« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

46/04/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائة وثلاثة وثمانون): اقتضاء الأمر للفور أو التراخي

الموضوع: الدرس (مائة وثلاثة وثمانون): اقتضاء الأمر للفور أو التراخي

 

اقتضاء الأمر للفور أو التراخي

هل الأمر كقوله: «تصدق» يقتضي الفورية فيجب التصدق فوراً؟ أو يقتضي التراخي فيبطئ في تصدقه؟ أو لا يقتضي لا الفور ولا التراخي بل يدل على الأمر بطبيعة تصدق؟

يقع الكلام في مقامين:

المقام الأول عالم الثبوت والإمكان.

المقام الثاني عالم الإثبات الخطاب والدلالة.

 

أما المقام الأول[عالم الثبوت]

فلا يوجد أي إشكال ثبوتاً في أنه يمكن أن يكون متعلق هو الطبيعة المقيدة بالفور، كما يمكن أن يكون متعلق الأمر هو الطبيعة المقيدة بالتراخي، كما يمكن ثبوتاً أن يكون متعلق الأمر هو ذات الطبيعة من دون أي تقييد لا بالفور ولا بالتراخي.

ويقع الكلام في القسم الأول وهو أن يكون متعلق الأمر مقيداً بالفور.

القسم الأول يمكن أن يتصور على نحوين:

النحو الأول وحدة المطلوب.

النحو الثاني تعدد المطلوب.

 

النحو الأول وهو وحدة المطلوب كأن يكون هناك أمر واحد قد تعلق بخصوص الحصة الخاصة الفورية فيجب أن يتصدق فوراً، بحيث لو عصى ولم يأت بالطبيعة فوراً ولم يتصدق لسقط الأمر الواحد ولا شيء عليه، لأن تقييد متعلق الأمر بالفور إنما كان على نحو وحدة المطلوب، فقد أمر بالتصدق ولم يتصدق وعصى فسقط الأمر بالتصدق بالعصيان.

النحو الثاني أن يكون بنحو تعدد المطلوب كأن يكون هناك أوامر متعددة بالتصدق، بعضها قيد بالفورية، وبعضها الآخر متعلق بالطبيعة ولم يقيد بالفورية، فإذا سقط بعضها وهو المقيد بالفورية فلا موجب لسقوط البعض الآخر الذي لم يقيد بالفورية وإنما علق على الطبيعة فقط.

[الشقان للنحو الثاني (أي تعدد المطلوب)]

هذا النحو الثاني أن يكون الأمر المقيد على نحو تعدد المطلوب يوجد له شقان:

الشق الأول من النحو الثاني أن يكون تعدد المطلوب بحيث لو عصى الفورية يجب عليه أن يأتي بالطبيعة فوراً أيضاً، وهكذا إذا عصى التصدق الأول يجب عليه التصدق الثاني، وإذا عصى التصدق الثاني يجب عليك التصدق الثالث وهكذا، فإذا عصى يجب أن يأتي بها فوراً ففوراً.

وتصوير هذا الشق:

هو أن يكون الأمر متعلقاً بنحو التكثر والانحلال بتمام الأفراد الطولية، غايته أن الأمر بكل فرد طولي مشروطٌ بترك ما قبله، فإذا أوقع ما قبله سقطت الأوامر عن عهدته وذمته.

فمفاد الشق الثاني من الاحتمال الثاني من القسم الأول أن الأمر تعلق بالطبيعة المقيدة بالفور على نحو تعدد المطلوب بحيث تكون جميع الأفراد الطولية قد قيدت بالفورية، لكن إذا لم يأتي بالفرد السابق عليها، فإذا جاء بالتصدق الأول سقط التصدق الثاني والثالث، لكن لو لم يأتي بالتصدق الأول وجب التصدق الثاني ولو لم يأتي بالتصدق الثاني وجب الإتيان بالتصدق الثالث وهكذا.

الشق الثاني من النحو الثاني أن يكون الأمر قد تعلق بالطبيعة المقيدة بالفور، وهذا هو القسم الأول وبنحو تعدد المطلوب وهذا هو النحو الثاني فيكون الشق الثاني من النحو الثاني أن المكلف لو لم يأت بمتعلق الطبيعة فوراً لسقطت الفورية وبقي الأمر بذات الطبيعة على حاله.

