« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

46/04/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائة وثمانون): تفصيل صاحب الكفاية في جواز تبديل الامتثال بعد الامتثال

الموضوع: الدرس (مائة وثمانون): تفصيل صاحب الكفاية في جواز تبديل الامتثال بعد الامتثال

 

ذكر الآخوند الملا محمد كاظم الخراساني في كفاية الأصول[1] تفصيلاً في جواز تبديل الامتثال بعد الامتثال، ومرجع هذا التفصيل إلى صورتين:

[التفصيل في جواز تبديل الإمتثال بعد الإمتثال]

الصورة الأولى تكون نسبة الغرض من الأمر إلى متعلق الأمر نسبة المعلول إلى العلة التامة، وإذا تحققت العلة التامة وجب تحقق المعلوم، إذاً بمجرد الإتيان بمتعلق الأمر الذي هو بمثابة العلة يحصل الغرض لا محالة لأنه بمثابة المعلول، ومع حصول الغرض وتحقق الغرض قاطعاً يسقط الأمر، إذ أن الأمر يبقى ما دام غرضه لم يتحقق فإذا تحقق الغرض سقط الأمر، وإذا سقط الأمر ففي هذه الحالة لا معنى لتبديل الامتثال إذ لا أمر، فلم يبقى أمر حتى يجب امتثاله.

الصورة الثانية تكون نسبة الغرض إلى متعلق الغرض نسبة المقتضى إلى المقتضي، أي أن العلة ليست تامة بل علة ناقصة، أو نسبة المعد إلى المقدمة الإعدادية، فإذا وجد المعِدّ لا يتحقق بالضرورة المعَدّ إلا إذا توفرت الشرائط.

مثال ذلك: المولى الذي أمر عبده بإحضار الماء لكي يطفئ عطشه، فبعد إحضار الماء وهو مقدمة إعدادية أو مقتضٍ، وهذا هو متعلق الأمر لا يحصل الغرض دائماً، بل قد يكون متوقفاً على ضمائم أخرى، كإمساك المولى للقدح بيده، أو إيصال الماء وصبه من القدح في فم المولى، وهذا شأن يخص المولى، فالغرض لا يزال باقياً، والأمر لا يسقط إتيان بالمقدمة الإعدادية، وعلى هذا يمكن تبديل الامتثال من جديد.

وخلاصة ما ذهب إليه صاحب الكفاية:

متعلق الأمر هل هو علة تامة؟ كما في الصورة الأولى، أو علة ناقصة؟ كما في الصورة الثانية، فإن كان متعلق الأمر علة تامة فبتحقق متعلق الأمر يتحقق الغرض، وبسقوط الغرض يسقط الأمر، وبسقوط الأمر يسقط الامتثال، فلا معنى لتبديل الامتثال بالامتثال إذ لا أمر.

بخلاف الصورة الثانية وهي فيما إذا كان متعلق الأمر إلا ناقصة كالعلة الإعدادية، فإنه إذا تحقق متعلق الأمر ـ وهو العلة الناقصة ـ لا يسقط الغرض لأن العلة ليست تامة بل ناقصة فليس بالضرورة يتحقق المعلول وهو الغرض، وإذا لم يسقط الغرض لا يسقط الأمر، وإذا لم يسقط الأمر يجب امتثاله، فهنا يعقل توجيه أمر آخر وامتثال آخر لكي يسقط الغرض.

هذا تمام الكلام في تقرير تفصيل صاحب الكفاية رحمه الله.

[اعتراض المحقق الإصفهاني والسيد الخوئي]

واعترض عليه الأصفهاني[2] وتلميذه الوفي السيد أبو القاسم الخوئي[3] وغيرهما رحمة الله عليهم.

ومفاد اعتراضهما:

إن هذا التفصيل غير معقول في باب الغرض.

توضيح ذلك:

إن الغرض في مثل إحضار الماء لابد وأن يستوفى عند الإتيان بمتعلق الأمر وهو إحضار الماء، بحيث تكون نسبة الغرض إلى الإحضار هي نسبة المعلول إلى العلة، وإلا لو لم يستوفى الغرض بحصول متعلق الأمر فلا يكون هذا المتعلق هو الغرض الداعي إلى الأمر، أي أن ما ندرسه في هذا الباب كله من باب الصورة الأولى أي نسبة المعلول إلى علته التامة، والعلة التامة هي متعلق أمر، والغرض هو المعلول، فإذا جيء بمتعلق الأمر وهو إحضار الماء الذي بمثابة العلة يتحقق المعلول قهراً وهو الغرض، فإذا سقط الغرض سقط الأمر، وإذا سقط الأمر سقط الامتثال فلا معنى لتبديل الامتثال بالامتثال.

وأما ما ذكره صاحب الكفاية وما يرى في هذا المثال من عدم سقوط الغرض بمجرد إحضار الماء، لأنه يحتاج إلى ضمائم أخرى كإيصال القدح إلى يد المولى وغير ذلك مما يخص المولى، فهذا حاصل من الخلط بين الغرض الأدنى والغرض الأعلى.

