46/04/12
الدرس (مائة وثمانية وسبعون): بيان النكتة التي على خلاف القاعدة
الموضوع: الدرس (مائة وثمانية وسبعون): بيان النكتة التي على خلاف القاعدة
الأمر السابع
[القرينة حاكمة على القاعدة]
بيان النكتة التي على خلاف القاعدة.
قلنا: إن مقتضى القاعدة في باب الأمر وفي باب النهي هو التعدد بلحاظ الموضوع وعدم التعدد بلحاظ المتعلق ما لم تقم قرينة على خلاف القاعدة، فإذا كان في الخطاب قرينة على التعدد في المتعلق أو قرينة على عدم التعدد بلحاظ الموضوع، فحينئذ يؤخذ بالقرينة، وتكون القرينة حاكمة على القاعدة.
[بيان نموذجين]
ولتوضيح هذه القرينة الحاكمة نذكر نموذجين لها:
النموذج الأول: إذا كان مقتضى القاعدة التعدد بلحاظ الموضوع، ووجدت قرينة تمنع من التعدد بلحاظ الموضوع وتقتضي الوحدة بلحاظه.
مثال ذلك: لو قال المولى: «أكرم عالماً» ولم يقل: «أكرم العالم» فإن أكرم العالم تفيد تعدد الإكرام بتعدد الموضوع وهو العالم، فمقتضى القاعدة هو تعدد الحكم بلحاظ الموضوع لكن بدخول التنوين على الموضوع في قوله: «أكرم عالماً» استفيد من التنوين قيد الوحدة، وبعد أخذ قيد الوحدة في طبيعة العالم يستحيل أن يتكثر تطبيقه في الخارج، وبتبعه يستحيل تعدد الحكم.
النموذج الثاني: إذا كان مقتضى القاعدة هو الوحدة بلحاظ المتعلق، لكن وجدت قرينة تقتضي التعدد بلحاظ المتعلق، كما هو الحال في النواهي بالنسبة إلى متعلقاتها، فالنهي كالأمر لا يقتضي التعدد بلحاظ المتعلق، فلو قال المولى: «لا تكذب» فإن هذا النهي لا يتكفل إلا زجراً واحدة وتحريماً واحدة لأنه نهي واحد، ولكن امتثال هذا النهي وهذا التحريم الواحد يكون باجتناب تمام أفراد الكذب حتى تنعدم طبيعته، فلو أتى المكلف بفرد واحد يسقط هذا التحريم بالعصيان، ولا موجب لافتراض تحريمات متعددة بعدد الأفراد خارجاً.
ولكن توجد قرينة عرفية مفادها أن المولى لاحظ التعدد في جانب المتعلق، فيصبح النهي انحلاليا متعدداً بلحاظ متعلقة، فإذا قال: «لا تكذب» ينحل النهي بعدد أفراد الكذب مع أن مقتضى القاعدة أن النهي واحد زجر واحد والمتعلق متأخر عن هذا النهي وليس متقدماً، فالنهي بالنسبة إلى المتعلق لا ينحل بل يكون واحداً.
لكن ببركة هذه النكتة العرفية وهي أن المولى لاحظ تعدد في جانب المتعلق، لاحظ ترك جميع أفراد الخمر وجميع أفراد الكذب في قوله: «لا تشرب الخمر ولا تكذب» إلى هنا واضح.
وهنا يوجد اعتراض فلسفي سيأخذ جميع درس اليوم، وهو حلو وعميق وقد أشار له الشهيد[1] أعلى الله في الخلد مقامه.
بيان الاعتراض:
إن هذا الكلام مبني على مطلب فلسفي، ولا بأس بشرح هذا المطلب الفلسفي، ومفاده:
أنه وقع الكلام في وجود الكلي الطبيعي في الخارج وعدم وجوده، فهل الكلي الطبيعي له وجود خارجي أم هو أمر ذهني قابع في الذهن ولا يوجد في الخارج؟
وقد عقدوا في هذا البحث مسألتين:
المسألة الأولى: وقع الكلام في أن الكلي الطبيعي هل هو موجود في الخارج أو هو أمر غير موجود في الخارج بل هو أمر ذهني؟
وقد ذهب مشهور الفلاسفة والحكماء المتقدمين إلى وجود الكلي الطبيعي في الخارج، واستدلوا على ذلك بأن الأفراد كزيد وعمرو وحسان وثابت موجودون في الخارج يقيناً، وكذلك الإنسان هو كلي طبيعي أيضاً هو موجود في الخارج في عين هذه الأفراد، كما أن الحيوان موجود في الخارج في عين أفراده كالأسد والزرافة والثعلب والنمر.
