46/04/05
الدرس (مائة وخمسة وسبعون): ضابطة وحدة الحكم وانحلاله وتعدده
الموضوع: الدرس (مائة وخمسة وسبعون): ضابطة وحدة الحكم وانحلاله وتعدده
يمكن أن تذكر عدة أمور لمعرفة أن هذا الحكم هل يتعدد وينحل إلى أحكام متعددة أم أنه حكم واحد لا يتعدد ولا ينحل؟
من هنا لا بأس ببيان عدة أمور:
الأمر الأول أن الحكم بلحاظ متعلقه واحد وبلحاظ موضوعه متعدد، ومنشأ الوحدة والتعدد ليس هو الإطلاق اللفظي أو مقدمات الحكمة، بل منشأ ذلك هو فعلية المجعول والتطبيق الخارجي.
توضيح ذلك:
نسأل هذا السؤال: لماذا الحكم بلحاظ موضوعه يكون شمولياً وبلحاظ متعلقه يكون واحد؟
فإذا قال المولى: «أكرم العالم» فإن هذا الحكم وهو الوجوب واحد بلحاظ «الإكرام» الذي هو متعلق الوجوب، ولا يجب تعدد الإكرام، بخلاف الموضوع هو «العالم» الذي هو متعلق المتعلق، فإن الوجوب ينحل ويتعدد إلى عدة وجوبات بعدد أفراد الموضوع الذي هو «العالم».
ومثل هذا السؤال ظهر جوابه مما تقدم، وقد تبين أن تعدد الحكم في طرف الموضوع، وعدم تعدد الحكم في طرف المتعلق ليس من شؤون الإطلاق ومقدمات الحكمة، بل وظيفة الإطلاق ومقدمات الحكمة تشخيص حدود الطبيعة التي لاحظها المولى متعلقاً وموضوعاً، فإن مقتضى مقدمات الحكمة أن اللحاظ المولوي قد تعلق بالطبيعة بلا قيدٍ، وهذا معنى الإطلاق، فنقول: إن جعل المولى للوجوب قد تعلق بطبيعة «الإكرام» من دون قيد الوحدة أو التعدد، وقد تعلق أيضاً بطبيعة «العالم» من دون قيد الوحدة أو التعدد، فإن مقدمات الحكمة دخيلة في تشخيص مدلول الخطاب عرفاً.
ومن الواضح أن مدلول الخطاب عرفاً إنما هو جعل الحكم أي جعل الوجوب في مثالنا، وفي مرحلة جعل الحكم لا تعدد للحكم أصلاً بل هو جعل واحد، وإنما التعدد وعدمه من شؤون عالم فعلية المجعول، أي عالم تطبيق الموضوع على الخارج، وعالم تطبيق المتعلق على الخارج.
وفي مرحلة التطبيق يوجد التعدد بلحاظ الموضوع ولا يوجد التعدد بلحاظ المتعلق، لأن المتعلق كـالإكرام في قولنا: «أكرم العالم» لا يكون متعلقاً قبل ورود الجعل والوجوب، فقبل جعل الجاعل ووضع المولى للوجوب لا يوجد متعلق في مرحلةٍ سابقة، وبما أن الجعل واحد فقد تعلق بمتعلق واحد، إذاً في المرتبة السابقة على التطبيق لا وجود للمتعلق، ولكن «العالم» الذي موضوع موجودٌ.
إذاً في المرتبة السابقة على مرحلة التطبيق يتعدد الموضوع خارجاً، فيكون هناك تطبيقات عديدة للعنوان الفاني، وهو عنوان العالم على المفني فيه وهو الخارج، فعنوان العالم فاني والمفني فيه الخارج، وبتبعه يتعدد الحكم، وهذا بخلاف المتعلق فهو لا يتعدد وجوداً بحسب الخارج في المرحلة السابقة على فعلية الحكم والتطبيق لأن وجود المتعلق من تبعات وجود الحكم، فالمتعلق ليس بثابتٍ قبل فعلية الحكم، إذاً لا مجال لتطبيقات متعددة للفاني، وهو عنوان «الإكرام» على وجوده الخارجي.
الخلاصة:
التعدد والوحدة لا يستفادان من الإطلاق ومقدمات الحكمة، فمقدمات الحكمة تفيد أن هذه الطبيعة من دون قيد، لكن قيد الوحدة والتعدد يستفاد من فعلية المجعول، يعني من فعلية الحكم المجعول، يعني من تطبيق هذا الجعل على الخارج، فمتعلق الحكم لا وجود له قبل وجود الحكم، وبعد وجود الحكم «الحكم واحد» فالمتعلق واحد.
بخلاف الموضوع الذي هو متعلق المتعلق هو موجود قبل وجود الحكم، ووجوده متعدد، والحكم تابعٌ لموضوعه، فبتعدد الموضوعات تتعدد الأحكام.
