« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

46/04/15

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائة وتسعة وسبعون): تعدد الامتثال أو تبدله

الموضوع: الدرس (مائة وتسعة وسبعون): تعدد الامتثال أو تبدله

 

الأمر الثامن

تعدد الامتثال أو تبديله

اتضح أن القاعدة المنضبطة تقتضي عدم تعدد الأمر بلحاظ المتعلق، فإذا قال المولى: «صلّ» فهنا يوجد أمر واحد متعلق بالطبيعة، وحيث إن طبيعة الصلاة توجد بفرد من أفرادها، فيحصل امتثال أمر الصلاة بإيجاد فرد وحصة من الصلاة.

لكن كما يحصل الامتثال بإيجاد الطبيعة المأمور بها بإيجاد فرد من أفرادها، قد يحصل الامتثال بالإتيان بمجموع فردين عرضيين.

مثال ذلك:

لو قال المولى: «تصدق»، فإن امتثال الأمر بالتصدق يحصل بالصدقة مرة واحدة، ويحصل أيضاً بالتصدق بصدقتين في آن واحد وفي عرض واحد، فامتثال الأمر بالصدقة كما يحصل بالتصدق مرة واحدة فقط، يحصل أيضاً بمجموع الفردين العرضيين.

والسر في ذلك:

أن الطبيعة لم يؤخذ فيها قيد الوحدة فطبيعة التصدق كما تنطبق على الوجود الواحد تنطبق أيضاً على الوجود المتعدد المتحقق في آنٍ واحد.

بالنسبة للأفراد العرضية

يوجد مصداقان لامتثال الأمر بالتصدق:

المصداق الأول التصدق مرة واحدة.

المصداق الثاني التصدق مرتين أو ثلاث أو أربع دفعة واحدة.

فالمصداق الأول والثاني يحققان الطبيعة المطلوبة.

وأما الأفراد الطولية وهي الصدقة تلو الصدقة، فهل الأفراد الطولية كالأفراد يوجد هنا تخيير بين التصدق مرة واحدة أو بين أفراد طولية كما يوجد تخيير بين التصدق مرة وحدة وبين أفراد عرضية أو لا؟

فهل الأفراد الطولية كالأفراد العرضية مخير فيها بين الامتثال بالفرد الواحد والفردين لانطباق الطبيعة كذلك على الفردين الطوليين كانطباقها على الفرضين العرضيين، ونظراً لعدم تقيد الطبيعة بالفرد في مقابل الأفراد كذلك لم تقيد الطبيعة بالدفعة في مقابل الدفعات، فيمكن أن نتمسك بالإطلاق، ونقول: إطلاق الأمر كما يشمل التصدق مرة واحدة يشمل التصدق مرة، وكما يشمل التصدق دفعة واحدة يشمل التصدق على دفعات.

إذا تنطبق الطبيعة على الأفراد الطولية التي هي الدفعة كما تنطبق الطبيعة على الفرد والأفراد التي هي أفراد عرضية.

والصحيح: استحالة ذلك، بمعنى أنه ليس كما أن الفردين العرضيين يكونان طرفاً للتخيير كذلك يكون الفردان الطوليان طرفاً للتخيير، ومعنى عدم كونهما طرفاً للتخيير هو أن الواجب لا ينطبق على مجموع الفردين الطوليين أو الأفراد الطولية، وإن انطبق الواجب على مجموع الأفراد العرضية، لأن التخيير بين الفردين الطوليين غير متصور.

توضيح ذلك:

[يقع الكلام في مقامين]

التخيير إما عقلي وإما شرعي، ومن هنا يقع الكلام في مقامين:

المقام الأول: التخيير العقلي، ومرجع التخيير العقلي إلى تعلق الوجوب بالجامع، بحيث يكون الوجوب متعلقاً بذات الطبيعة، فيحكم العقل بأن المكلف مخير في تطبيق الطبيعة والتخيير العقلي.

التخيير العقلي معقول بالنسبة إلى الفردين العرضيين لأن مطلوب المولى هو الطبيعة التي لم يؤخذ فيها قيد الوحدة ولا الاثنينيه، فالواجب إذا ينطبق عليهما معاً، وعلى أحدهم فقط، فواجب التصدق يصدق على التصدق مرة واحدة وعلى التصدق مرتين ثلاث في دفعة واحدة، لأن الواجب أخذ لا بشرط من حيث الوحدة والتعدد، فكما ينطبق على الواحد ينطبق على الاثنين، هذا بالنسبة إلى الفردين العرضيين.

ولكن بالنسبة إلى الفردين الطوليين العقل لا يحكم بهذا التخيير، فلا يحكم العقل بإمكان الامتثال مثلاً بدفعة واحدة وبدفعتين متتاليتين.

