46/04/11
الدرس (مائة وسبعة وسبعون): التعدد يثبت لخصوص موضوع القضية
الموضوع: الدرس (مائة وسبعة وسبعون): التعدد يثبت لخصوص موضوع القضية
الأمر الخامس إن التعدد يثبت لخصوص موضوع القضية، وليس لأي موضوع اتفق.
ذكرنا أن مقتضى القاعدة المنضبطة، هو ثبوت التعدد والانحلال بالنسبة إلى الموضوع، وعدم ثبوت التعدد بالنسبة إلى المتعلق.
فإذا قال المولى: «أكرم العالم» فبلحاظ المتعلق أي متعلق الطلب وهو الإكرام لا يوجد إلا إكرام واحد، ولا يتعدد الإكرام، وبلحاظ موضوع الطلب، وهو «العالم» أي متعلق المتعلق، فالإكرام متعلق للطلب وقد تعلق بالعالم، فإن الحكم يتعدد وينحل بعدد أفراد العالم.
وقلنا إن السر في ذلك: أن متعلق المتعلق وهو الموضوع كالعالم يفرض مقدر الوجود قبل الطلب والحكم، بخلاف المتعلق فإنه لا يفرض مقدر الوجود، ولا يتحقق المتعلق إلا إذا تحقق الطلب.
ثم عمقنا أكثر، وقلنا: إن الموضوع ينحل إلى قضية شرطية، بخلاف النسبة بين الحكم والمتعلق فإنه لا ينحل إلى قضية شرطية.
في الأمر الخامس نقول: إن هذا التعدد والانحلال الذي ثبت للموضوع فالحكم والطلب ينحل بعدد أفراد الموضوع لا يثبت إلا لخصوص الموضوع الحقيقي الذي يشكل موضوع القضية الحملية، ولا يشمل متعلق المتعلق الذي لا يشكل موضوعاً للقضية.
مثال ذلك:
لو قال المولى: «أكرم العالم في المسجد» فهنا طلب، وهنا متعلق للطلب، وهو «الإكرام»، وموضوعٌ وهو «العالم» الذي يشكل متعلق المتعلق، ويوجد شيء ثالث وهو «المسجد»، ونسميه أيضاً بمتعلق المتعلق، لأن المتعلق هو الإكرام، والإكرام أيضاً تعلق بالمسجد، يعني العالم في المسجد، فإذاً المسجد متعلق بالمتعلق الذي هو الإكرام، لكن العالم هو موضوع القضية، تقول: «العالم يجب إكرامه»، العالم موضوع حقيقي، يجب إكرامه هو المحمول، تقول: «العالم يجب إكرامه في المسجد»، العالم متعلق المتعلق، والمسجد أيضاً متعلق المتعلق، لكن العالم هو موضوع حقيقي لهذه القضية الحملية، بخلاف المسجد فإنه متعلق المتعلق، لكنه لا يشكل موضوعاً رئيسياً وأساس في الجملة الحملية، فهذا موضوع وهذا موضوع، هذا متعلق المتعلق وهذا متعلق المتعلق.
فحينما نقول: إن الطلب والحكم يتعدد بالنسبة إلى الموضوع لا يراد أي موضوع وأي متعلق متعلق كيفما اتفق، بل يراد به خصوص متعلق المتعلق الذي يشكل الموضوع الأساسي والرئيسي للقضية الحملية، لا الموضوع الثانوي والفرعي، المسجد موضوع فرعي، فرع وجود العالم في المسجد.
إذا ما ذكرناه من القاعدة المنضبطة من أن التعدد في طرف متعلق المتعلق أي الموضوع نريد به الموضوع الأساسي والرئيسي من قبيل العالم لا الموضوع الفرعي والثانوي من قبيل المسجد من المتعلقات والملابسات.
[ثمرة البحث]
ولهذا الآن نبين الثمرة: لو قال: «اغسل بالماء» فإنه لا يستفاد وجوب بكل ماء، بخلاف لو قال: «أكرم العالم» فإنه يجب إكرام كل عالم، لكن لو قال: «اغسل بالماء» يعني اغسل بماء ما ولا ينحل إلى وجوب الغسل بكل ماء.
إذاً الانحلال يستفاد من عالم الذي يشكل موضوع أساسي في قولنا: «أكرم العالم» لكن الانحلال لا يستفاد من الماء في قولنا: «اغسل بالماء» فالماء والعالم، وإن كان كل منهما متعلقاً للمتعلق لكن رغم هذا يحصل الانحلال والتعدد في العالم ولا يحصل الانحلال والتعدد في الماء وأفراد الماء.
فما هي نكتة الفرق بينهما؟ أي بين متعلق المتعلق الذي يشكل الموضوع الرئيسي، مثل: لفظ العالم في «أكرم العالم»، وبين متعلق المتعلق الذي هو من باب الملابسات والأمور الفرعية والثانوية كـلفظ الماء في قولنا: «اغسل بالماء».
