« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

46/04/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائة واثنان وثمانون): الوجه الثالث في توجيه الطائفة الثانية

الموضوع: الدرس (مائة واثنان وثمانون): الوجه الثالث في توجيه الطائفة الثانية

 

الوجه الثالث في توجيه الطائفة الثانية من روایات تبديل الامثتال بالامتثال

أن يقال إن هذه الرواية[1] إن شاء جعلها فريضة لم ترد بلحاظ ما بعد الصلاة، بل بلحاظ أثناء الصلاة، بمعنى أن المكلف إذا كان قد فرغ من صلاة الظهر ثم أقيمت الجماعة وقيل له: اجعلها الفريضة، ففي مثل هذا، يصح أن يقال إن هذا من باب تبديل الامتثال بالامتثال، فقد امتثل صلاة الظهر أولاً فرادى، ثم بدل هذا الامتثال وامتثلها جماعة.

ولكن هذا غير معلوم فمن قال إن السائل فرض نفسه أنه قد أكمل صلاة الفرادى ثم سأل عن صلاة الجماعة، بل السائل يسأل حال كونه في أثناء الصلاة، أي أن المكلف والسائل شرع في صلاة الفرادى، وأقيم صلاة الجماعة، فقل له تفضل وصلّ معنا جماعة، فحينئذٍ هو مخيرٌ في قطع صلاته، صلاة الفرادى وأن يلتحق بصلاة الجماعة، وبين أن يكمل صلاة الفرادى، ثم يلتحق بهم، ويصلي معهم صلاة قضاء مثلاً.

والقرينة على هذا الفهم: أن السؤال بلحاظ المصلي في أثناء صلاته، أن الفعل في المقام فعل مضارع وليس بفعل ماضي، فلم يقل في السؤال في الرجل صلى الصلاة وحده، بل قال: في الصلاة يصلي الصلاة وحده، والمضارع معناه أن السؤال ناظرٌ إلى حال تلبسه بالصلاة، لا إلى حال فراغه من الصلاة، وحينئذٍ لا يكون المورد من باب تبديل الامتثال بالامتثال، بل يكون من باب أن رجلاً حال كونه يصلي أقيمت صلاة الجمعة، فحينئذ يمكن أن يحول صلاته إلى صلاة نافلة، أو يقطعها بناءً على جواز قطع الصلاح حينئذٍ، ثم بعدها يصلي معهم جماعة، ويمكن أن يكمل صلاته هذه ثم يصلي معهم صلاة قضاء، فكأن الإمام عليه السلام يريد أن يقول: يصلي معهم ويجعلها الفريضة إن شاء، أي بمعنى إن شاء الله حول صلاة الفرادى إلى نافلة وبعدها صلى معهم صلاة الظهر فريضة، وإن شاء لم يجعلها فريضة بأن جعل الفريضة الصلاة المفردة التي يصليها، وأكملها ثم يلتحق بهم ويصلي صلاة قضاء، فيصلي معهم غير الفريضة.

لكن الحق والإنصاف أن هذا الفهم خلاف الظهور العرفي، فهذا الاحتمال ساقطٌ ولا يكون الفعل المضارع شفيعاً لهذا الفهم والاحتمال في الرواية، إذ جاء بعده كلمة «ثم» التي ظاهرةٌ في الفراغ من الصلاة.

وما يدل على ضعف هذا الوجه: هو حمل كلام الإمام المعصوم على المعنى اللازم والمدلول الالتزامي لا على المدلول المطابقي، فيلزم من ذلك أن الإمام عليه السلام أنه قد سئل ولم يجب بالمدلول المطابقي، في أنه ما حكم هذه الصلاة التي بيده الآن، والآن بيده صلاة الفرادى، ما هو حكمها؟ يقطعها، يحولها نافلة، يتمها فريضة، الإمام ساكت الرواية ليست فيها جواب.

إذا حملنا الرواية على أثناء صلاة الفرادى، فهذه الصلاة الأولى المفردة ما هو حكمها هل يتمها أو يقطعها أو يحولها نافلة؟ مسكوتٌ عنه.