ولهذا يصح أن يحمل عليها الكلي الطبيعي بالحمل الشائع الصناعي الذي ملاكه الهوهوية والعينية أي هو هو هو عينه فيقال: زيد إنسان، بدر إنسان، الأسد حيوان والثعلب حيوان، فيحمل الكلي الطبيعي كالحيوان والإنسان على أفراده، إذا الكلي الطبيعي موجود في الخارج بوجود أفراده لأن الكلي الطبيعي كالحيوان والإنسان هو عين الفرد، وما عينه موجود في الخارج موجود في الخارج.
وبتعبير آخر: إن الفرد كزيد وعبيد مشتمل على الكلي الطبيعي مع خصوصيته الفردية، والفرد موجود في الخارج فالمشتمل عليه موجود في الخارج، إذاً الكلي الطبيعي موجود في الخارج.
ولاحظ كلامنا عن وجود الكلي الطبيعي وليس عن ماهية ومفهوم الكلي، الكلام عن وجود الكلي الطبيعي، خلاصة المسألة الأولى الكلي الطبيعي موجود خارج الذهن بوجود أفراده وليس موجوداً فقط داخل الذهن، موجود أيضاً خارج الذهن.
المسألة الثانية: بعد التسليم بوجود الكلي الطبيعي في الخارج وقع النزاع في تشخيصه في أنه ما هو؟ وكيف وجوده؟ وما هو نحو وجوده في الخارج؟
[النزاع بين الهمداني وابن سينا]
وهذا النزاع ذكره وحكاه الشيخ الرئيس أبو علي ابن سينا في كتاب النجاة[2] ، وهو نزاع حصل بينه وبين زميله الهمداني، فالهمداني وابن سينا يتفق كل منهما في وجود الكلي الطبيعي في الخارج، لكنهما يختلفان في نحو وجوده، وكيفية وجوده، وتحققه.
فالهمداني يرى أن الكلي الطبيعي موجود في الخارج بوجود واحد عددي أي أن عدد الكلي الطبيعي واحد يعني الكلي الطبيعي للإنسان واحد وليس متعدداً والكلي الطبيعي للحيوان واحد وليس متعدداً، بحيث أن وجود الكلي الطبيعي يتميز عن الوجودات الشخصية للأفراد بالسعة والشمول، لكنه واحد عدداً.
بخلاف ابن سينا وبقية الحكماء يرون أن الكلي الطبيعي له آلاف الوجودات في ضمن آلاف الأفراد، فليس هناك وجود واحد عددي يشار إليه بأبي الإنسانية وأبي حيوانية، والمتسع بالإنسانية لكل الإنسانية وأب الحيوانية لكل الحيوانية، بل كلي الإنسانية موجود بوجودات كثيرة ضمن الأفراد الكثيرة للإنسان وكذلك كلي الحيوان موجود في كل فرد فرد من أفراد الحيوانات وما نريد نكمل حديقة الحيوان.
والخلاصة لتوضيح المطلب:
قالوا أولاً: بأن نسبة الكلي الهمداني إلى أفراده نسبة الأب إلى أبناءه وأولاده.
وقالوا ثانياً: بأن نسبة الكلي الطبيعي عند ابن سينا إلى أفراد نسبة الآباء إلى الأبناء، فكل فرد بلحاظ كونه فرداً هو بمثابة الابن وبلحاظ اشتماله على حصة من الطبيعي كأنه الأب.
الخلاصة:
يتفق ابن سينا والهمداني في وجود الكلي الطبيعي خارج الذهن، يختلفان في نحو وجوده.
الهمداني يقول: الكلي الطبيعي واحد وهو بمثابة الأب لجميع الأفراد والأبناء.
وابن سينا يقول: الكلي الطبيعي متعدد وموجود في كل حصة حصة وفي كل فرد فرد من مصاديقه، فكل فرد من أبناء بني البشر والإنسان له مشخصاته الشخصية والفردية وفيه حصة من الكلي الطبيعي.
إذاً الكلي الطبيعي متعدد على مبنى ابن سينا وواحد على مبنى الرجل الهمداني.
إذا تمت هاتان المقدمتان نرجع إلى صلب الموضوع نحن ماذا تكلمنا؟
قلنا: بالنسبة إلى الأمر وبالنسبة إلى النهي عندنا طبيعة، هذه الطبيعة توجد بوجود فرد واحد وتنتفي بإعدام جميع أفرادها.