والسر في ذلك:

أن المكلف إذا امتثل بالدفعة الأولى حصل الامتثال وسقط الأمر، ومعه لا تكون الدفعة الثانية دخيلة في الامتثال، بخلاف الدفعات العرضية الامتثال يتحقق بالتصدق خمس مرات دفعة واحدة، عشر مرات دفعة واحدة، لكن في الدفعات الطولية إذا تصدق في الدفعة الأولى تحقق الامتثال فلا يشمل الدفعة الثانية إلى العاشرة الطولية.

إذاً يستحيل عدلية الدفعات المتتالية في الأفراد الطولية للدفعة الأولى، وليس منشأ هذه الاستحالة ضيق دائرة الواجب، بل منشأها ضيق دائرة الوجوب لأنه قد تحقق امتثال الوجوب بالإتيان بالدفعة الواحدة.

فالواجب هو الطبيعة ولم يؤخذ فيها أي قيد لا قيد المرة ولا المرات ولا الدفعة ولا الدفعات ولا الفرد ولا الفردين والوجوب يستحيل بقاؤه إذا جيء بالدفعة الأولى، فإذا امتثل المكلف وجاء بالدفعة الأولى وتصدق سقط الوجوب وسقط الأمر بالإتيان بالدفعة الأولى، وفي هذه الحالة يستحيل التخيير العقلي في الأفراد الطولية.

خلاصة الكلام في المقام الأول التخيير العقلي:

التخيير العقلي فرع تعلق الوجوب بالجامع بين الأفراد، هذا يتصور بالنسبة إلى أفراد العرضية، فهناك جامع وهو وجوب التصدق له المصداق الأول الإتيان بالتصدق مرة واحدة، والمصداق الثاني التصدق عدة مرات في عرض واحد يوجب التخيير العقلي، بخلاف الأفراد الطولية المترتبة على بعضها التي هي في طول بعضها وفرع بعضها، فإذا أتى بالفرد الطولي الأول كان قد امتثل وسقط الوجوب، إذا سقط الوجوب لا تصل النوبة إلى الدفعة الثانية والثالثة.

إذاً التخيير العقلي غير متصور في الأفراد الطولية، لكنه متصور في الأفراد العرضية.

المقام الثاني: التخيير الشرعي

الشق الأول: البدلية في التخيير الشرعي يمكن أن تتصور في التخيير بين الأقل والأكثر، كما تصوره صاحب الكفاية[1] رحمه الله مثل التخيير بين تسبيحة واحدة «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» وبين التسبيحات في الركعة الثالثة والرابعة من الصلاة، فهذا أمر معقول.

ومرجع التخيير الشرعي إلى أن المولى يخير العبد الدفعة الأولى بشرط لا من حيث الثانية يعني تأتي بالتسبيحة الأولى بشرط عدم الإتيان بالتسبيحة الثانية والثالثة هذا الشق الأول من التخيير.

والشق الثاني: من التخيير وبين الدفعتين معاً أن تأتي بالتسبيحات الثلاث بحيث يكون كل من الخصوصيتين داخلاً في الخطاب فيقول: إما أن تأتي بدفعة الأولى بشرط لا يعني تأتي بالتسبيحة الأولى بشرط عدم الإتيان بالتسبيحة الثانية والثالثة، وإما أن تأتي بدفعتين أو دفعات أي تأتي بثلاث تسبيحات، فالتخير هنا تخيير شرعي في التسبيحات الثلاث في الركعة الثالثة والرابعة من الصلاة، فالتخيير الشرعي هنا بين التسبيحة الواحدة بشرط لا من حيث الثانية أو بتسبيحة واحدة، ولكن بشرط شيء من حيث ضم تسبيحتين أخريتين لها.

إذاً التخيير الشرعي معقولٌ في الدفعات الطولية، وغير معقول التخيير العقلي.

إلى هنا هكذا النتيجة كلامنا في الدفعات الطولية:

اتضح في المقام الأول أن التخيير العقلي غير معقول في الدفعات الطولية لأن مرجعه إلى تعلق الوجوب بالجامع وفي الدفعات الطولية إذا امتثل الفرد الأول تحقق الامتثال وسقط الوجوب فلا يمكن وجوب جامع، بخلاف التخيير فإنه معقول في الدفعات الطولية.