فإن الغرض الأعلى هو رفع عطش المولى كغرغرة حلقه بالماء وسكب ماء القدح في فمه مباشرة فهذا هو الحد الأعلى من الغرض، وهناك حد أدنى من الغرض وهو التمكن من رفع العطش، فإذا احضر القدح أمام المولى ولم يسكب في فمه، فهنا يتمكن المولى من رفع عطشه بنفسه بلا زحمة، فهذا تمكن من رفع العطش من دون مؤونة ولا زحمة.

ومن الواضح حينئذ أنه إذا كان غرض المولى هو الأدنى فإن الغرض يسقط بمجرد إحضار الماء عنده إذ أن المولى يتمكن حينئذ من رفع عطشه، وهذا التمكن معلول، والعلة إحضار الماء، وعليه فلا تنخرم القاعدة القائلة بأن الغرض الذي من أجله أنشئ الأمر لا يستوفى بتحقق وحصول متعلق الأمر.

فمتعلق الأمر هنا قد حصل، ما هو متعلق الأمر؟ التمكن، إحضار الماء.

إذا الغرض الحقيقي من الأمر إنما هو الغرض الأدنى، ما هو الغرض الأدنى؟ التمكن من رفع العطش، فعندنا علة وعندنا معلوم، ما هي العلة؟ متعلق الأمر وهو إحضار الماء، ما هو المعلول؟ التمكن من رفع العطش.

إذاً يوجد عندنا غرضان: غرض أعلى وهو رفع العطش فعلاً، وغرض أدنى التمكن من رفع العطش.

إذاً أنت مسبية على أي حال، دائماً إذا حصل المتعلق كإحضار الماء يتحقق المعلول والغرض، فهذا الغرض إما أعلى فيحضر الماء ويجعله في فمه/ الغرض الأعلى ماذا؟ رفع العطش فعلاً، وإما الغرض أدنى التمكن من رفع العطش.

إذاً يرى المحقق الأصفهاني والمحقق الخوئي أن تفصيل صاحب الكفاية لا يجري هنا، ومقامنا هو إنما يندرج في خصوص الصورة الأولى التي ذكرها صاحب الكفاية.

[كلام السيد الصدر]

لكن الشهيد الصدر السيد محمد باقر الصدر[4] رحمه الله خالف صاحب الكفاية ومن عارضه، فقال: لا يمكن تبديل الامتثال بالامتثال وفاقاً للسيد الخوئي والمحقق الأصفهاني وخلافاً لصاحب الكفاية، ففي النتيجة يتفق الشهيد الصدر مع المحقق الأصفهاني والسيد الخوئي، ويخالف صاحب الكفاية، لكنه أيضاً يخالف السيد الخوئي والمحقق الأصفهاني فيما يتعلق بالنسبة إلى الغرض وأن هذا الغرض دائماً يكون من قبيل الصورة الأولى.

إذا يوجد كلامان: الأول كلام مع صاحب الكفاية، الثاني كلام مع المحقق الأصفهاني والسيد الخوئي.

الكلام الأول مناقشة صاحب الكفاية.

والصحيح أنه لا يمكن تبديل الامتثال بالامتثال وفاقاً للمعارضة ـ المحقق الأصفهاني والسيد الخوئي ـ وخلافاً لصاحب الكفاية، كما أن الصحيح أنه ليس دائماً يجب أن تكون نسبة الغرض إلى متعلق الأمر هي نسبة المعلول إلى العلة خلافاً للسيد الخوئي والمحقق الأصفهاني، ففي هذه الناحية يوافق الشهيد الصدر صاحب الكفاية من أن الغرض قد تكون نسبة العلة إلى المعلول أو نسبة المقتضي إلى المقتضى.

أما بالنسبة إلى صاحب الكفاية رحمه الله فالشهيد الصدر يوافق على أن نسبة الغرض إلى متعلق الأمر قد تكون نسبة المعلول إلى العلة، وأخرى نسبة المقتضى إلى المقتضي، لكن في كلتا الحالتين إذا فرض أن المكلف أتى تمام ما تعلق به الأمر فيستحيل تبديل الامتثال بالامتثال.

والسر في ذلك:

أن كلام صاحب الكفاية مبني على مبنى أصوله وهو أن الأمر فرع غرضه، فإذا سقط الغرض سقط الأمر، فمبناه كمبنى الكثير من الأصوليين إن الأمر يسقط بسقوط غرضه، فهذا مبني على الاعتقاد أن الأمر يبقى ببقاء غرضه ويزول بزوال غرضه.

وقد مضى في بحث التوصلي والتعبدي، وذكر صاحب الكفاية أن من جاء بالصلاة من دون قصد القربة لا يسقط الأمر بالإتيان بهذه الصلاة، لأن الغرض التعبدي لم يحصل، إذ لم يقصد القربة، فلا يسقط الأمر إلا إذا أتى بالصلاة بقصد القربة.