إذا كلامنا عن طبيعة واحدة أو متعددة؟ واحدة.
إذا نحن من أنصار الرجل الهمداني ولسنا من أنصار ابن سينا ومشهور الفلاسفة وهذا المبنى للرجل الهمداني غير مقبول عند الفلاسفة، فما بني على باطل، فهو باطل.
تفصيلهم: إن قيل بأن الطبيعة تنوجد بفرد ولا تنعدم إلا بانعدام جميع الأفراد فهذا القول يتناسب مع قول الهمداني في الثانية من البعض لأن الكلي الطبيعي له وجود واحد عددي ونسبته إلى الأفراد نسبة الأب إلى أبنائه فعلى هذا يصح أن يقال بأن وجود الطبيعة يكفي فيه أي فرد من أفرادها لو أن الكلي الطبيعي عين الفرد فوجود الفرد وجود له ولكن لا ينعدم إلا إذا انعدمت سائر الأفراد إذ ما دام يوجد فرد لهذا الكلي الطبيعي فهو موجود ولا يموت إلا إذا مات أبنائه.
وأما بناء على قول ابن سينا وغيره من الحكماء وهو أن الكلي الطبيعي له آلاف الوجودات في ضمن آلاف الأفراد إذا فالكلي الطبيعي له وجودات متعددة ويقابل كل وجود للطبيعي عدم له فله إعدامات متعددة، فكما أن الفرد يحقق وجوداً للطبيعة كذلك كل عدم يحقق عدماً للطبيعة.
إذاً فلا يتصور أن جانب الوجود يكفي فيه فرد واحد هذا في الأمر، وجانب العدم في النهي لا يكفي فيه فرد واحد هذا مبني على رأي الرجل الهمداني.
إذاً ما قلناه من أن جانب الوجود يكفي فيه فرد واحد وجانب العدم لا يكفيه ذلك مبني على مقالة الهمداني وهي باطلة، فما قلناه باطل لأن ما بني على باطل فهو باطل.
والجواب: أنا اختصر الجواب ثم نقرأ ما ذكره الشهيد الصدر.
الفلسفة ماذا تدرس؟
الفلسفة القديمة ما هو موضوعها؟ الوجود،
الفلسفة الحديثة ما هو موضوعها؟ المعرفة،
الفلسفة المعاصرة ما هو موضوعها؟ اللغة.
كلامنا في الفلسفة القديمة: «الفلسفة المشائية، الإشراقية، فلسفة الحكمة المتعالية» هذه فلسفات قديمة موضوعها الوجود، إذا حينما تتحدث عن الكلي الطبيعي تتكلم عن مفهوم الكلي الطبيعي أو عن وجود الكلي الطبيعي؟ كلام عن وجود الكلي الطبيعي.
إذا الحكمة والفلسفة تدرس وجود الكلي الطبيعي، وما نحن فيه في الأصول ما هو بحثنا؟ بحث الأوامر والنواهي؟ ما هو بحث الأوامر والنواهي؟ مباحث الألفاظ وما يفهم منها العرف، إذا بحثنا في المفاهيم يعني الماهيات، ماهية الأمر وماهية النهي بحسب ما يفهم العرف، والخلاف بين الرجل الهمداني وابن سينا إنما هو في وجود الكلي لا في مفهوم الكلي الطبيعي.
إذا خلاف الفلاسفة أجنبي عن بحثنا، نحن نتكلم إذا جاء الأمر «اشرب الماء» وجاء النهي «لا تشرب الماء» ماذا يفهم العرف؟ أي ما هو المفهوم الذهني الماهية الذهنية التي يستنبطها العرف من هذا الكلام، وإذا أراد أن يمتثل ما الذي يحقق الامتثال؟ فالعرف يفهم أن امتثال الشرب بمرة واحدة وأن امتثال النهي عن شرب الخمر بإعدام وترك جميع حصص الخمر، بحثنا في المفهوم كيف يمتثل؟ وليس بحثنا في الوجودات إذا بحثنا لا يبتني على مقولة الرجل الهمداني.
قال الشهيد الصدر[3] :
والجواب من أن هذا الاعتراض نشأ من الخلط بين عالم الوجود الخارجي الذي تدرسه الفلسفة وعالم المفاهيم الذي ندرسه هنا في مباحث الألفاظ والمفاهيم ماهيات.
