« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

46/04/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائة وستة وثمانون): الجهة الثالثة لو قيل بدلالة الأمر على الفورية بأحد الوجوه الأربعة

الموضوع: الدرس (مائة وستة وثمانون): الجهة الثالثة لو قيل بدلالة الأمر على الفورية بأحد الوجوه الأربعة

 

الجهة الثالثة[من مقام الإثبات لدلالة الأمر على الفور أو التراخي]

لو قيل بدلالة الأمر على الفورية بأحد الوجوه الأربعة المتقدمة، فحينئذ يثبت لزوم الإتيان بالمادة فوراً، وهنا:

إما أن يأتي مكلف بالمادة كالصلاة

وإما أن لا يأتي بها فإذا أتى المكلف بالمادة فوراً فقد حصل الامتثال

وأما إذا لم يأت المكلف بالمادة فوراً، فما هو الحكم؟

توجد ثلاثة ثلاثة احتمالات:

الاحتمال الأول أن يسقط الأمر رأساً، بحيث لا يجب عليه بعد ذلك شيء، لأنه عصى والأمر يسقط بالعصيان.

الاحتمال الثاني يبقى أصل الأمر بلا فورية، فالأمر بالصلاة باقٍ، لكن تسقط فورية الإتيان بها نظراً لأنه لم يأتي بأول حصة من الصلاة فوراً.

الاحتمال الثالث يبقى الأمر مع الفورية، بحيث كلما تأخر في الامتثال بقي الخطاب يستدعيه فوراً ففوراً.

هذه احتمالات ثلاثة ممكنة ثبوتاً، فإما أن يسقط الخطاب والتكليف وهو الاحتمال الأول، وإما أن يسقط الفورية ويبقى التكليف وهو الاحتمال الثاني، وإما أن يبقى التكليف وتبقى الفورية وهذا هو الاحتمال الثالث.

هذه ثلاثة احتمالات ممكنة ثبوتاً، يبقى كلام إثباتاً، فهل دليل الفورية؟ يقتضي احد هذه الاحتمالات الثلاثة أو أن دليل الفورية مجمل فيرجع إلى الأصول العملية؟

والتحقيق في المسألة:

إن النتيجة تتبع المبنى والمدرك، فعلى أساس المبنى المتبنى تكون النتيجة، ولنذكر ثلاثة مبانٍ، وعلى هذه المباني الثلاثة يثبت الاحتمال الأول أو الثاني أو الثالث.

المبنى الأول إذا كان مدرك الفورية هو دعوى أخذها قيداً في مدلول المادة، بحيث أن قوله صلّ يرجع إلى قوله صلّ فوراً، وحينئذ لا إشكال في أن المتعين هو الاحتمال الأول، فإذا لم يأتي بالصلاة في أول وقتها سقطت الصلاة.

السر في ذلك:

أن مفاد الهيئة افعل صلّ طلب واحد أخذت الفورية قيداً في متعلق، أي أخذت الفورية قيداً في الصلاة التي هي متعلق الطلب، يعني صلّ فوراً، بحيث غن نسبة الطلب إلى الفعل والفورية نسبة الوجوب إلى أجزاء متعلقة لا نسبة الوجوب إلى أفراد متعلقة، فصلّ أي صيغة افعل تدل على الطلب اللزومي، والطلب اللزوم تعلق مكون من جزئين: الجزء الأول الصلاة والجزء الثاني قيد الفورية، فإذا لم يأتي بقيد الفورية يكون لم يأتي بمتعلق الطلب، فيكون قد عصى، والعصيان يوجب ماذا؟ سقوط الأمر، فلا يكون الأمر فعلياً في حقه.

إذاً يوجد واجب واحد مركب من الفعل والفورية، الصلاة والفورية، والمفروض عدم الإتيان بهذا الواجب خارجاً، لأنه لم يأتي بقيده وهو الفورية، وليس في الهيئة افعل ما يقتضي إنشاء طلب جديد على طبيعي الفعل فيسقط الأمر رأساً إذ عندنا هيئة واحدة وأمر واحد صلّ، وهذا الأمر يسقط بعدم الإتيان بقيده وهو الفورية.