نعم، حكمها يفهم من قوله: «يجعلها فريضة إن شاء» أي جعل الصلاة الثانية وهي صلاة الجماعة فريضة إن شاء، فإن شاء جعلها فريضة يفهم منها أن الأولى ليست فريضة، إذا الأولى ليست فريضة أي إما قطعها أو حولها نافلة، وبالنسبة إلى الصلاة الثانية جماعة إن لم يشأ جعلها فريضة فهذا يلزم منه أن الصلاة الأولى المفردة جعلها فريضة، فيعلم حكم الصلاة الأولى التي جاء بها على انفراد بالمدلول الالتزامي، لقوله عليه السلام: «يجعلها فريضة إن شاء».

فيدل بالالتزام على أن هذه الفريضة التي جاء بها مفردة يمكن أن ينقلها من الفرد إلى التطوع أو يكون له أذن في قطعها، وعدم بيان الإمام للحكم المطابقي ينافي كون الإمام عليه السلام في مقام البيان للحكم العملي لهذا السائل، لأنه هو يسأله عن حكم صلاته في أثناء صلاته، والإمام ما أجاب بناءً على هذا الكلام.

فهذا السائل إذا فرضنا أنه فرغ من صلاته إذاً فحكمه العملي الإعادة، وقد بينه له الإعادة بقوله عليه السلام: «يصلي معهم» وأما إذا لم يكن بعد قد فرغ من صلاته فلا بدّ من تبيين حكم هذه الصلاة المفردة التي لم ينتهي منها ولم يخرج، مع أن الإمام عليه السلام لم يبين، وعدم بيان ذلك بنفسه قرينة على أن المفروض هو فراغ المكلف من هذه الصلاة التي بيده.

إذاً هذا الوجه الثالث لا يرجع لمحصل، أولاً خلاف الظهور، وثانياً يبتلي بهذا الإشكال.

والتحقيق في المقام:

إن هذه الطائفة الثانية غاية ما تدل عليه هو أن المكلف يمكن أن يطبق عنوان الفريضة على الصلاة الثانية التي جاء بها جماعة، فالمكلف قد صلى صلاتين: الصلاة الأولى فرادى، الصلاة الثانية جماعة، والإمام عليه السلام يقول: «إن شاء جعل الصلاة الثانية فريضة» ولم ينص على أن الصلاة الأولى فريضة، لو نصّ الإمام عليه السلام على أن كلتا الصلاتين فريضة، لأمكن أن نقول: هذا امتثالٌ بعد امتثال، إذ امتثل الفريضة أولاً فرادى، ثم بدل امتثال الفريضة ثانياً جماعةً، فنسحب عنوان الواجب من الفرد الأول إلى الفرد الثاني، لكن الإمام قال: «يجعلها فريضة إن شاء» وهو ناظر إلى خصوص الصلاة الثانية.

[تطبيق عنوان الفريضة على خصوص الصلاة الثانية بأحد وجهين]

إذاً القدر من الرواية هو إمكان تطبيق عنوان الفريضة على خصوص الصلاة الثانية التي هي جماعة، وهذا يتصور بأحد وجهين:

الوجه الأول أن يكون الوجه هو تبديل الامتثال بالامتثال، فالصلاة الأولى المفردة هي فريضة، وقد بدلت بصلاة ثانية جماعة وهي أيضاً فريضة.

الوجه الثاني أن يكون الواجب من أول الأمر مشروطاً بنحو الشرط المتأخر على أن لا يأتي فردٌ أفضل منه يطبق المكلف عليه الواجب، فهنا نقول: تجب الصلاة مفردةً بشرط وبقيد أن لا يأتي المكلف بعدها بصلاةٍ أفضل منها كصلاة الجماعة، فإذا صلى الصلاة المفردة قد جاء بالفريضة، لكن إذا جاء بعدها بصلاة جماعة، تحقق الشرط المتأخر، فتكون الفريضة واحدة، وهي خصوص صلاة الجماعة، دون الصلاة المفردة فلا تكون فريضة نظراً لانعدام شرطها المتأخر.

