46/04/04
الدرس (مائة وأربعة وسبعون): مقتضى المدلول الإطلاقي لصيغة الأمر
الموضوع: الدرس (مائة وأربعة وسبعون): مقتضى المدلول الإطلاقي لصيغة الأمر
المقام الثاني:
[المرة والتكرار]
مقتضى المدلول الإطلاقي لصيغة الأمر، هل هو المرة أو التكرار؟
انتهينا بحمد الله عزّ وجل من المقام، واتضح أن المدلول الوضعي لصيغة الأمر لا يدل على المرة، ولا يدل على التكرار، فقيد المرة أو التكرار لم يؤخذا كقيدٍ في المدلول الوضعي لصيغة أو مادة الأمر.
[البحث في المقام الثاني]
وفي المقام الثاني نبحث هل أن مقتضى الإطلاق وقرينة الحكمة هو المرة أو التكرار؟ أو لا هذا ولا ذاك؟ وسيتضح إن شاء الله تعالى أن مقتضى الإطلاق، وقرينة الحكمة طبيعة المادة من دون دخلٍ لقيد المرة أو قيد التكرار.
فكما أن المدلول الوضعي لصيغة الأمر لم يؤخذ فيه قيد المرة أو التكرار، وبحثناه في المقام الأول، كذلك مقتضى مقدمات الحكمة والإطلاق اللفظي هو التوجه إلى ذات الطبيعة، ومقدمات الحكمة لا تفيد قيد المرة ولا تفيد قيد التكرار.
[المرة والتكرار بالنسبة إلى موضوع الأمر]
لكننا قد نستفيد قيد المرة بالنسبة إلى متعلق صيغة الأمر، وقد نستفيد قيد التكرار والتعدد بالنسبة إلى متعلق المتعلق وهو الموضوع، لكن لأمر خارجٍ عن الإطلاق ومقدمات الحكمة، وهذا ما سنبحثه مفصلاً في المقام الثاني الذي هو دقيق وعميق جداً، فيرجى الانتباه.
إذاً بعد خروج خصوصية المرة والتكرار عن المدلول الوضعي للمادة والهيئة، يقع هذا السؤال:
ما هو مقتضى المدلول الإطلاقي لصيغة الأمر؟ كما لو قال المولى: «أكرم العالم» فالمدلول هو المرة أو التكرار؟ أو أنه ليس هناك قاعدة منضبطة، فإنه أحياناً يدل على المرة، وأحيانا يدل على التكرار؟
والصحيح في المقام: وجود قاعدة منضبط ولا يرفع اليد عنها إلا لنكتة أو قاعدة أخرى حاكمة عليها.
وحاصل القاعدة المنضبطة هو:
أولا: أن مقتضى الأمر بلحاظ المتعلق هو الوحدة وعدم التكرار هذا أولاً.
وثانياً: مقتضى الأمر بلحاظ الموضوع الذي هو متعلق المتعلق هو التكرار وتعدد الحكم.
ولنضرب مثالاً لذلك لتوضيح المطلب:
لو قال المولى: «أكرم العالم» فهنا يوجد فعل أمر وطلب جيء بصيغة «افعل» هذا أولاً، وثانياً يوجد المتعلق وهو الإكرام إذ أن الطلب قد تعلق بالإكرام، فالإكرام هو متعلق الطلب ومتعلق الأمر.
الثالث: متعلق المتعلق أي الموضوع إذ أن الإكرام متعلق، وقد تعلق بالعالم، فالعالم هو متعلق المتعلق أي أن الطلب قد تعلق بالإكرام، والإكرام الذي هو متعلق الطلب قد تعلق بالعالم، فالعالم هو متعلق المتعلق، أي موضوع الإكرام.
فهنا يوجد أمران:
الأول لحاظ تعلق الطلب بالمتعلق، الذي هو الإكرام.
الثاني لحاظ تعلق الطلب بالموضوع، الذي هو متعلق المتعلق.