إذاً المبنى الأول أن تكون الفورية قد أخذت كقيد في متعلق الطلب، فإذا لم يأتي بهذا القيد يتعين الاحتمال الأول وهو سقوط الطلب بالعصيان ولا يكون الطلب فعلياً، وفعلية الطلب تحتاج إلى أمر جديد، وهو غير موجود.

المبنى الثاني إذا فكان مدرك الفورية هو البيان المتقدم في الجهة الأولى، وهو قياس الصيغة التشريعية والتحريك التشريعي على التحريك التكويني، فنقول: إن الصيغة باعتبارها تحريكاً تشريعياً يوازي التحريك التكويني فخواص التحريك التكويني تنعكس على الصيغة التشريعية والتحريك التشريعي، ومن جملة خواص التحريك التكويني هو الفورية.

إذاً يتعين بناء على المبنى الثاني الاحتمال الثالث وهو سقوط والفورية معاً كلاهما يسقط، فإذا لم يأتي فوراً، يبقى أمر يستدعيه فوراً ففوراً لأن هذا هو مقتضى الموازنة بين الدفعين التشريعي والتكويني، فإن التحريك التكويني إذا لم يؤثر أثره واستمر التحريك فلا محالة يستدعي بقاء الفورية فوراً فوراً، ولكن التحريك التكويني قد يتوقف برفع اليد عن المحرك.

إذا بناء على هذا المبنى الثاني قياس التحريك التشريعي على التحريك التكويني يتعين الاحتمال الثالث، وهو بقاء الفعل وبقاء الفورية، أنا اشتبهت قلت: سقوط الفعل وسقوط الفورية، بقاء الفعل وبقاء الفورية لأنه في الدفع التكويني لو دفع ولم يندفع، يبقى الدافع التكويني دافعاً، ويبقى دافعاً على نحو المبادرة والفورية.

هذا في الدفع التكويني فكذلك في الدفع التشريعي تبقى صيغة الأمر دافعة فوراً ففوراً.

[نكتة في الدفع التكويني]

لكن توجد نكتة في الدفع التكويني، وهو أن الدافع تكويناً قد يتوقف عن الدفع، فمن يدفع الحجر أو هذه الآلة التي تستمر في الدفع لو لم يندفع ما تدفعه، فقد تعطب هذه الآلة ولا تتحرك وهكذا من يدفع محركاً بيده فقد يتعب ويرفع يده عن التحريك، ومعنى هذا أنه إذا لم يحرك ولم يدفع فحينئذ لا يندفع المحرك، ولا يكون هناك فورية، هذا بالنسبة إلى ماذا؟ الدفع التكويني فنعكسه على الدفع التشريعي فيتعين الاحتمال الأول.

الاحتمال الأول مفاده تسقط الصيغة وتسقط الفورية، يسقط الطلب وتسقط الفورية، فنقول هكذا بناء على المبنى الثاني وهو قياس الدفع التشريعي على الدفع التكويني، نقول: إن استمر الدفع فالاحتمال الثالث هو المتعين بقاء الطلب والفورية، وإن توقف الدفع فاحتمال الأول هو المتعين أي يسقط الطلب والفورية، هذا بالنسبة إلى ماذا؟ الدفع التكويني كذلك بالنسبة إلى الدفع التشريعي، فنقول: إذا لم نستفد بالقرائن المكتنفة للخطاب بقاء الطلب أصلاً واحتملنا سقوطه فالمتعين هو الاحتمال الأول لأنه لا يوجد ما يحركه، ولا توجد القرائن التي تدعو على التحريك.

نعم، يمكن أن نثبت بقاء التحريك التشريعي بمقتضى إطلاق المادة حيث لا موجب لتقييدها فإذا إثباتنا التحريك التشريعي تبعه لوازمه من السرعة في التحريك أي الفورية فيتعين الاحتمال الثالث.