تصوير هذا الشق:

هو أن يكون هناك أمران:

الأمر الأول: أمر بذات الطبيعة

الأمر الثاني: أمر بايقاعها فوراً في الزمن الأول، فلو لم يوقعها فوراً سقطت الفورية التي هي الأمر الثاني، وبقي الأمر بذات الطبيعة الذي هو الأمر الأول.

إذا في عالم الثبوت والإمكان جميع هذه الشقوق معقولة، الشقان من الاحتمال الثاني معقولة والاحتمال الأول والثاني من القسم الأول أيضاً معقولة، إذا في عالم الثبوت والإمكان جميع هذه التصويرات معقولة.

يبقى الكلام في عالم الإثبات والخطاب والدلالة هل نفهم الاحتمال الأول أو الاحتمال الثاني؟ واذا فهمنا الاحتمال الثاني هل نفهم الشق الأول أو الشق الثاني؟

هذا تمام الكلام المقام الأول عالم الثبوت.

 

المقام الثاني [عالم الإثبات الخطاب والدلالة]

ويقع الكلام فيه في عدة جهات:

الجهة الأولى لا شك ولا ريب أن التراخي لا معنى لتقييد الخطاب به فخطاب «صلّ» لا معنى لتقييده بالتراخي.

ولكن يقع الكلام في أنه هل يمكن إثبات الفورية بدلالة نفس الخطاب كخطاب تصدق واغتسل وصلّ، أو يمكن إثبات الفورية بقرينة أخرى خارج نفس الخطاب وما يدل عليه.

الصحيح: أن نفس ألفاظ لا تدل لا على الفور ولا على التراخي، بل نفس الخطاب يقتضي إيجاد الطبيعة، فإذا قال: تصدق أو اغتسل أو صل، فهنا عندنا أمران:

الأول وهي صيغة الأمر «افعل»

والثاني المادة وهي مادة «غسل، الصلاة، التصدق»، وفي كل من الهيئة والمادة لا يوجد ما يدل لا على الفور ولا على التراخي بل المطلوب الطبيعة كطبيعة الصدقة والصلاة والغسل من دون تقييدها بالفور أو التراخي.

إذاً الأمر والخطاب لا يدل على الفور لا هيئةً ولا مادةً:

أما الأول وهو الهيئة فلأن الهيئة إنما تدل على الطلب بنحو المعنى الحرفي، فصيغة الأمر تدل على نسبة إرسالية ونسبة طلبية أو بعثية، وليس فيها ما يقتضي أخذ الفورية.

وأما الثاني وهو المادة فالمادة إنما تدل على ذات الطبيعة أو على المقسم الطبيعي بين الوجود السريع والوجود البطيء، وليس فيه ما يدل على قيد الفور أو التراخي.

إذاً كل من الهيئة والمادة لا يقتضيان الفورية، والشاهد على ذلك أنه يصح التقييد بعدم الفورية بلا عناية، فيقول: «تصدى لا على الفور» ولا يشعر السامع أن هذا فيه تجوز واستعمال مجازي بل يكون الاستعمال حقيقياً، فلو كانت الفورية مأخوذة في الهيئة أو المادة لكان ذلك موجباً للتجوز والعناية ولا يكون الاستعمال حينئذ استعمالاً حقيقياً بل يكون استعمالاً مجازياً.

إذاً كل من الهيئة والمادة إذا استعمل استعمالاً حقيقياً لا يوجد فيهما ما يدل على قيد الفور ولا ما يدل على قيد التراخي.

 

لكن قرب الاستدلال على دلالة الخطاب على الفورية كما الجهة الأولى بتقريب من ناحية الهيئة والصيغة، وذلك بأن مدلول الهيئة الوضعي أي صيغة افعل هو التحريك والإرسال والدفع والبعث، وهذا الدفع والتحريك في هيئة صيغة الفعل يوازي بحسب الارتكاز العقلاء التحريك الخارجي باليد إذ يوجد عندنا دفعان وتحريكان، تحريك تكويني وهو الدفع باليد وتحريك تشريعي وهو الدفع بصيغة الأمر.

إذاً التحريك له نحوان:

النحو الأول: فتحريك الشيء تارة يكون باليد وهو تحريك تكويني في عالم الخلق والتكوين،

النحو الثاني: وتارة والتحريك بالصيغة فإن صيغة الأمر تصدق تدفع نحو الطبيعة نحو إيجاد طبيعة التصدق، فالدفع بالصيغة والهيئة منزل منزلة الدفع التكويني فينعكس على الصيغة والهيئة اللفظية تمام خواص الدفع الخارجي.