أما الأمر الأول: ويقع الكلام في الأمر الأول، فإذا لوحظ الطلب بالنسبة إلى المتعلق أي الإكرام فإن المتعلق لا يطلب فيه التكثر والتعدد، فإذا قال: «أكرم العالم» فإنه لا يجب إكرام العالم بمختلف صنوف الإكرام كالسلام عليه وإطعامه وتقبيل جبهته وتقبيل يده وبيع كتبه وقراءة كتبه واستماع كلامه، من قال أنه يجب إكرام العالم بمختلف صنوف إكرام؟! يجب أن تأتي بفرد واحد فقط من أفراد الإكرام كالسلام عليه مثلاً أو تقبيل جبهته.
إذاً الأمر الأول لحاظ تعلق الطلب بالمتعلق، وحينئذ لا يشترط بل يكفي الإتيان مرة واحدة بالمتعلق.
أما الأمر الثاني: لحاظ تعلق الطلب بالموضوع أي متعلق المتعلق كالعالم في مثالنا، وحينئذ يتعدد الحكم بتعدد الأفراد، فيتعدد وجوب الإكرام بتكثر أفراد العالم، ولا تقل أُكرم عالم واحد والباقي ما يجب إكرامهم، فإذا لاحظنا الطلب «أكرم» بالنسبة إلى متعلق المتعلق أي «العالم» الذي هو موضوع، فإن الطلب يتعدد ويتكثر بتكثر الموضوعات، إذ أن الحكم تابعٌ لموضوعه، فلا يكفي في مقام امتثال «أكرم العالم» إكرام عالم واحد فقط، من دون إكرام بقية العلماء.
إذاً الخلاصة التي وصلنا إليها:
أولا: لحاظ الطلب بالنسبة إلى المتعلق كـ «الإكرام» لا يقتضي التعدد ولا يقتضي التكرار، بل يكفي إكرام واحد، طبقاً للفهم العرفي.
وثانياً: لحاظ تعلق الطلب بمتعلق المتعلق كالعالم الذي هو موضوع لوجوب إكرام يقتضي التكرار ويتعدد الحكم وهو وجوب الإكرام بتعدد موضوعه الذي هو العالم في المثال.
فما هو الوجه في لزوم التعدد بالنسبة إلى متعلق المتعلق، وعدم لزوم التعدد بالنسبة إلى المتعلق؟
قد يقال إن الملاك والعبرة في نوعية الإطلاق، فيقال: إن مقدمات الحكمة إذا جرت في المتعلق أوجبت الإطلاق البدلي، فيكتفى بحصة من الإكرام على نحو البدل، بينما مقدمات الحكمة إذا جرت بالنسبة إلى الموضوع أي متعلق المتعلق فإنها تنتج الإطلاق الشمولي المستغرق والشامل لجميع أفراد العالم.
إذاً السبب واحد، وهو مقدمات الحكمة، النتيجة مختلفة، فمقدمات الحكمة تنتج الإطلاق البدلي بالنسبة إلى المتعلق كـ «الإكرام» وتنتج الإطلاق الشمولي بالنسبة إلى متعلق المتعلق كـ «العالم» الذي هو موضوع لوجوب الإكرام.
فتصير هكذا مقدمات الحكمة إذا جرت في باب المتعلقات تنتج إطلاقاً بدلياً فهي في قوة قولنا «أكرمه إكراماً ما» وهذا وجوب إكرام بدلي، وفي باب الموضوعات تنتج إطلاقاً شمولياً في قوة قولنا: «أكرم كل عالم».
وفيه: إذاً كان السبب واحداً، وهو مقدمات الحكمة، كيف اختلفت النتيجة بالنسبة إلى المتعلق ومتعلق المتعلق؟ فكيف أعطت مقدمات الحكمة الإطلاق البدلي بالنسبة إلى المتعلقات، وأعطت الإطلاق الشمولي بالنسبة إلى متعلق المتعلق وهو الموضوع؟
جواب الإشكال: هذان الأمران استفادة الشمولية والبدلية أجنبيان عن مقدمات الحكمة، فلا التعدد بلحاظ الموضوع مستفاد من مقدمات الحكمة، ولا عدم التعدد بلحاظ المتعلق مستفاد من مقدمات الحكمة، بل مقدمات الحكمة لها وظيفة واحدة في كلا المطلبين تؤديها على وتيرة واحدة.