خلاصة المبنى: هو قياس التحريك التشريعي على التحريك التكويني ومن الواضح أنه مع استمرار التحريك يتعين لاحتمال الثالث فيبقى الطلب فوراً ففوراً.

المبنى الثالث إذا كان مدرك الفورية هو آية المسارعة والاستباق، فلا إشكال في سقوط الاحتمال الأول الذي يرى سقوط الطلب وسقوط الفورية. وذلك لأن الفورية بناءً على أن المدرك هو آية المسارعة والاستباق لم تؤخذ قيداً في الأمر الأول كما عليه المبنى الأمر الأول، وإنما أمر بالفورية بأمر آخر فيوجد عندنا أمران: أمر بالصلاة وأمر ثان أن تأتي بها فوراً.

وهذا الدليل آية المسارعة والاستباق ليس لسانه لسان الشرطية، أي إن الصلاة مشروطة ومقيدة بالمسارعة، بحيث إن المشروط عدم عند عدم شرطه، وحيث قد عدم الشرط وهو المسارعة والمسابقة والفورية، عدم المشروط والمقيد وهو الصلاة هذا المبنى الأول.

المبنى الثاني يرى أن آية المسارعة وآية الاستباق تثبت جعلاً جديداً.

فهناك جعلان وأمران:

الأول صلّ

الثاني سارعوا أي ائت بالصلاة فوراً.

فآية المسارعة تثبت جعلاً مستقلاً فيتحصل من خطاب صلّ مع خطاب سارعوا واستبقوا وجوبان أولهما وجوب الصلاة وثانيهما وجوب الفورية، فإذا لم يأتي بالصلاة فوراً يكون قد عصى الأمر الثاني وهو الإتيان بها فوراً وعلى مسارعة وتسابق، فيسقط الوجوب الثاني دون الوجوب الأول وهو أصل الصلاة.

إذاً يسقط الاحتمال الأول لأن الاحتمال الأول مفاده سقوط المتعلق وسقوط الفورية يعني يسقط الطلب بكامله، يسقط وجوب الصلاة وتسقط وجوب الفورية، هذا انتفى فيدور الأمر بين الاحتمال الثالث يعني بقاء الطلب وبقاء الفورية، وبين الاحتمال الثاني بقاء الطلب وسقوط الفورية، فيدور الأمر بين الاحتمال الثاني يعني سقوط الطلب دون الفورية والاحتمال الثالث بقاء الطلب والفورية، وحينئذ يرجع إلى دليل الفورية المفترض وهو الآيتان آية «وسارعوا إلى مغفرة من ربكم» وآية «واستبقوا الخيرات» فماذا يستفاد من هاتين الآيتين؟

سؤال: فهل الإسراع إلى الخير ينحصر مصداقه بخصوص المبادرة المطلقة أو لا؟

الجواب: توجد ثلاثة احتمال وتشقيقات لما يفهم من آية المسارعة والتسابق دققوا جيداً.

في هذه الاحتمالات الثلاثة:

الاحتمال الأول إن الإسراع إلى الخير ينحصر مصداقه بخصوص المبادرة المطلقة التي تتحقق بإيجاد الصلاة في أول وقتها، يعني إذا لم يأتي بالحصة الأولى سقط أمر بالفورية، فالفورية تنحصر في خصوص المصداق الأول للمبادرة والفورية.

الاحتمال الثاني أن الإسراع إلى الخير يتحقق بالمبادرة بمعنى الإتيان بفردٍ كان بالإمكان أن يستبدل بما بعده فكل من أتى بفردٍ، وكان يمكن أن يتأخر مقداراً ما فقد سارع، بحيث لو أتى بالفعل قبل انتهاء الوقت بساعة فيصدق أنه سارع لأنه بإمكانه الانتظار والإتيان به قبل انتهاء الوقت بربع ساعة مثلاً.