إذاً التعدد في طرف الموضوع وعدم التعدد في طرف المتعلق إنما هو بلحاظ عالم التطبيق وعالم فعلية المجعول، وكلام المولى ناظر إلى عالم الجعل أو عالم المجعول؟ كلام المولى ناظرٌ إلى عالم الجعل لا إلى عالم الفعلية والمجعول.
إذا المولى قد يجعل حكماً ولا فعلية له في الخارج كقوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾[1] وقد لا يوجد المستطيع في الخارج، فمقدمات الحكمة تشخص كلام المولى في خصوص عالم الجعل، ولا علاقة لمقدمات الحكمة بالتعدد وعدمه، لأن التعدد يوجد في حقل وهو عالم المجعول وفعلية الحكم، وهذا الحقل غير الحقل الذي تجري فيه مقدمات الحكمة إذ حقلها عالم الجعل والتشريع، لا عالم فعلية المجعول والتطبيق، والامتياز بالتعدد أو الوحدة تم في عالم فعلية المجعول لا في عالم أصل الجعل والتشريع.
هذا تمام الكلام في الأمر الأول.
خلاصة الأمر الأول: مقدمات الحكمة حقلها عالم الجعل، التعدد وعدمه حقله فعلية المجعول، وفي عالم الفعلية قبل الحكم لا فعلية للمتعلق، وبعد فعلية الحكم المتعلق واحد.
لكن في الموضوعات قبل الحكم الموضوعات متعددة، وبعد جعل الحكم يتعدد الحكم فعلاً بتعدد موضوعاته، فالتعدد والوحدة من حقل عالم التطبيق وفعلية المجعول، وهذا بخلاف حقل مقدمات الحكمة، إذا حقلها عالم الجعل.
الأمر الثاني قلنا في «أكرم العالم» أن الوجوب بلحاظ «العالم» شمولي ومتعدد، وبلحاظ «الإكرام» بدلي فهو وجوب واحد على نحو البدل، لكن البدلية بلحاظ المتعلق، والشمولية بلحاظ الموضوع هنا، تختلف وتفترق عن البدالية والشمولية المستفادة من العموم الوضعي في باب العمومات.
توضيح ذلك:
في باب العموم اللفظي يوجد عموم بدلي ويوجد عموم شمولي استغراقي، فتارة يقول المولى: «أكرم بكل إكرام» فهذا عموم شمولي، وتارة يقول: «أكرم بأي إكرام» فهذا عموم بدلي، وتارة يقول: «أكرم كل عالم» فهذا عموم شمولي استغراقي، وتارة يقول: «أكرم أي عالم» فهذ عموم بدلي.
إذاً العموم البدلي والشمولي كما يقع في المتعلق كـالإكرام يقع أيضاً في الموضوع كـالعالم، وهذه الشمولية تستدعي تعدد الحكم، فهي متكثرة بعدد أفراد العالم، أو متكثرة بعدد أفراد الإكرام، وهذه البدلية تستدعي ثبوت حكم واحد لا أكثر.
[ما الفرق بين باب العمومات و بين باب الموضوع والمتعلق]
فمن هذه الناحية الشمولية والبدلية في العموم اللفظي كـالشمولية والبدلية في محل كلامنا، ولكن ما هو الفرق بينهما؟
الجواب: إن استفادة الشمولية والبدلية في العموم اللفظي، منشأها اللفظ والوضع اللفظي، أي أن المولى حينما تلفظ ادخل في لحاظه الشمولية أو البدلية، فالمولى في عالم جعل العموم لا يلحظ الطبيعة فقط بل يلحظ جميع الأفراد المندرجة تحت الطبيعة ويجعل الوجوب عليها.
ولذلك قد يكون عموم جميعي، وقد يكون عموم مجموعي، فقد يلحظ المجموع بحيث إذا انفك واحد انفك، وقد يلحظ الجميع أي جميع الأفراد المندرجة تحت الطبيعة.
فحينئذ تارةً يجعل الوجوب على جميع الأفراد، لكن على نحو البدل، وقد وضع لها أدوات في اللغة العربية، مثل لفظ «أي» فيقول: «أكرم بأي إكرام ـ أكرم أي عالم»، وتارة يلحظ الجميع لا على نحو البديل بل على نحو العموم الاستغراق فيقول: «أكرم كل عالم وبكل إكرام».
الخلاصة:
في العموم الوضعي اللفظي يكون منشأ العموم أو البدلية هو اللفظ الكاشف عن لحاظ المولى للبدلية أو الشمولية، بخلاف الشمولية والبدلية في موطن بحثنا إذ أننا لا نبحث في حقل عالم الجعل، بل نبحث في حقل عالم مجعول وتطبيق الحكم على الواقع الخارجي.
ومن هنا نقول:
إن الشمولية والبدلية على نحوين:
النحو الأول أن تكون الشمولية والبدلية منتزعتين، ومستخرجتين من نكتتين داخليتين، داخلتين تحت مدلول الخطاب عرفاً، فإن سنخ لحاظ المولى في البدلية يختلف عن سنخ لحاظ المولى في الشمولية والاستغراق.
