واتضح أن الصور الثلاث الأول تقتضي الإجزاء والصورة الرابعة لا تقتضي الإجزاء.

 

الحكم الثاني: جواز البدار وضعاً أي بلحاظ الحكم الوضعي، والحكم الوضعي هنا هو الصحة وعدم الصحة.

الحكم الثالث: جواز البدار تكليفاً أي الجواز وعدم الجواز، يعني هل يجوز له المبادرة أو لا يجوز له المبادرة؟

هذا التكليفي سندرسه إن شاء الله في الحكم الثالث.

وأما الحكم الثاني البدار وضعاً يعني لو بادر هل ما بادر به جاء به بنحو صحيح أو باطل؟

الحكم الثاني هو جواز البدار وضعاً، بمعنى أنه في الصور الثلاث الأولى المحكوم فيها بالإجزاء.

سؤال: لو بادر إلى الصلاة من جلوس أو مع التيمم عند فقد الماء، هل تقع هذه الصلاة صحيحة أو لا؟

والجواب: هل الإتيان بالأمر الاضطراري مشروطٌ بالتأخير أو لا؟

تارة يقال له هكذا: إذا فقد الماء وجب التيمم لكن لا يصح لك أن تبادر بل تنتظر إلى آخر الوقت. إذا ذاق الوقت ولم تحصل على فحينئذ تتيمم وتصلي، بحيث لو تيممت وصليت في بداية الوقت كانت صلاتك باطلة عاطلة. وهكذا من لا يستطيع الصلاة من قيام، يقال له: حكمك الصلاة من جلوس، لكن لا تبادر في أول الوقت انتظر إلى آخر الوقت، فإن استطعت أن تصلي من قيام فهو، وإن لم تستطع فحينئذ تجوز لك الصلاة من جلوس في آخر الوقت.

هذا إذا اشترطنا التأخير.

وتارة لا نشترط التأخير مجرد فقد الماء يسوغ الصلاة من تيمم ومجرد عدم القدرة على القيام يجوز الصلاة من جلوس مطلقاً أول الوقت أو آخر الوقت فمع الإطلاق تصح المبادرة.

[سؤال:] اذا لو بادر المكلف إلى الصلاة الاضطرارية في أول الوقت فهل تقع صحيحة؟

والجواب: يوجد تفصيل:

الشق الأول إن كان وفاء الصلاة من جلوس بالملاك بحسب الصور الثلاثة مشروطاً بعدك البادر وأن تقع الصلاة في آخر الوقت فالبدار غير جائز وضعاً وليس تكليفاً يجوز له أن يبادر لكن صلاته تكون باطلة في هذه الصورة.

الشق الثاني وإن كان وفاء الصلاة من جلوس بهذه المقادير في الصور غير مشروط بعدم البدار بل كانوا مطلقاً يجوز الإتيان بالصلاة الاضطرارية مطلقاً، فحينئذ يجوز البدار وضعاً، يعني تكون الصلاة التي بادر بها صحيحةً، فلو بادر لأجزأه ذلك من دون فرق بين الصور الثلاث لأن ملاك الإجزاء فيها ثابت.

هذا تمام الكلام في الحكم الثاني.

واتضح أنه يتحقق الإجزاء إن لم يشترط التأخير ولا يتحقق الإجزاء إن اشترط التأخير، هذا بالنسبة إلى المبادرة إلى الإتيان بالفعل الاضطراري.

الحكم الثالث هل يجوز البدار تكليفاً أو لا؟

يأتي عليه الكلام.


logo