ومن الواضح أن الدفع الخارجي فوري تقول: كسرته فانكسر، دفعته فوقع، فمن خواص الدفع التكويني أنه يؤثر أثره فوراً ومباشرة.

إذاً من خواص الدفع إذا كان مؤثراً لأثره هو أن يسرع باندفاعه نحو الشيء ولا يقبل هذا الدفع تراخياً، هذا في الدفع التكويني.

وبما أن الدفع التشريعي بالصيغة منزل منزلة الدفع التكويني، إذاً لا بد من الفورية في الاندفاع من قبل المكلف، وتكون الفورية جزءً من المدلول الوضعي لصيغة افعل، وهذا معناه أن خطاب يدل على الفورية، ما لم تقم قرينه تدل على الخلاف، وتدل على التراخي.

الخلاصة:

الدفع دفعان: دفع تكويني ودفع تشريعي، وفي الدفع التكويني توجد فورية، والدفع التشريعي منزل بمنزلة الدفع التكويني، فإذا الدفع التشريعي أخذت فيه الفورية لأنه منزل منزلة الدفع التكويني الذي أخذ فيه الفورية.

لكن هذا التقريب ليس بتام: إذ يوجد فارقٌ واضح بين الدفع التكويني والدفع التشريعي، إذ أن الدفع التكويني والخارجي إنما اقتضى الفورية لأنه تحريك نحو أمر آني جزئي خارجي مشخص فلا محال يتجه وجهة معينة نظراً لاعتبار خارجية التحريك وجزئيته ويتشخص موضوعه المحرك نحوه في فرد مساوق ومزامن للتحريك ولذا كان هذا التحريك يقتضي الفورية.

في نفس الوقت أنت تدفع الشيء ويقع، لأنه جزئي آني مشخص في الخارج، بخلاف الدفع التشريعي في الصيغة «افعل» فإن الصيغة إنما تحرك وتصور للمكلف ضروروة إيجاد الطبيعية فالتحريك التشريعي إنما هو تصوري وذهني متعلق بالجامع وبالطبيعة، فالتحريك التشريعي لا يقتضي إلا إيجاد الطبيعة.

والطبيعة كما توجد بالفرد الأول أيضاً توجد بالفرد الثاني، فحينما يقول: تصدق اغتسل صلّ الأمر يحرك المأمور ويصور له في ذهنه ضرورة إيجاد طبيعة الصلاة والصدقة والغسل، لكن هذه الطبيعة كالتصدق قد تحصل بالفرد الأول وقد تحصل بالفرد الثاني.

وبعبارة أخرى: يوجد لازم مباشر في الدفع التكويني، ولا يوجد لازم مباشر في الدفع التشريعي، ومنشأ اللازم المباشر في الدفع التكويني هو كون المدفوع شيء جزئي آني خارجي مشخص فتحصل الفورية بخلاف الدفع التشريعي لا يوجد شيء جزئي خارجي مشخص وإنما يصور المولى في ذهن المأمور ضرورة إيجاد الطبيعة التي قد توجد بالفرد الأول أو الفرد الثاني.

بعبارة أخرى:

إن الفورية في التحرك ليست من اللوازم المباشرة لنفس التحريك، بل من لوازم شخصية المحرك، يعني من اللوازم الشخصية للشيء المحرك نحوه، وكونه جزئياً آنياً خارجياً مزامناً للتحريك، وهذا من شؤون خارجية التحريك.

وأما التحريك التشريعي للصيغة لما كان لا يستدعي جزئية المحرك نحوه ولا المحرك فلا محالة يبقى المحرك نحوه على جامعيته، وفاعلية هذا التحريك التشريعي تكون بوجود جامع وإيجاد الطبيعة، والطبيعة والجامع كما يوجد بالفرد الأول يوجد أيضاً بالفرد الثاني.

إذاً قياس أحد التحريكين على الآخر قياس مع الفارق، قياس التحريك التشريعي على التحريك التكويني غير صحيح، وبالتالي الخطاب وصيغة الأمر لا يد مطلقاً لا على الفور ولا على التراخي، لا بمادته ولا بهيئته.

هذا تمام الكلام في الجهة الأولى إثباتاً.

الجهة الثانية يأتي عليها الكلام.

 

logo