« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

46/04/17

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائة وواحد وثمانون): تطبيقات فقهية

الموضوع: الدرس (مائة وواحد وثمانون): تطبيقات فقهية

 

اتضح فيما سبق عدم إمكان تبديل الامتثال بالامتثال.

ومن هنا يقع الكلام في تطبيق فقهي أشار له صاحب الكفاية الخراساني، مستدلاً على فكرة إمكان تبديل الامتثال بالامتثال.

وهذا التطبيق موضوعه ثلاث طوائف من الروايات الشريفة، ادعي فيها جواز إعادة الصلاة جماعة لمن صلاها فرادى.

فهل هذه الطوائف الثلاث تدل على إمكان تبديل الامتثال بالامتثال؟ فمن صلى الظهرين مفرداً ثم جاؤوا جماعة وأرادوا الصلاة جماعة فإنه يعيد الصلاة ويصلي الظهرين جماعةً، فهذا امتثال بعد امتثال، أولاً امتثل الأمر بصلاة الظهرين فرادى، ثم امتثل الأمر بصلاة الظهرين جماعة.

[الطوائف الثلاث تدل على إمكان تبديل الامتثال بالامتثال]

ولنتطرق إلى الطوائف الثلاث، ونرى لسانها هل يدل على تبديل الامتثال بالامتثال أو لا؟

الطائفة الأولى ما كان بلسان الأمر بالإعادة فقط، من دون عناية إضافية، ومضمون هذه الروايات أنه صليت ثم رأيت جماعة، فقال عليه السلام: أعد صلاتك معهم [فان شئت فصل معهم واجعلها تسبيحا][1] .

ومن الواضح أن هذه الطائفة ليس فيها ظهور يدل على إمكان الامتثال بعد الامتثال، بل غاية ما تدل عليه هو الترخيص في إعادة الصلاة جماعةً، أما أن هذه الصلاة التي أعادها هل هي ستكون امتثالا للأمر اللزومي المستفاد من قوله عليه السلام : «إذا زالت الشمس فصل»[2] هذا غير معلوم.

فما يستفاد من الطائفة الأولى هو جواز إعادة الصلاة جماعةً، لكن هل هذه الصلاة التي أعادها جماعة هل هي امتثال للأمر اللزومي الذي امتثله أولاً حينما صلى فرادى ثم امتثله ثانياً حينما صلى جماعة؟ هذا غير معلوم، فلا يستفاد من الطائفة الأولى إلا الاستحباب النفسي للإعادة، فلا تصلح الطائفة الأولى أن تكون دليلاً على جواز تبديل الامتثال بالامتثال.

الطائفة الثانية ما دل على جواز الإعادة بلسان «ويجعلها الفريضة»، وهذه الطائفة الثانية تشتمل على روايتين إحدى هاتين الروايتين صحيحة السند، وهي رواية هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: في الرجل يصلي الصلاة وحده، ثم يجد جماعة، فقال عليه السلام : «يصلي معهم ويجعلها الفريضة إن شاء»[3] .

وقد يستدل بهذه الرواية على جواز الامتثال بعد الامتثال:

فقد امتثل الصلاة فرادى ثم امتثلها جماعة، وجعلها الفريضة، فظاهر هذه الروايات دال على جواز تبديل الامتثال، كما يقول صاحب الكفاية[4] .

لأن الإمام عليه السلام لم يقتصر في هذه الطائفة على الترخيص في إعادة الصلاة فقط كالطائفة الأولى، بل قال: «ويجعلها الفريضة» ومعنى ذلك: أنه يسحب عنوان الفريضة عن الفرد الأول وهي الصلاة التي جاء بها فرادى، ويطبقه على الفرد الثاني المعاد وهو الصلاة جماعة، وليس معنى هذا إلا تبديل الامتثال بالامتثال، أي تبديل امتثال الأمر بالصلاة فرادى إلى امتثال الصلاة جماعةً.