وحاصل هذه الوظيفة: هي أن الطبيعة قد لوحظت في عالم الجعل بذاتها وبلا قيد آخر، فمقدمات الحكمة تثبت خلو الطبيعة من أي قيد في عالم الجعل والتشريع، وهذا ثابت بالنسبة إلى المتعلق كـ «الإكرام» باعتباره متعلقاً، وبالنسبة إلى طبيعة «عالم» باعتباره موضوعاً، فمقدمات الحكمة تقول: انظر إلى طبيعة الإكرام من دون أي قيد، وانظر إلى طبيعة العالم من دون أي قيد.
وهذا ما قلناه في بداية المقام الثاني من أن مقتضى الإطلاق وقرينة الحكمة عدم إثبات التعدد كقيد وعدم إثبات الوحدة كقيد، فلا الوحدة ولا التعدد قد أخذا كقيدٍ، فالإطلاق لا يثبت التقييد لا يثبت التقييد بالوحدة أو التعدد.
ولو كان لبان، الإطلاق هكذا يقول: لو كان هناك قيدٌ بالوحدة، أو قيد بالتعدد، لبيين، وحيث لم يبين، إذاً المراد الطبيعة من دون أي قيد آخر، بمقتضى أصالة التطابق بين مقام الثبوت ومقام الإثبات.
إذاً يثبت بمقدمات الحكمة أن الوجوب ثابتٌ على طبيعة الإكرام متعلقاً، وعلى طبيعة العالم موضوعاً، وأما الانحلال والتعدد في جانب الموضوع وعدم الانحلال وعدم التعدد في جانب المتعلق، فهذا يستفاد بـبيان آخر غير مقدمات الحكمة، فالتفتوا إلى هذا البيان الذي يحتاج إلى دقة.
توضيح ذلك:
إن الوجوب المجعول في المقام له معروض بالذات مقومٌ له في أفق نفس الجعل، ومعروضه هذا هو الإكرام متعلقاً والعالم موضوعاً.
ففي قولنا: «أكرم العالم» توجد صورتان ذهنيتان في عالم الجعل والتشريع.
الصورة الأولى صورة الإكرام وطبيعته.
الصورة الثانية صورة العالم وطبيعته.
وهاتان الصورتان الذهنيتان مقيدتان للطلب الواحد، فهناك وجوب واحد استفيد من قوله: «افعل» لكن هذا الوجوب الواحد، هذا الأمر الواحد مقيد بقيدين وبصورتين ذهنيتين:
الأول مقيد بالمتعلق الذي هو «الإكرام» فليس هناك أمر بأي شيء وليس هناك طلب بأي شيء، بل هناك طلب واحد بصورة ذهنية واحدة، وهي: «الإكرام».
الثاني كما يوجد قيد ثاني وهو أن طلب الإكرام لم يتعلق بأي شيء وبأي موضوع، بل بموضوع واحد وبصورة ذهنية واحدة، وهي «صورة العالم».
الخلاصة:
الطلب والأمر والجعل والتشريع مقيدٌ بقيدين وبصورتين ذهنيتين:
الصورة الأولى للمتعلق كـالإكرام.
الصورة الثانية لي متعلق المتعلق كـالعالم.
سؤال: هل الطلب والأمر والجعل والتشريع يتعلق بـالإكرام وبـالعالم بما هما صورتان ذهنيتان محضتان أم بالصورة الذهنية بما هي كاشفة عن الخارج، وبما هي مندكة في الخارج؟
الجواب: الأحكام الشرعية ليست مجرد صور ذهنية ومفاهيم ذهنية كـالفلسفة، حينما يقول: يجب إكرام «يجب إكرام العالم» ناظر إلى العالم الموجود في الخارج، إذاً القيدان «الإكرام والعالم» هاتان صورتان ذهنيتان قيدتان، لكن لم يقيدا الطلب بما هما صورة ذهنية محضة، بل بما هما صورة ذهنية مندكة في الخارج وكاشفة عن الخارج.
