« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

46/04/08

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائة وخمسة وسبعون): قاعدة التمييز بين الموضوعات والمتعلقات تجري في الإخبار

الموضوع: الدرس (مائة وخمسة وسبعون): قاعدة التمييز بين الموضوعات والمتعلقات تجري في الإخبار

 

الأمر الرابع: أن قاعدة التمييز بين الموضوعات والمتعلقات كما تجري في الإنشاء تجري في الإخبار.

كل ما أسسناه في باب الأوامر والنواهي من التعدد في طرف الموضوع وعدم التعدد في طرف المتعلق، إنما كان في باب الإنشاء والأوامر والنواهي.

وكما يجري في باب الإنشاء يجري أيضاً في باب الإخبار ولا يختص بباب الإنشاء فكما أن للإنشاء متعلقاً وموضوعا كما في قولك: «أكرم العالم» فإنشاء الوجوب له متعلق وهو الإكرام، وله موضوع هو العالم الذي هو متعلق المتعلق.

فكذلك في الجملة الخبرية يوجد إنشاء ومتعلق، فإذا قلت: «العالم نافعٌ» هنا يوجد متعلق وهو النفع، ويوجد موضوع وهو العالم، وإذا حللنا القضية الخبرية تكون نسبة العالم إلى الإخبار كنسبة العالم إلى الإنشاء، فكما أن العالم في الإنشاء في قولنا: «أكرم العالم» أخذ مفروغاً عن وجوده كذلك العالم في الإخبار في قولك: «العالم نافع» أخذ مفروغاً عن وجوده في المرتبة السابق.

فجملة «أكرم العالم» قد فرغت عن وجود العالم ودعت إلى إكرامه، وجملة «العالم نافع» فرغت عن وجود العالم وأخبرت بوجود النفع فيه.

بمعنى أن الذي يقول: «العالم نافع» لا يريد الإخبار عن أصل وجود العالم، بل إذا وجد العالم أخبرك بوجود النفع فهو نافع واستفد منه، فيكون مراد المخبر من الإخبار هو الإخبار عن نفع العالم لا عن أصل وجود العالم.

فما هو بصدد الإخبار عنه هو ثبوت النفع للعالم لا أصل وجود العالم، وهذا تماما أيضاً موجود باب الإنشاء فمن يقول: «أكرم العالم» لا يريد إيجاد العالم، العالم موجود، بل يريد إنشاء الإكرام للعالم الموجود.

إذاً نسبة النفع إلى الإخبار كـنسبة الإكرام إلى الطلب، ونسبة العالم إلى الإخبار نسبة العالم إلى الإنشاء.

وبعد تطابق النسبتين في الإنشاء والإخبار معاً، لابد وأن تكون النتيجة واحدة، فعندما نقول: «العالم نافع» نرى أن هذا الإخبار بلحاظ العلماء انحلالي، بمعنى أن هذا العالم نافع، وهذا العالم نافع، وذاك العالم نافع.

وأما بلحاظ متعلق الإخبار وهو النفع، فلا انحلال فيه ولا تعدد فيه، بل جملة «العالم نافع» يثبت وجود نفع ما في العالم، ولا يثبت جميع المنافع للعالم، ولا يثبت كل المنافع للعالم، فعبارة «العالم نافعٌ» فبلحاظ الموضوع وهو العالم يوجد انحلال وتعدد أي كلما وجد العالم وجد النفع، وبلحاظ المتعلق وهو النفع لا يوجد انحلال وتعدد بل يثبت نفعاً ما، وليس كل وجميع المنافع.

تماماً كما في «أكرم العالم» فكما كان الحكم بلحاظ الموضوع متعدداً فيجب إكرام جميع العلماء، وبلحاظ المتعلق متحداً فلا يجب إلا إكرام واحد، بمعنى أن أكرم العالم لا يقتضي إكرامات متعددة، هذا في الإنشاء.