وأجيب على هذا الاستدلال بوجوه ثلاثة:

الوجه الأول إن المقصود من قوله عليه السلام ويجعلها الفريضة أنه لا بأس بأن يصلي مع الجماعة بقصد فريضة من الفرائض، في قبال من يتوهم أنه يصلي معهم تطوعاً، أي أنهم يصلون صلاة مستحبة جماعة، والصلاة المستحبة لا تشرع جماعة إلا صلاة العيد، وأما بقية الصلوات المستحبة والمسنونة لا تشرع جماعة، فهذا الشخص قد فرغ من فريضة الوقت، وبعدها قامت الجماعة، فقال عليه السلام : «يصلي معهم»، وقوله عليه السلام هذا لا يستبطن أنه أي صلاة يصلي معهم، غاية ما يدل عليه أنه يصلي معهم صلاة فريضة لأن الجماعة لا تشرع إلا في الفرائض، ولا تشرع صلاة الجماعة في الصلوات المستحبة والمسنونة.

فلعله يتبادر إلى الذهن: أن المصلي يمكن أن يصلي مع الجماع صلاة مستحبة جماعةً، فأراد الإمام أن يدفع هذا التوهم، بقوله: «ويجعلها الفريضة» بمعنى أن الصلاة ليست تطوعاً، إذ لا جماعة في التطوع، وإنما الجماعة تشرع في الفريضة.

وبناءً على هذا لا يكون في العبادة ظهور في جواز تبديل الامتثال بالامتثال، لأن كلامنا في امتثال الأمر الواجب.

[الوجه الأول خلاف الظاهر لأمرين]

ولكن هذا الاحتمال خلاف ظاهر العبارة وفي غير محله، وهذا التوجيه الأول خلاف ظاهر الرواية لأمرين:

الأمر الأول قوله عليه السلام «ويجعلها الفريضة» ولم يقل ويجعلها «فريضة» فجاء بالألف واللام العهدية «الـ» العهد الذكري وظاهر مجيء كلمة الفريضة معرفة بالألف واللام التي هي للعهد الذكري للإشارة إلى صلاة الوقت التي فرغ عنها، بقوله: «الرجل يصلي الصلاة وحده ثم يجد جماعة»، فقال عليه السلام : «يصلي معهم ويجعلها الفريضة»، وليس المفروض أنه يجعلها فرضاً في قبال النفي، وإلا كان الأنسب أن يقول «يصلي معهم ويجعلها فريضة» فيأتي بلفظ فريضة نكرة، ولا يأتي به معرفة.

الأمر الثاني كلمة «إن شاء» فهذه الكلمة:

الإحتمال الأول: إما أن نجعلها مربوطة بكلا الجملتين، وهما: «يصلي معهم، ويجعلها الفريضة» يعني يصلي معهم إن شاء ويجعلها الفريضة إن شاء، وفي مقابل ذلك أن لا يشاء ولا يصلي معهم، فيخرج من المسجد، هذا الاحتمال الأول.

الاحتمال الثاني: أن نجعل كلمة «إن شاء» قيداً للجملة الثانية فقط، فيصلي معهم، ولكن يجعلها الفريضة إن شاء، فقيد إن شاء راجع إلى خصوص جعل الصلاة فريضة، يعني إن يشاء يجعلها فريضة، وإن يشاء لا يجعلها فريضة هذا الاحتمال الثاني.

أما الاحتمال الأول وهو إرجاع قيد «إن شاء» إلى الجملتين يصلي معهم ويجعلها الفريضة، هذا خلاف ظاهر الرواية، لأن ظاهر سؤال السائل وتصدي الراوي للسؤال أنه بحسب طبعه شاء أن يصلي وأن يعيد الصلاة، فالسائل يسأل عندما شاء أن يعيد الصلاة مرة أخرى، ولو لم يكن شاء أن يصلي مرة أخرى، لما سأل، فلا موجب لإرجاع قيد «إن شاء» إلى الجملة الأولى «يصلي معهم».

وبعبارة أخرى: لو لم يكن السائل يحتمل وجوب الإعادة وإنما يسأل عن مشروعية الإعادة وعدم مشروعيتها، فإذا فإشاءته لأصل الصلاة مع فرض مشروعية الإعادة مفروغ عنه في ظاهر السؤال، وإنما السؤال عن مشروعية الإعادة رغبة منه في تحصيل ثواب صلاة الجماعة.

هذا واضح من ظاهر الرواية أن السائل يرغب في إعادة الصلاة، لكن يسأل هل يحصل على ثواب صلاة الجماعة؟ وهل يشرع له الإعادة جماعة أو لا؟

إذاً الاحتمال الأول لا يمكن المساعدة عليه.