هذا الوجه الثاني أيضاً محتمل.

إذاً لو أتى المكلف بالفرد الأفضل مطبقاً عنوان الصلاة عليه، فهذا لا يكون من باب تبديل الامتثال بالامتثال بل من باب إخراج الفرد الأول من عنوان الفريضة من أول الأمر، فيخرج عن كونه امتثالاً لأن الفرد الأول بنفسه خرج عن كونه مصداقاً للواجب من أول الأمر، وهذا ليس محل النزاع، هذا ليس من باب تبديل الامتثال بالامتثال، هذا من باب إسقاط الفرد الأول عن الواجب، فيكون إخراجه تخصصاً لا تخصيصاً، وهذا أمرٌ معقول.

والرواية تحتمل كلا الوجهين:

الوجه الأول: الامتثال بعد الامتثال

والوجه الثاني: الشرط المتأخر

وإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال، فالرواية تثبت النتيجة وهي أن الصلاة الثانية جماعة يمكن جعلها فريضة، يعني يمكن تطبيق عنوان الفريضة على الفرد الثاني، وهذا لا يعني أن الفرد الأول كان فريضة أو ليس بفريضة، هذا مسكوت عنه، فيوجد احتمالان:

الاحتمال الأول: الفرض الأول فريضة، وقد بدل امتثاله بامتثال الفرد الثاني الذي هو جماعة وفريضة.

ويوجد احتمال ثاني: وهو أن الفرد الأول فريضة إذا لم تأتي بما هو أفضل منه، وقد جاء بما هو أفضل منه وهو الصلاة جماعة، فحينئذ يسقط الفرد الأول عن كونه امتثالاً للفريضة.

والرواية لا تعين لا الوجه الأول ولا الوجه الثاني القدر المتيقن من الرواية هو النتيجة: إن صلاة الجماعة وهي الصلاة الثانية يمكن أن يجعلها المكلف مصداقاً للفريضة.

وعليه لا ظهور في الرواية بخصوص الوجه الأول، بل الوجه الأول محتمل، والوجه الثاني محتملٌ، وإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال فلا يمكن الاستدلال بهذه الرواية، فتسقط الطائفة الثانية عن الدلالة على جواز الامتثال بعد الامتثال.

الطائفة الثالثة ولسانها قوله عليه السلام: «ويختار الله أحبهما إليه»[2] وهذه الرواية بل هذه الطائفة ساقطةٌ سنداً ودلالةً، ويرد على الاستدلال بالطائفة الثالثة نفس ما تقدم في مقام دفع الاستدلال بالطائفة الثانية.

فلسان الطائفة الثالثة كما يناسب ويتناسب مع تبديل الامتثال بالامتثال في مقام تطويق الواجب على المأمور به، كذلك يتناسب مع تبدل الامتثال، أي إسقاط الفرد الأول عن كونه امتثالاً، والإتيان بالفرد الثاني وهو الذي يحقق الامتثال وحده لا شريك له.

بحيث يقال إن الامتثال من أول الأمر مقيدٌ بنحو الشرط المتأخر على أن لا يؤتى بفرد أفضل منه، ومع الإتيان بفرد أفضل منه، يخرج الفرد الأول عن كونه امتثالاً وعن كونه مصداقاً للواجب، ولا يكون من باب تبديل الامتثال بالامتثال، بل من باب إخراج الفرد الأول عن مصادقيته للواجب، ومعه لا حاجة إلى إطالة الوقت في تخرج الجواب، وكيفية الاستدلال بهذه الطائفة على هذه المسألة.

بأن يكون المقصود من قوله: «أحبهما إليه» هو اختيار أحبهما إليه في مقام الأجر والثواب وليس من باب اختيار تشخيص الوظيفة وتعيين الامتثال.

فمثل هذه التخريجات خلاف ظاهر الرواية، لأمرين:

الأمر الأول إن الملحوظ في الرواية وفي السؤال، هو الجانب العملي أي أن المكلف يسأل عن وظيفته الشرعية العملية، لا الجانب الثوابي، ولا توجد قرينة على أن المكلف في سؤاله كان يلحظ جانب الثواب، فحمل الرواية على خصوص الجانب الثوابي دون الجانب العملي على خلاف ظاهر الرواية.