فكذلك في الإخبار «العلم نافع» أي أن كل عالم له نصيبٌ من النفع، فكل عالم يكون نافعاً، فهناك انحلال من جهة الموضوع وهو العالم، ولا يوجد انحلال وتعدد من جهة المتعلق وهو النفع، فالنفع هو متعلق الإخبار ولا يكون متعدداً، بمعنى أنه ليس كل نفع ثابت للعالم يعني ليس جميع المنافع ثابتة للعالم، بل غاية ما يفيد وجود وثبوت منفعة ما.

إلى هنا وصلنا إلى هذه النتيجة:

حكم الإخبار والإنشاء واحد في المتعلقات والموضوعات، فالإنشاء والإخبار بالنسبة إلى الموضوع كالعالم تعددي وانحلالي، وبالنسبة إلى المتعلق غير انحلالي ولا يفيد التعدد كـالإكرام الذي هو متعلق الإنشاء، والنفع الذي هو متعلق الإخبار عن العالم.

سؤال: ما هو السر في أن الإنشاء والإخبار يثبت التعدد والانحلال بالنسبة إلى الموضوع ولا يثبت التعدد والانحلال بالنسبة إلى المتعلق؟

الجواب: الكلام هو الكلا، والجواب هو الجواب، فالموضوع أخذ مفروغاً عنه قبل الإنشاء وقبل الإخبار، والمتعلق لم يؤخذ مفروغاً عنه قبل الإنشاء وقبل الإخبار.

مثال ذلك: «أكرم العالم» في الإنشاء، و«العالم نافع» في الإخبار، فالعالم موجود في الخارج قبل إنشاء كلمة «أكرم العالم»، وقبل الإخبار بـكلمة وجملة «العلم نافع»، بخلاف المتعلق وهو «الإكرام» في الإنشاء بجملة «أكرم عالم» فإنه قبل الطلب وقبل إيجاب لا يوجد متعلق «الإكرام» إذ أن المتعلق فرع ثبوت الطلب، فثبت العرش ثم النقش، أولاً اطلب ثم يتحقق المتعلق، والطلب واحد مدلولٌ عليه بصيغة «افعل» فمتعلقه واحد، وهو «الإكرام» ولا تعدد فيه.

وهكذا الكلام بالنسبة إلى متعلق الإخبار، وهو النفع في الجملة الخبرية «العالم نافعٌ»، فقبل الإخبار لا يوجد متعلق للإخبار، فثبت العرش ثم النقش، أولاً اخبر، ثم تكلم عن أن هذا الإخبار قد تعلق بماذا؟ هل بالنفع أو غيره؟

الخلاصة:

في الجملة الخبرية والإنشائية يكون الموضوع موجوداً ومتقدماً قبل الإنشاء والإخبار، والموضوع الموجود متعدد في الخارج، فينحل الإنشاء والإخبار بعدد أفراد الموضوع الموجود خارجاً، بينما المتعلق في إنشاء والإخبار لا يكون موجوداً خارجاً، ولا تقول: إن الإكرام والنفع موجودان في الخارج قبل الإنشاء والإخبار.

والجواب: ليس كلامنا عن مطلق الإكرام ومطلق النفع، بل كلامنا عن الإكرام الذي وقع متعلقاً للطلب، وكلامنا عن النفع الذي وقع متعلقاً للإخبار، والمتعلق فرعٌ، والطلب مفرع عليه، وثبت العرش ثم النقش، أولاً الإنشاء والإخبار، ثانياً متعلق الإنشاء والإخبار.

إذاً السر في أن الموضوع انحلالي وتعددي في الإخبار والإنشاء، وأن المتعلق غير تعددي وغير انحلالي في الإنشاء والإخبار، هو أن الموضوع متقدم، وقد أخذ مفروغاً عن وجوده في مرتبة سابقة على الإنشاء والإخبار، وهذا بخلاف المتعلق فهو لم يؤخذ مفروغاً عنه في المرتبة السابقة.