فعلى هذا المسارعة والاستباق تتحقق بلحاظ ترك الفرد الذي يليه، يعني لو جاء بالحصة الأولى بادر ولم يأتي بالحصة الثانية، ولو جاء بالحصة الثانية بادر ولم يأتي بالحصة الثالثة، ولو جاء بالحصة الثالثة بادر ولم يأتي بالحصة الرابعة.

الاحتمال الثالث إن الإسراع يختلف مصداقه باختلاف الأحوال، بحيث أنه في أول الوقت يكون مصداقه منحصراً بالفرد الأول، فلو لم يأتي يكون بعد هذا مصداق منحصراً بالفرد الثاني، فإن لم يأتي بالفرد الثاني فيكون المصداق منحصراً بالفرد الثالث.

فالإسراع له أفراد طولية إذا بحيث إن فردية الثاني تتحقق في طول عدم الإتيان بالفرد الأول وفردية الثالث تتحقق عدم الإتيان بالفرد الثاني، وهكذا فالإسراع في أول الوقت ليس له مصاديق متعددة، بل الإسراع في كل ينحصر بالإتيان بالفرد في ذلك الزمان.

سؤال: ما الفرق بين الاحتمال الثاني والاحتمال الثالث؟

الجواب: في احتمال الثاني تكون الأفراد عرضية وفي الاحتمال الثالث تكون الأفراد طولية، مثلاً: لو كان الوقت لعشرة مصاديق، فبناءً على الاحتمال الأول الفورية لا تتحقق إلا بالمصداق الأول، وبناءً على الاحتمال الثاني فإن الفردية تتحقق بتسعة احتمالات من الأول إلى التاسع عدا العاشر لأن العاشر هو الفرد الأخير والمصداق الأخير لا يحقق الفورية.

هذه المصاديق التسعة للفورية في الاحتمال لا تصل النوبة للفرد الثاني إلا إذا ترك الأول، ولا تصل لا تصل للثالث إلا إذا ترك الثاني، ولا تصل للرابع إلا إذا ترك الثالث، وهكذا فالفورية منحصرة في فرد طولي.

بخلاف الاحتمال الثاني فإنه هذه الأفراد عرضية له أن يأتي بالأول أو الثاني إلى التاسع، فإذا اختار أي واحد منها صدق عليه أنه بادر إليه بلحاظ ما بعده.

هذه ثلاثة احتمالات.

فإن قلنا بالاحتمال الأول للإسراع يتعين سقوط الفورية، لأنه لو لم يأتي بالصلاة في أول الوقت، فأصل وجوب الصلاة باقٍ بدليل «أقيموا الصلاة»، ولا دليل على وجوب الإسراع، لأن دليله هو سارعوا المفروض أن مفاده منحصر في الفرد الأول في أول الوقت وقد فات، بينما الفرد الثاني كلاهما ليس مسارعة فيبقى وجوب الصلاة بلا فورية.

وإن قلنا بالاحتمال الثاني للإسراع فكلا الخطابين باقٍ في حقه، خطاب أقيموا الصلاة وخطاب سارعوا، إذ بإمكانه أن يسارع، لأن المفروض أن الإسراع لا ينحصرون بالفرد الأول، بل كل ما عدا الفرد الأخير يكون إسراعاً فجميع الأفراد التسعة بنحو عرضي تكون فرداً.

وإن قلنا بالاحتمال الثالث لمفهوم الإسراع الأفراد الطولية، وهو أن تكون مصداقية الفرد الثاني مترتبة على عدم وقوع الفرد الأول، فمقتضى القاعدة الإتيان به فوراً ففوراً، فلا يسقط الطلب ولا تسقط الفورية.

هذا تمام الكلام في الجهة الثالثة، وهناك كلام وتفصيل للمحقق العراقي وتعليقات ثلاث للشهيد الصدر عليه، يأتي عليها الكلام.

logo