لكن الشهيد الصدر يشكل على هذا المبنى وهو أن الأمر تابع في سقوطه لسقوط غرضه، بل يرى الشهيد الصدر أن الأمر في سقوطه تابع لإمكان تحريكه وفاعليته، هل لهذا الأمر فاعلية ومحركية أو لا؟ فثبوت الأمر رهن ثبوت فاعليته ومحركيته، وسقوط الأمر رهن سقوط محركيته وفاعليته.

ومن المعلوم أن الأمر إذا كان متعلقاً بصرف وجود الطبيعة، وانطبق صرف الوجود على الوجود الأول، فبقاء الغرض وعدم سقوطه هنا خلف تعلق الأمر بصرف وجود الطبيعة، إذ بعد حصوله يكون طلب ثانياً تحصيلاً للحاصل، وهذا مضى لما درسنا الحلقة الثالثة ذكرنا مثال له.

مثلاً: «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر» فما هو الغرض من تشريع الصلاة؟ الانتهاء عن الفحشاء والمنكر، لكن المولى حينما يأمر بالصلاة لا يجعل هذا الغرض وهو الانتهاء عن الفحشاء والمنكر هو المعيار للصلاة، وإنما يقول: إذا دخل الوقت عليك أن تأتي بهذه الكيفية من الأجزاء والشرائط بقصد القربة، فإذا العبد دخل وقت الصلاة، أذن المغرب، وصلى ثلاث ركعات المغرب وأربع ركعات العشاء بقصد التقرب إلى الله، لكنه لم ينتهي عن الفحشاء والمنكر، فإن هذه الصلاة تسقط لأن فاعلية ومحركية الأمر بالصلاة قد سقطت عند الإتيان بالطبيعة وهي الصلاة من ركوع وسجود وأجزاء وشرائط، وإن كان الغرض لم يستوفى.

إذا في مقام بحثنا: يكفي الإتيان بفرد من الطبيعة، فإذا جاء المكلف بمتعلق الأمر سقط الأمر لسقوط محركيته وفاعليته، حتى لو بنينا على أن الغرض لا يزال باقياً، لأن الأمر إذا كان متعلقاً بصرف الوجود وانطبق على ما أتى به من الصلاة، فحينئذ يسقط الأمر فلا يجب امتثاله، فلا يعقل الامتثال بعد الامتثال.

هذا بالنسبة إلى مناقشة صاحب الكفاية.

الكلام الثاني مع المعارضة المحقق الأصفهاني والسيد الخوئي.

فصحيح أن الغرض في المقام هو التمكن من رفع العطش، لكن هذا الغرض غرض مقدمي وليس غرضاً نفسياً.

بمعنى أن المولى ليس له غرض نفسي في التمكن، طبعاً قد يكون عنده غرض نفسي في التمكن، لكن كلامنا هو يريد يشرب الماء، فهو حينما يأمر بإحضار الماء يكون التمكن من الماء مقدمة للواجب أصلاً، وهو شرب الماء.

إذا وقع التمكن كمقدمة لرفع العطش فالتمكن مطلوب غيري ومحبوب غيري وليس محبوباً في نفسه.

وبناء على مختار الشهيد الصدر في مقدمة الواجب، ومبنى السيد الخوئي[5] أيضاً من أن الحب الغيري إنما يتعلق بخصوص الحصة الموصلة لا بمطلق المقدمة، في مقدمة الواجب يقولون هكذا: المقدمة الواجبة هي خصوص المقدمة الموصلة لا مطلق المقدمة، يعني يجب عليك خصوص الدابة والراحلة التي توصلك إلى الحج لا مطلق الراحلة التي قد توصلك إلى الحج وقد لا توصلك.

وبالتالي الغرض المقدمي ليس متعلقاً بالتمكن على الإطلاق بل بحصة خاصة من التمكن وهو خصوص التمكن من الماء الذي يقع بعده رفع العطش بالفعل، فينحل الغرض إلى تمكن وخصوصية أخرى وهي خصوصية الإيصال إلى رفع العطش.

وبهذا يكون الغرض المقدمي مركباً من جزئين:

الجزء الأول هو التمكن،

والجزء الثاني حيثية الإيصال إلى ذي المقدمة، فيكون ذات التمكن غرضاً مقدمياً ضمنياً، وليس غرضاً استقلالياً مقدمياً، وحيث إنه غرض مقدمي ضمني فيستحيل استيفاؤه في المقام، لأن الغرض الضمني لا يستوفى ومن الغرض الاستقلالي بمعنى أن الغرض المقدمي هو المجموع المركب من التمكن وحيثية الإيصال، فالتمكن ليس وحده متعلقاً للغرض، وهذا الغرض لا يستوفى بمجرد الإتيان بالماء.

هذا تمام الكلام في مناقشة السيد الخوئي و المحقق الأصفهاني رضوان الله عليهما.

النتيجة النهائية في هذا الأمر الثامن والأخير تعدد الامتثال أو تبديله لا يمكن تبديل الامتثال بالامتثال.

هذه أمور ثمانية، وبعدها إن شاء الله تطبيقات فقهية، يأتي عليها الكلام.


[5] محاضرات، الفياض، ج2، ص415 و 416.
logo