فيتعين الاحتمال الثاني: فإرجاع قيد «إن شاء» إلى الجملة الثانية، ويجعلها الفريضة «إن شاء» لأن إشاءة المصلي للصلاة هي سبب تصديه للسؤال، فيتعين الاحتمال الثاني وهو أن يكون قيد الإشاءة راجعاً إلى قوله: «ويجعلها الفريضة».

فتصبح الجملة هكذا «يصلي معهم وإن شاء يجعلها الفريضة» وفي مقابلها «يصلي معهم وإن شاء فلا يجعلها الفريضة»، وهذا لا يتلائم مع ما قصد من قوله عليه السلام : «ويجعلها الفريضة» يعني يجعلها فريضة في قبل التطوع هذا لا يتلائم ولا ينسجم.

لوضوح أنه لا يمكن أن يصلي ولا يجعلها فريضة لأنه ليس بالخيار إما يصلي وتكون فريضة أو ما يصلي ولا تكون فريضة.

فحملها على الفريضة في مقابل النفل لا يمكن المساعدة عليه، بخلاف ما إذا فسرنا قوله عليه السلام : «ويجعلها الفريضة» أي تلك الفريضة التي جاء بها فرادى وفرغ منها، وإلا فعند إذ يصح أن يقول الإمام عليه السلام : «يصلي معهم وإن شاء جعلها بدلاً عن تلك الفريضة وإن شاء جعلها قضاء عما في ذمته» لأنها فريضة على كل حال.

الخلاصة:

نستظهر إرجاع قيد «إن شاء» إلى خصوص الجملة الثانية «يصلي معهم» فتكون قرينة على إبطال احتمال كون المقصود من قوله: «ويجعلها فريضة» يعني يجعلها فريضة ويتعين أن يكون المقصود من قوله: «ويجعلها فريضة إن شاء» يعني يجعلها الفريضة، يعني يجعلها فريضة ويتعين أن يكون المقصود من قوله: «ويجعلها فريضة إن شاء» أي يجعلها الفريضة التي فرغ منها، في مقابل إن شاء جعلها فريضة أخرى، وليس يصلي فريضة في مقابل أن يجعلها نافلة.

إذاً الوجه الأول من خلاف ظاهر الرواية.

الوجه الثاني أن يكون المقصود من قوله عليه السلام : «ويجعلها الفريضة» هو أخذ عنوان الفريضة بنحو المعرفية لا بنحو الموضوعية، بمعنى أن تكون الفريضة إشارة إلى صلاة الظهر التي فرغ منها، لا إلى صلاة الظهر بقيد أن لا تزال فريضة، فإن صلاة الظهر حتى لو اكتسبت الاستحباب بالإعادة لكنها هي في حد نفسها فرضٌ وواجب، كما لو اكتسبت صلاة الليل الوجوب بنذر، وهذا لا يخرج صلاة الليل عن كونها بنفسها مستحبة في حد ذاتها.

ولم يؤخذ في المقام عنوان الفريضة بقيد أن لا تزال فريضة، حتى يلزم أن يكون الفرض والوجوب باقياً فيمتثل ثانياً بعد امتثاله أولاً.

إذاً نحمل الفريضة على المعرفية لا على الموضوعية، وبعد حمل الفريضة على المعرفية وسلخها عن الموضوعية يصبح قوله عليه السلام : «ويجعلها الفريضة» بمعنى يصلي صلاة الظهر مرة أخرى، فيرجع مفاد قوله عليه السلام إلى مفاد الطائفة الأولى يعني يعيد الصلاة مرة أخرى، ولا يكون فيه دلالة على جواز تبديل الامتثال بالامتثال.

أعيد وأكرر حتى نناقش:

تارة نأخذ العنوان بنحو الموضوعية، وتارة نأخذ العنوان بنحو الطريقية والكاشفية، فلو حملنا قوله عليه السلام «ويجعلها الفريضة» على موضوعية الفريضة، فحينئذ تكون الصلاة الأولى فرادى قد جاء بها فريضة، والصلاة الثانية الجماعة جاء بها فريضة، وهذا يحقق الامتثال بعد الامتثال، يعني امتثل الأمر بوجوب الصلاة أولاً حينما جاء بالصلاة فرادى، وثانياً حينما جاء بالصلاة جماعة، هذا لو حملنا لفظ الفريضة على الموضوعية أي الصلاة التي افترضها الله على المكلفين.