ولكن على الرغم من معقولية التخيير الشرعي، لكن نفس إطلاق خطاب سبح وخطاب تصدق لا يفي بما عقلناه، أي أنه في التخيير العقلي يوجد إشكال ثبوتي، يعني غير ممكن عقلاً، غير ممكن ثبوتاً، وأما في التخيير الشرعي لا يوجد إشكال ثبوتي ممكن ثبوتاً من الناحية الشرعية، لكن غير ممكن إثباتاً أي تصور الأفراد الطولية لا يشمله إطلاق خطاب «صلّ ـ تصدق» بل إن الأفراد الطولية يحتاج إلى لسان مخصوص يفي به، لأن خطاب تصدق لا يفهم منه أخذ التصدق الواحد بشرط لا أو أخذ التصدق مرة أخرى بشرط شيء ما يفهم منه.

وهكذا خطاب «سبح» لا يؤخذ منه أخذ التسبيحة بشرط عدم ضم تسبيحتين أو التسبيحة بشرط ضم التسبيحتين.

الخلاصة: بالنسبة إلى الأفراد الطولية فالتخير العقلي غير ممكن ثبوتاً فضلاً عن عالم الإثبات، وأما بالنسبة إلى التخيير الشرعي فهو وإن كان ممكناً ثبوتاً لكنه غير ممكن إثباتاً إذ أنه خلاف ظاهر إطلاق الخطاب ويحتاج إلى نص خاص.

إذاً فما هو معقول من التخيير بين الأقل والأكثر الطوليين يحتاج إلى دليل ولسان خاص يفي به لأنه لا يفي به الخطاب، ولكن ما يفي به الخطاب وهو التخيير العقلي فقد عرفت بأنه يتصور بين الفردين العرضيين دون الطوليين، إذا فالواجب لا ينبسط على الفرضين الطوليين كما انبسط على الفردين العرضيين.

ومن هنا يأتي سؤال مهم وهو أنه هل يمكن تبديل الامتثال في الأفراد الطولية أو لا يمكن؟ وهذا ما يقودنا إلى بحث مهم تبديل الامتثال بالامتثال، هل يمكن تبديل الامتثال في الأفراد الطولية أو لا يمكن؟ بمعنى أنه هل يمكن أن يمتثل عوضاً عن الفرد الأول بالفرد الثاني أو لا يمكن ذلك؟

[فرض خارج عن محل النزاع لكن مهم في تصوير المطلب]

وقبل الدخول في تحقيق المطلب أشار الشهيد الصدر[2] رحمه الله إلى فرض خارج عن محل النزاع لكنه مهم في تصوير المطلب، وهو ما إذا كان الواجب مشروطاً على نحو الشرط المتأخر، وأخل المكلف بذلك الشهر فإنه في مثل ذلك لا إشكال في صحة تبديل الامتثال لأنه لا يكون من باب تبديل الامتثال بل من باب هدم الامتثال الأول وإخراجه عن كونه امتثالاً.

مثال ذلك:

لو قال المولى لعبده «جئني بماء وضعه في الغرفة حتى آتي إليه»، فجاء المكلف بالماء ولكن لم يبقه في الغرفة بل أراقه، فهنا ليس غرض المولى قد تعلق بمجرد إحضار الماء بل إحضار الماء مع بقائه في الغرفة حتى يجيء ويشربه، والمفروض أن العبد قد أخل بهذا الشرط فآراق الماء، لكنه جعل ماء آخر مكانه.

ومثل هذا ليس داخلاً في محل النزاع، مثل هذا إنما هو إلغاء للفرد الأول حينما آراق الماء، وتعويضه وتبديله بفرد ثاني وهو الماء الذي جعله في الغرفة، فإراقة الماء كشفت عن أن الامتثال الأول لم يكن امتثالاً، لأن امتثالية الأول مشروطة بإبقاء الماء وقد آراق، فالمفروض أن العبد هدم هذا الإبقاء بالإراقة فلا يكون الأول امتثالاً بل يكون الامتثال بخصوص الثاني.

إلى هنا اتضح: أنه إذا جاءنا خطاب مثل خطاب «صلّ، تصدق» يمكن امتثال الخطاب بالصلاة أو التسبيح مرة واحدة، كما يمكن امتثال الخطاب بالإتيان بالدفعات العرضية كالتصدق مرتين أو ثلاث مرة واحدة، ولا يعقل امتثال الخطاب بالإتيان بالأفراد الطولية، لأنه إذا جاء بالفرد الأولي الطولي تحقق الامتثال وسقط الوجوب، فلا يكون الفرد الثاني مصداقاً للواجب.

من هنا يأتي هذا السؤال: هل يمكن تبديل الامتثال الطولي بالامتثال الطولي أو لا؟

هذا الكلام فيه تفصيل لصاحب الكفاية، وناقشه ورد عليه المحقق الأصفهاني والسيد الخوئي رحمة الله عليهم جميعاً.

تفصيل صاحب في تبديل الامتثال بالامتثال ومناقشته، يأتي عليه الكلام.

 


logo