وهذا النحو الأول هو عبارة عن الشمولية والبدلية في العمومات اللفظية.
النحو الثاني أن تكون الشمولية والبدلية أجنبية عن تشخيص لحاظ المولى وأجنبية عن المدلول اللفظي الوضعي، فلحاظ المولى واحد وهو الطبيعة لكن الشمولية والبدلية يستفادان من شؤون تطبيق الفاني على المفني فيه، تطبيق الفاني كعنوان «الإكرام» وعنوان «العالم» على المفني فيه وهو «الإكرام» خارجاً و«العالم» خارجاً، فالنحو الثاني هو عبارة عن الشمولية والبدلية بلحاظ الموضوعات والمتعلقات.
فنقول: لا وجود للمتعلق في الخارج قبل وجود الحكم فالمتعلق واحد، فيكون مأخوذاً بنحو البدل، إكرام بنحو البدل، بينما الموضوع كـالعالم متعدد في الخارج قبل مجيء الحكم والوجوب، وبمجيء الوجوب ينحل هذا الحكم بحسب تعدد موضوعاته، إذ الحكم تابع للموضوع، فينشأ العموم الاستغراقي والشمول.
خلاصته الزبدة:
منشأ الشمولية والبدلية في العموم اللفظي هو الوضع وعالم الجعل، ومنشأ الشمولية والبدلية فيما نحن فيه هو عالم التطبيق وفعلية المجعول، فمنشأ الشمولية في الموضوعات والبدلية في المتعلقات هو عالم التطبيق وفعلية المجعول، لا عالم الجعل والتشريع.
الأمر الثالث يوجد بين الأمر والنهي جهة اتفاق وجهة اختلاف.
أما جهة الاتفاق فالنهي كالأمر في قاعدة أن الحكم بلحاظ المتعلق بدلي وواحد، وبلحاظ الموضوع متعدد، ما لم تقم قرينة على الخلاف.
وأما جهة الاختلاف ففي الأمر غالباً لا توجد قرينة على الخلاف، وفي النهي توجد غالباً قرينة على الخلاف، وهي غلبة الانحلال والتعداد في المبادئ في جانب النهي، لأن:
منشأ النهي أحد نحوين:
النحو الأول أن يكون منشأ النهي عبارة عن المفسدة في الفعل.
النحو الثاني أن يكون منشأ النهي عبارة عن المصلحة في الترك.
فقول المولى: «لا تكذب» ينشأ إما عن مفسدة في الكذب، أو عن مصلحة في ترك الكذب، وفي كلتا الحالتين الغالب في المفاسد المتعلقة بالفعل، والمصالح المتعلقة بالترك، هو الانحلال والتعدد، بحيث يكون كل فعل أو كل ترك، بحسب الملاك موضوعاً للمفسدة أو موضوعاً للمصلحة.
وهذه الغلبة غير موجودة في الأمر، فإن الأمر بالشيء ينشأ إما من مصلحة في الفعل أو مفسدة في الترك، وليس الغالب في المصلحة المتعلقة بالفعل أو المفسدة المتعلقة بالترك هو التعدد، الغالب في شيء واحد يعني إذا أتيت بالصلاة فيها مصلحة، وإذا تركت هذه الصلاة فيها مفسدة، لا أنه المصلحة في الإتيان بكل صلاةٍ، بخلاف الكذب وشرب الخمر، المفسدة في كل شرب خمر.
إذاً نقطة الافتراق الغلبة موجودة في طرف النهي وليست موجودة في طرف الأمر، فتصبح هذه الغلبة قرينة عرفية ارتكازية في طرف النهي، على أن النهي متعددٌ بلحاظ متعلقه أيضاً، باعتبار أن هذه الغلبة ظاهرةٌ في أن النهي نشأ من ملاك انحلالي وتعددي، وهذا بعكس الأمر فإن هذه الغلبة غير موجودة في جانبه، فيبقى على مقتضى القاعدة، ومقتضى هو عدم التعدد في جانب المتعلق في الأوامر.
خلاصة الأمر الثالث ونختم:
وصلنا إلى هذه النقطة الأمر شمولي بلحاظ الموضوع وبدلي بلحاظ المتعلق، نأتي إلى هذا المتعلق في باب الأوامر وفي باب النواهي، المتعلق كـالإكرام في باب الأوامر، لا توجد قرينة على خلافه، فيبقى على مقتضى الأصل، الأصل في المتعلق أن يكون واحداً لا متعدداً، ما لم تقم قرينة على الخلاف، لكن في النواهي توجد قرينة على الخلاف، فإذا قال: «لا تكذب، لا تشرب الخمر، لا تزني» فإن المفسدة موجودة في كل متعلق متعلق، هذه الغلبة تشكل قرينة.
فيصير المتعلق في الأوامر غير شمولي بدلي، وفي النواهي شمولي واستغراقي، لنكتة الغلبة، هذا تمام الكلام في الأمر الثالث.
الأمر الرابع يأتي عليه الكلام.