والسر في ذلك:
أن موضوع الرئيسي ينحل فيه الحكم ويمكن تأليف قضية شرطية، بخلاف الموضوع غير الرئيسي أو متعلق المتعلق الذي هو من قبيل الملابسات فإنه لا يمكن أن تتشكل منه قضية شرطية.
إذاً القضية بلحاظ الموضوع الأساسي والأصلي والرئيسي تنحل إلى قضية شرطية ينحل فيها الموضوع ويؤخذ شرطاً فالموضوع يؤخذ كشرطٍ مقدر الوجود ومفروغاً عنه في القضية الشرطية، فإذا قيل: «أكرم العالم» تنحل إلى قضية، إذا كان هذا عالماً فأكرمهم، إذا وجد العالم فأكرمه، فالموضوع وهو العالم يشكل الشرط في القضية الشرطية التي يكون الشرط فيها مفروض الوجود «إذا وجد العالم فأكرمه»، ولا نستفيد من جملة «أكرم العالم» ووجوب إيجاد العالم فيجب خلقه وإيجاده، وبالتالي يجب إكرامه، لأن هذا الخطاب مفاده عرفاً قضية شرطية أخذ فيها العالم مفروغاً عنه.
وهذه القضية الشرطية هي التي أوجبت تعدد الحكم بتعدد الموضوعات، لأن فعلية الجزاء فرع فعلية الشرط، فإذا وجد الشرط وأصبح فعلياً في الخارج وجب الجزاء، لأن فعلية الجزاء وجواب الشرط فرع فعلية الشرط، وتكثر الجزاء فرع تكثر الشرط.
هذه النكتة إن الموضوع يتعدد ومرجعه إلى قضية شرطية، الشرط فيها مقدر الوجود وهو الموضوع، وإذا تعدد الشرط والموضوع تعدد الجواب والجزاء، فينحل الحكم ويتعدد الحكم بتعدد شرطه وموضوعه، هذه النكتة: انحلال الموضوع الحقيقي إلى قضية شرطية غير موجودة في متعلق المتعلق الذي من قبيل الأمور الثانوية والملابسات.
إذاً انحلال الموضوع إلى قضية شرطية، تأتي في خصوص الموضوع الحقيقي للقضية الحملية، من قبيل العالم في قولنا: «أكرم العالم» ولا تأتي في متعلق المتعلق في الأمور الثانوية من قبيل الماء في قولنا: «اغسل بالماء» فإنه لا يفهم منها أن الماء أخذ مفروغاً عنه، لذلك لا تنحل إلى قضية شرطية شرطها «الماء» بحيث تقول: «إذا وجد الماء فاغسل به» ما نفهم هكذا، إذا وجد الماء فاغسل به، نفهم منها اغسل بماء ما، وليس إذا وجد الماء فاغسل به.
ولذلك لو فرض انعدام الماء مع إمكان إنتاجه وتوليده فهذه القضية لا تقتضي أن نولد الماء حتى نغسل به.
وبعبارة أدق:
إن الماء مقدمة وجود، وليست مقدمة وجوب، إذاً لا ينحل هذا الخطاب إلى قضية شرطية بلحاظ الماء.
خلاصة الأمر الخامس:
إن الانحلال والتعدد في طرف الموضوع إنما هو من شؤون القضية الشرطية، ومن شؤون نسبة الحكم ومن شؤون الحكم هو ماذا؟ نسبة الحكم إلى الموضوع، ونسبة الحكم إلى الموضوع كـنسبة الجزاء إلى الشرط، وهذا إنما يكون في الموضوع الرئيسي في القضية الحملية، ولا يكون مع كل متعلق متعلق من قبيل الماء في خطاب اغسل بالماء.
لذلك العرف لا يحول «اغسل بالماء» إلى قضية شرطية بخلاف «أكرم العالم» فإن العرف يحولها إلى قضية شرطية، فالعرف يفهم الانحلال في لفظ «العالم» في عبارة «أكرم العالم»، ولا يفهم الانحلال بالنسبة إلى الماء في عبارة «اغسل بالماء».
هذا تمام الكلام في الأمر الخامس.
الأمر السادس:
الفرق بين الأمر والنهي إنما يكون بلحاظ سنخ الامتثال.
تطرقنا فيما سبق، وقلنا: إن الأمر بلحاظ الموضوع يوجب الانحلال والتعدد، وبلحاظ المتعلق لا يوجب الانحلال، ثم قارنا بين الأمر والنهي بلحاظ المتعلم، وقلنا إنهما من وزان واحد، فكما أن الأمر لا يوجب التعدد بالنسبة إلى المتعلق، كذلك النهي لا يوجب التعدد بالنسبة إلى المتعلق، إلا إذا وجدت قرينة على الخلاف اقتضت ثبوت التعدد.