وتارة نحمل لفظ الفريضة على الكاشفية والمعرفية، فإن المكلف حينما صلى فرادى قد امتثل الفريضة وجاء بها، ثم يقول له الإمام عليه السلام : «ويجعلها الفريضة جماعة» أي يعيد الصلاة التي صلاها كفريضة ويعيدها جماعة، فلا يفهم من قوله: «ويجعلها الفريضة» أنه يأتي بها كواجبة، بل يفهم من ذلك الإشارة إلى ما جاء به مسبقاً كفريضة.

إذاً الوجه الثاني يحمل الفريضة وعنوان الفريضة كمعرف لا بنحو الموضوعية.

لكن هذا الوجه ليس بتام لأمرين:

الأمر الأول إن حمل عنوان الفريضة في المقام على المعرفي المحضة في مقابل الموضوعية وإن كان جائزاً ولكنه يحتاج إلى قرينه ولا توجد قرينة والأصل في العناوين هو الموضوعية لا الطريقية، وحمل العنوان على الطريقية يحتاج إلى دليل، فلو قلت لك: «اسقني ماء» فهل يمكن أن تأتي بـ «شربت»[5] أو عصير، وتقول: أراد أن يرفع عطشه، وظاهر الماء الكاشفية عن رفع العطش، هل يمكن ذلك؟ كلا وألف كلا.

الأصل في العناوين هو الموضوعية «الماء» له موضوعية، حملة على الكاشفية إذا كان هناك قرينة، كما لو قال: «احضر لي الماء، أحتاج إلى شرب السوائل» فحينئذ يمكن أن يأتي بشراب أو عصير لأنه يريد شرب السوائل، فهنا ظاهر لفظ الفريضة العنوانية لا الكاشفية والمعرفية، حمله على الطريقية والكاشفية يحتاج إلى قرينة وهي مفقودة فنتمسك بالأصل.

الأمر الثاني لو سلم وفرض العبارة جاءت صريحة في المعرفية فقال عليه السلام : «يصلي معهم ويجعلها صلاة الظهر بدلاً من كلمة الفريضة»، ولكن مع هذا يوجد فرق كبير بين لسان ويجعلها صلاة الظهر وبين لسان أعد معهم صلاة الظهر، فرق بين أعد وبين اجعلها، فلسان الطائفة الأولى أعد معهم صلاة الظهر.

وهذا اللسان غاية ما يستفاد منه أنه صلى صلاة ظهر، الصلاة الفرادى والصلاة التي أعادها، فلعل الأولى واجبة والثانية مستحبة، فلا تبديل للامتثال بالامتثال هذا بالنسبة إلى الطائفة الأولى يعيدها «أعد معهم».

لكن في المقام لم يقل «أعد صلاة الظهر» ولم يقل «يجعلها ظهراً»، بل قال: «يجعلها فريضة»، فلو قال: «يجعلها فريضة، يجعلها ظهراً» يعني ويجعل ذلك الفرض من صلاة الظهر لا يجعلها فرداً آخر من صلاة الظهر، وذلك الفرد من صلاة الظهر هو واجب على كل حال، فلو قال «فليجعلها ذلك الفرد من صلاة الظهر» يعني فليجعلها واجبة لا محالة، فيعود الإشكال، لأنه عليه يكون قد أمر بتبديل الواجب من ذاك الفرد الذي جاء به فرادى إلى هذا الفرد الذي جاء به جماعة.

خلاصة الأمر الثاني: لسان الرواية مختلف فهو لم يقل يعيدها ظهراً، يعيدها فريضة، قال: اجعلها فريضة، يعني جاء بفريضة، الفريضة الأولى جاء بها فرادى، والفريضة الثانية جاء بها جماعةً، فتكون تدل على الامتثال بعد الامتثال، ولا يمكن حملها على المعرفية بل تحمل على الموضوعية.

إذاً الوجه الثاني ليس بتام.

الوجه الثالث يأتي عليه الكلام.


[5] بالفارسية.
logo