ومن هنا يقع الكلام في الوجود الخارجي لـلإكرام والعالم قبل صيغة الطلب «افعل» ـ يلا خلك وياي مطلب دقيق لكن حلو يا حلو ـ:
سؤال: قبل مجيء الطلب صيغة «افعل» هل هناك إكرام أو لا؟ في الخارج يوجد إكرام أو لا؟
الجواب: لا يوجد إكرام قبل الصيغة، إذا جاءت الصيغة يتحقق المتعلق وهو الإكرام، فالمتعلق وهو الإكرام لا يسبق الطلب ولا يسبق الأمر لأن نفس كونه متعلق لا يتحقق إلا بعد الطلب.
فالكلام ليس في مطلق الإكرام، الكلام في الإكرام الذي هو متعلق للطلب، عنوان المتعلق وجوداً، لا يسبق الطلب أولاً يحصل الطلب «أكرم، افعل، أمرك» ثم يتحقق المتعلق.
وبالتالي الطلب واحد، له متعلق واحد، بخلاف متعلق المتعلق الذي هو «العالم» فقبل وجود الطلب، العالم موجود ومتكثر في الخارج، ومن هنا تنشأ أحكام متعددة ومنحلة حقيقة بحسب أفراد العالم، بمعنى أنه لا يوجد إلا جعل واحد، لكن هذا الجعل وهذا الحكم يتبع موضوعه، وبما أن الموضوع في الخارج متعدد فالحكم أيضاً متعدد.
إذاً تمام الفرق بين جانب الموضوعات وجانب المتعلقات هو أن الموضوع في مقام تطبيقه على الخارج قابل للتكثر في المرتبة السابقة على الجعل وعلى الوجوب، وبتبع تكثر الموضوع خارجاً يتكثر الطلب والوجوب تشريعاً، لأن الحكم يتبع الموضوع.
وأما المتعلق فحيث أنه غير قابل للتكثر في مقام التطبيق في المرتبة السابقة على الوجوب إذ قبل الوجوب لا إكرام في الخارج حتى يتكثر.
هذه قاعدة عام.
إذاً اتضح أن ملاك التكثر وعدم التكثر ليس هو جريان المقدمات مقدمات الحكمة والإطلاق سبب التكثر أنه قبل الجعل قبل التشريع هذا موجود أو غير موجود، وإذا موجود واحد أو متعدد، الإكرام الذي هو متعلق غير موجود قبل التشريع أولاً يأتي التشريع والطلب ثم يأتي المتعلق، ويتعلق بمتعلق واحد.
وأما بالنسبة إلى الموضوع الذي هو العالم في المثال فهو موجود قبل الطلب، ويشكل موضوعاً للطلب والحكم، وبتعدد الموضوعات تتعدد الوجوبات والأحكام.
هذه قاعدة عامة منضبطة في المتعلقات والموضوعات، وكما تجري في باب الأوامر تجري في باب النواهي، التكثر وتعدد الحكم زجراً وتحريماً في باب الأوامر كذلك في باب النواهي، فبلحاظ الموضوع يوجد تحريمات متعددة، وبلحاظ المتعلق لا يوجد تحريمات متعددة لعين النكتة السابقة.
نعم، تختلف الأوامر عن النواهي في شيء رغم تماثلها في وحدة الحكم، هذا الاختلاف في طريقة امتثال هذا الحكم، كما أشار إليه صاحب الكفاية، يراجع حاشية المشكيني، الجزء الأول، صفحة مائة وسبعة عشر، من أن الإيجاب الواحد للطبيعة يكتفى في مقام امتثاله بفرد واحد، وأما التحريم الواحد للطبيعة فلا يكتفى في امتثاله إلا بترك جميع الأفراد، فالإطلاق في النهي شمولي، وفي الأمر بدلي.
هذا تمام الكلام في هذه النكتة يبقى بيان وتوسيع أكثر لهذه الضابطة، يأتي عليه الكلام.