ولكن على الرغم من كون الأمر والنهي لا يوجبان التعدد بلحاظ المتعلق، لكن يوجد فرق بين الأمر والنهي في حدود اقتضائهما بلحاظ عالم امتثال لا بلحاظ عالم الخطاب والألفاظ.
ومن الواضح أن مرتبة عالم الامتثال متأخرة عن مرتبة عالم الألفاظ، ففي عالم الألفاظ نلحظ مقتضى طبيعة اللفظ والظواهر، ومرتبة عالم الامتثال متأخرة عن عالم ظاهر اللفظ.
ومن الواضح أنه في عالم الامتثال يكفي في امتثال الأمر الإتيان بفرد واحد، فإذا قال: «صلّ» تكفي صلاة واحدة، بخلاف امتثال النهي فإنه لا يتحقق الامتثال إلا بإعدام تمام أفراده، فإذا قال: «لا تشرب الخمر» فلابد أن يترك شرب جميع حصص الخمر.
وهذا الكلام بالنسبة إلى عالم الامتثال وأن الأمر بدلي والنهي شمولي هذا مطلب آخر غير مسألة وحدة الحكم، فالحكم في الأمر والنهي واحد وليس متعدداً، يعني لا توجد عدة نواهي عن الخمر، نهي واحد، فالحكم واحد، والأمر بالصلاة أيضاً واحد، وإنما الفرق بلحاظ سنخ الامتثال، هذا هو الأمر السادس.
والسر في ذلك:
أن الأمر إيجاد للطبيعة والنهي إعدام للطبيعة، ويكفي في إيجاد الطبيعة إيجاد حصة على نحو البدل، ولا يكفي في إعدام الطبيعة إعدام حصة واحدة، بل لابد من إعدام جميع الحصص.
وقد أعتقد جماعة من المتأخرين أن هذا المطلب أنه البدلية والشمولية مبني على مسألة فلسفية غير صحيحة، فهو إذا غير صحيح، فإنه لا يتعقل أن وجود الطبيعة يكفي فيه فردٌ، فلو قال: «أكرم العالم ولا تكرم الفاسق» ففي الأمر بلحاظ المتعلق يوجد وجوب واحد وبلحاظ الموضوع يوجد وجوبات متعددة بتعدد العلماء، إذا ما يكفي الإتيان بفرد واحد الإتيان بجميع الأفراد.
وفي النهي بلحاظ المتعلق وهو «الإكرام» فإن مقتضى طبع القضية لو لم يكن هناك نكتة أخرى هو أن يوجد تحريم واحد لا تحريمات متعددة، وبلحاظ الموضوع وهو الفاسق يوجد تحريمات متعددة، فكل فاسق هو له حرمة خاصة به، لكن ليس لكل فاسق تحريمات متعددة، بل حرمة واحدة.
بالتالي لو عصى وأكرمه مرة تسقط الحرمة ولا تبقى حرمة أخرى متعلقة به بناء على هذا المبنى.
إذاً الأمر والنهي متفقان في المتعلقات والموضوعات.
لكن هذا كلام ليس بصحيح لأن الفرق بين الأمر والنهي ليس في أن الطبيعة توجد بفرد واحد أو لا؟
الكلام بلحاظ عالم الامتثال فبعد وجود وجوب واحد وتحريم واحد، نحن نسلم أن الطلب واحد «أكرم العالم» هذا وجوب واحد «لا تكرم الفاسق» هذه حرمة واحدة، هنا كيف نمتثل للوجوب؟ وكيف نمتثل النهي؟ فالوجوب في مقام امتثاله يكتفى بالإتيان بفرد واحد، لأن الطبيعة توجد بوجود أحد أفرادها، وأما التحريم الواحد لا يكتفى في امتثاله بالإتيان بفرد واحد، بل لا يتحقق الترك إلا بترك جميع الأفراد وإعدام جميع الحصص، لأن الطبيعة لا تعدم إلا بانعدام جميع أفرادها.
وهذا الفرق بين الأمر والنهي لا يرتبط بـباب دلالة اللفظ ولا بـباب مقدمات الحكمة، وإنما يرتبط بحقيقة أن الوجوب إيجاد والتحريم إعدام، والإيجاد يكفي فيه إيجاد حصة أو فرد واحد، والإعدام يعني إعدام الطبيعة لا يتحقق إلا بإعدام جميع الحصص الموجبة لتحقق الطبيعة.
فالطبيعة توجد بفرد واحد، ولا تنعدم إلا بانعدام تمام الأفراد.
هذا تمام الكلام في الأمر السادس.
والخلاصة:
أن الأمر والنهي لا يتعددان بلحاظ المتعلق، لكننا نستفيد أن الأمر بدلي والنهي شمولي، بلحاظ سنخ الامتثال إذ أن إيجاد الطبيعة يتحقق بإيجاد فردٍ، وإعدام الطبيعة يتحقق بإعدام جميع الأفراد، والله العالم.
الأمر السابع يأتي عليه الكلام.