ولنعمق أكثر هذا الفارق، فنقول:

إن كلاً من الإخبار، كقولنا: «العلم نافع»، والإنشاء، كقولنا: «أكرم العالم» يحتوي على نسبتين ولحاظين أي بلحاظ الموضوع وبلحاظ المتعلق، فمن حيث نسبة الإخبار إلى الموضوع ونسبة الإنشاء إلى الموضوع تتحقق قضية شرطية، ولكن نسبة الإنشاء والإخبار إلى المتعلق لا تتحقق فيه قضية شرطية، فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأول نسبة الإنشاء والإخبار إلى الموضوع.

المقام الثاني نسبة الإنشاء والإخبار إلى المتعلق.

ولنشرع في المقام الأول نسبة الإنشاء والإخبار إلى الموضوع، كما في قولك: «أكرم العالم» في الإنشاء، و«العالم نافع» في الإخبار، فهاتان القضيتان تكونان قضية شرطية، ففي «أكرم العالم» نسبة الوجوب إلى العالم هي نسبة الجزاء إلى الشرط، فكأنه قال: «إذا وجد العالم فأكرمه»، وفي الجملة الخبرية «العالم نافع» يكون نسبة الإخبار إلى العالم أيضاً نسبة الجزاء إلى الشرط، فكأنه قال: «إذا كان هناك عالم فهو نافع».

والمخبر لم يتصدى لبيان وجود العالم لأنه واضحٌ بالوجدان، بل مقصوده إذا وجد العالم فأثبت له الإكرام في الإنشاء، وإذا وجد العالم فأخبرك بنفعه في الإخبار.

إذا المنشئ لم يتصدى لطلب إيجاد العالم بل مقصوده إذا وجد العالم فهو يجب إكرامه، والمخبر لم يتصدى لإيجاد العالم بل يقول إذا العالم موجود فأخبرك أنه نافع.

هذا تمام الكلام في المقام الأول نسبة الخبر والإنشاء إلى الموضوع وهذا يشكل قضية شرطية.

المقام الثاني نسبة الخبر والإنشاء إلى المتعلق، وهذا لا يشكل قضية شرطية، فليس نسبة المتعلق إلى الإخبار والإنشاء نسبة الجزاء إلى الشرط، إذ لا يعقل أن يقول: «إذا وجد الإكرام خارجاً فيجب» هذا في الإنشاء، و«إذا وجد النفع خارجاً فأخبرك بوجود النفع» هاتان القضيتان الشرطيتان لا يصحان، فلا يصح أن تقول: «إن وجد الإكرام خارجاً فيجب» إذ لا معنى لإيجابه بعد فرض وجوده، فالإنشاء بالنسبة إلى المتعلق يستحيل أن يكون قضية شرطية.

وهذا في مجال الإخبار أيضاً بالنسبة إلى المتعلق فلا يمكن أن تنحل قضية «العالم نافع» إلى قضية «إن وجد نفع للعالم فأنا أخبرك به» لأن هذا الإخبار يكون لغواً صرفاً، لأن هذه القضية ضرورية بشرط المحمول هذه تصير على وزان هذه القضية «إن كان الشيء موجوداً فهو موجود» فهو موجود كلام زائد.

وهكذا تقول: «إن كان النفع موجوداً فهو موجود» إن كان هناك نفع فهو نفع بالضرورة، هذا ليس بإخبار، إذاً الإنشاء والإخبار بالنسبة إلى المتعلق لا يكونان قضية شرطية.

والحاصل والخلاصة:

إن الإخبار والإنشاء يشكل فيهما قضية شرطية بلحاظ الموضوع وأما بلحاظ المتعلق يستحيل تشكل هذه القضية الشرطية، وهذا هو ميزان الفرق بين الموضوع والمتعلق، من حيث أن الإنشاء والإخبار حين ينسب إلى الموضوع يتعدد بتعدد الموضوع خارجاً، وحين ينسب إلى المتعلق لا يتعدد بتعدد المتعلق خارجاً، لأن الموضوع سواءً كان في جملة خبرية أو إنشائية فهو قد أخذ شرطاً في القضية الشرطية المنحلة من الإخبار والإنشاء.

ومعنى أخذه شرطاً أن المتكلم غير متصدي لتحقيق هذا الشرط، وإنما أوكل تشخيص ثبوت الشرط وعدمه إلى المكلف، وإلى المستمع لكي يطبقه على المصاديق الخارجية.