الأمر الثاني إن الرواية ظاهرة في مقام لا يتحمل شمول كلا الجانبين معاً في جانب واحد، ولهذا سوف يحتاج إلى اختيار هذا أو ذاك، ومن الواضح أنه إذا كان الاختيار ناظراً إلى مقام الوظيفة والامتثال كما هو مدعى المستدل فالأمر كذلك، فإن مقام الوظيفة لا يتحمل شمولهما أي الجانب الوظيفي وجانب الثواب، معاً في عرض واحد، يعني نحمل أنه نظر إلى الاثنين معاً، إلى جانب الوظيفة وجانب الثواب.

هنا توجد احتمالات:

إذا كان الملحوظ هو مقام الأجر والثواب فلا تعارض بين المقامين، فإن مقام الأجر والثواب يشمل كلا الفردين معاً، الصلاة الفرادى والصلاة جماعة، فذاك الفرد يكون له أجرٌ على حده، والفرد الآخر وهو صلاة الجماعة يكون له أجرٌ على حده، كما يحكم العقل بذلك، أن صلاة الفرادى لها ثواب وأن صلاة الجماعة أيضاً لها ثواب، لأن كل واحد منهما محبوب في نفسه ويستحق عليه الثواب، غاية الأمر أحدهما أحب من الآخر، فمقام الأجر والثواب ليس مقامه دائراً بين أن يشمل صلاة المفرد فقط أو أن يشمل صلاة الجماعة فقط، مقام الأجر والثواب يشمل كلتا الصلاتين مع زيادة أجر وثواب صلاة الجماعة، فكأنه يوجد أجر مخصوص على الوظيفة واجبة وكل من أوقعها في رداء أتم من الخشوع الخضوع يعطى ثواباً أكثر.

فيكون هذا الشخص قد أتى بالصلاة الواجبة من الصلاة الأولى، والصلاة الثانية ليست واجب لكن يعطى ثواب الواجبة كما لو كان قد صلى الثانية بحسب الفرض كما يعطى من يصلي فريضته جماعةً.

لكن مثل هذه العناية عناية إضافية.

خلاصة المسألة:

هذه الطائفة الثالثة «ويختار الله أحبهما إليه» لا تدل على جواز تبديل الامتثال بالامتثال.

الخلاصة هو هذا:

تحتمل الوجهين:

الاحتمال الأول تحتمل الوجه الأول تبديل الامتثال بالامتثال، يعني امتثل وصلى الصلاة الأولى فرادى، ثم بعد ذلك امتثل وصلى الصلاة الثانية جماعة، فتبدل امتثال الصلاة الأولى بامتثال الصلاة الثانية هذا احتمال، ويصدق عليه اختار الله أحبهما إليه، اختار له صلاة الجماعة التي ثوابها أكثر.

والاحتمال الثاني الصلاة الأولى المفردة فريضة بشرط أن لا يأتي بما هو أفضل منها، وهو صلاة الجماعة، فإذا جاء بالصلاة الثانية صلاة الجماعة عدمت الفريضة الأولى، فتكون الصلاة المفردة ليست امتثالاً للأمر بواجب الصلاة، نظراً لانعدام الشرط فقد جاء بالصلاة الأفضل وهي صلاة الجماعة، ويصدق عليها عنوان اختار الله أحبهما إليه.

فزبدة الكلام: الطائفة الثالثة كما تحتمل تبديل الامتثال بالامتثال، تحتمل أيضاً تبدل الامتثال بالامتثال.

وإلى هنا ينتهي بحث المرة والتكرار، واتضح أن الأمر لا يقتضي المرة ولا يقتضي التكرار، لا بحسب الوضع اللفظي ولا بحسب الإطلاق ومقدمات الحكمة.

الفور والتراخي

هل الأمر يقتضي الفور أو التراخي؟ يأتي عليه الكلام.

 


logo