وبتعبير آخر: نشأ من الخلط بين التناقض الفلسفي في عالم الوجود الخارجي والذي تدرسه الفلسفة وبين التناقض المنطقي في عالم المفاهيم الذي يدرسه علم الأصول، حيث يدرس المحاورات العرفية وما يفهمه العرف من الأمر أو النهي.
توضيح ذلك:
إن هذا النزاع بين الفلاسفة كان ناظراً إلى عالم الوجود الخارجي لأنهم كانوا قد اتفقوا على وجود أصل الكلي الطبيعي في الخارج ثم تنازعوا في كيفية وجوده وبنحو وجوده وتشخيصه في الخارج وهذا أجنبي عن مطلبنا في مباحث الألفاظ والأمر والنهي لأن المولى عندما يأمر وينهى لا يلقي الأمر والنهي على الخارج مباشرة وبدون توسيط المرايا الكاشفة وإلا لما وجدت الطبيعة التي لا تنعدم إلا بانعدام تمام أفرادها والتي تنوجد بفرد واحد لأنها لا توجد هذه الطبيعة في الخارج بل الموجود في الخارج هو زيد وزيد في مقابله عدم مخصوص وهو عدم نفسه إلا إذا صدق ظن الهمداني الكلي الطبيعي في الخارج فيعلق المولى عليه أمره ونهيه.
عموماً بعبارة أخرى الشارع يخاطب الذهن والصور الذهنية لكن لا بما هي صور ذهنية بحتة وخالصة بل بما هي صور ذهنية كاشفة عن الخارج فكأنها مندكة في الخارج فكأنما هي الخارج بالنظر الساذج والعفوي لكن بالنظر التفصيلي الصورة الذهنية هي غير الوجود الخارجي.
ومن الواضح أن المولى لا يلقي الأمر والنهي على الطبيعة لاستحالة وقوعهما على الوجود الخارجي لأن الأمر والنهي من شؤون عالم النفس بالنسبة إلى المكلف وبالنسبة إلى الأمر، فهذا ناظر إلى عالم نفس المكلف فهو ما يتعلقان بمفهوم حاضر في أفق نفس المولى بما هو حاكٍ عن الخارج ومرآة للخارج لا بما هو هو فالأمر والنهي يقعان على مفاهيم يعني ماهيات مفاهيم الوجود والعدم مفهوم إكرام وهو وجود ومفهوم عدم إكرام وهذا عدم، فالأمر والنهي ناظر إلى مفاهيم الوجود والعدم بما هي مرآتية وحاكية عن الخارج.
إذا اتضح أن أوامر المولى ونواهيه إنما تنصب على المفاهيم العنوانية على الصلاة العنوانية والإكرام العنواني ويتضح أن الكلي الطبيعي كلي الطبيعي همداني في عالم عقد القضايا والمرايا فكلام الرجل الهمداني بالنسبة لعالم المفاهيم صحيح لو كان ناظراً إلى عالم أفق النفس وعالم المفاهيم المرآتية لكنه كان ناظراً إلى عالم الخارج لا إلى عالم النفس.
وحيث إن هذه المفاهيم حاكية عن الوجود الخارجي فإذا وجد بإزاءها شيء ما في الخارج إذا فهذا المفهوم موجود وإذا لم يوجد شيء ما في الخارج فهو معدوم لا محالة ولا ربط لمطلبنا بهذا النزاع بين الفلاسفة أصلاً فإنهم تكلموا كحكماء فلاسفة ناظرين إلى عالم الخارج.
لاحظوا أغلب خلافات الناس في عدم تنقيح موطن القصيد ومربط الفرس يعني عدم النظر إلى الموضوع بدقة موضوع الفلسفة الوجود وموضوع الأوامر والنواهي الماهيات والمفاهيم التي يفهمها العرف من الأوامر والنواهي.
إذا لم يكن نظر الفلاسفة إلى الوجود العنواني المرآة في أفق نفس المولى الحاكي عن عالم عقد القضايا وجعل الأمر والنهي في أفق نفس المولى.
فالصحيح أن المطلب الذي ذكرناه لا محيص عنه من أن الطبيعة تنعدم بإعدام جميع أفرادها وتتحقق بإيجاد فرد واحد منها، لكن هذا ليس بلحاظ الوجود الخارجي بل بلحاظ مفهوم الوجود العنواني، فالطبيعة يعني مفهوم الطبيعة يتحقق ويوجد بإيجاد فرده وتنعدم هذه الطبيعة بإعدام جميع الأفراد والحصص.
هذا تمام الكلام في الأمر السابع.
الأمر الثامن تعدد الامتثال أو تبديله يأتي عليه الكلام.