وحينئذٍ المكلف أو المستمع في مقام التطبيق، إذا وجد المكلف أن هذا الشرط له مصاديق متعددة، فكلما طبقه على شرط اقتضى ثبوت الجزاء له، إما جزاءً إنشائياً وهو الإكرام، وإما جزاءً إخبارياً وهو الإخبار بالنفع، لأن الخطاب قضية شرطية والشرط فيها مفروغٌ عنه، وهو وجود العالم، فلابد أن يكون الجزاء تابعاً في فعليته لفعلية الشرط، فإذا كان للشرط فعليات متعددة، علماء مختلفة ومتعددة، فلابد أن يكون للجزاء فعاليات متعددة خارجاً تبعاً لفعلية الشرط، وهذا هو معنى الانحلال والتعدد في باب الإخبار والإنشاء.

الخلاصة ـ يا أخي ـ خلاصة الكلام الزبدة العصارة:

الإنشاء والإخبار يوجب التعدد بلحاظ الموضوع، وعدم التعدد بلحاظ المتعلق.

والسر في ذلك: أن الموضوع قد أخذ مفروغاً عن وجوده قبل الإنشاء والإخبار، بخلاف المتعلق فلم يفرغ عن وجوده بعد الإنشاء والإخبار، ثم عمقنا ذلك، وقلنا: إن الإنشاء والإخبار بالنسبة إلى الموضوع يشكل قضية شرطية، وبالنسبة إلى المتعلق لا يشكل قضية شرطية، فقولنا: «أكرم العالم ـ العالم نافع» بالنسبة إلى الموضوع وهو العالم تتشكل قضية شرطية، إذا وجد العالم فأكرمه في الإنشاء، وفي الإخبار إذا وجد العالم فأخبرك أنه نافع.

ولكن بالنسبة إلى المتعلق لا تتشكل قضية شرطية فالمتعلق في «أكرم العالم» وهو الإنشاء هو ماذا؟ هو الإكرام، ما تتشكل قضية شرطية، يعني إذا وجد إكرام، ما موجود هذه القضية، فيجب عليك أن تكرم، إذا وجد كيف يجب عليك أن تكرم؟!

وهكذا بالنسبة إلى القضية الخبرية «العلم نافع»، والكلام بالنسبة إلى الإخبار ونسبته إلى المتعلق، فلا تصح هذه القضية الشرطية، إذا وجد النفع فأخبرك بوجود النفع.

إذا يتضح أن قاعدة التمييز بين الموضوعات والمتعلقات، كما تجري في الجمل الإنشائية تجري في الجمل الخبرية، وما ذكرناه من الفرق بين الأمر والنهي حال الامتثال يأتي أيضاً حال الإخبار إثباتاً والإخبار نفياً، فإنه حينما يخبر إثباتاً ويقول: «العالم موجود» فلا يدل على أكثر من وجود فرد من العالم، وحينما يقول: «العالم غير موجود» يدل على انتفاء تمام أفراد الطبيعة.

هذا تمام الكلام في الأمر الرابع، الخلاصة: الضابطة في الإنشاء والإخبار واحد، فالإخبار والإنشاء بالنسبة إلى الموضوع يشكل قضية شرطية، ويكون الموضوع مفروغ عن وجوده قبل الإنشاء والإخبار فيحصل التعدد نتيجة تعدد وجود الشرط.

وأما الإخبار والإنشاء بالنسبة إلى المتعلق فلا يفرغ عن وجود المتعلق قبل الإنشاء وقبل الإخبار، بل المتعلق يوجد بعد تحقق الإنشاء والإخبار، وبالتالي لا تتشكل قضية شرطية، فلا يفرض الشرط محقق الوجود ومفروض الوجود، فلا يحصل تعدد ولا يحصل المتعلق إلا بعد حصول الشرط أو الإنشاء.

هذا تمام الكلام في الأمر الرابع.

الأمر الخامس يأتي عليه الكلام.

logo